icon
التغطية الحية

خالد خليفة.. كما لو أنك المُراسِل الخفي بين الحرير والحريق (إن للدمعة دمعة أكبر)

2024.09.12 | 14:27 دمشق

5675675
مازن أكثم سليمان
+A
حجم الخط
-A

الكتابَةُ (عمَلٌ شاقٌّ) يا خالد، هذا ما أشعُرُ بهِ الآنَ، وأنا أُحاوِلُ أنْ أبدأَ بخطِّ هذهِ السُّطورِ عنْكَ.. 
هل أقولُ: (عمَلٌ شاقٌّ)، و(عنْكَ)؟
يا إلهي ما هذهِ الورطة المُتشظِّيَة بينَ الحياةِ والموتِ يا صديقي الغالي!

هيَ لا تبدو لي، للتَّوّ، وبعدَ الافتتاحِ بهذهِ العبارَةِ المُفخَّخةِ (الكتابَةُ عنْكَ) عمَلاً شاقَّاً، فحسْبُ؛ إنَّها عمَلٌ انتحاريٌّ ومُستحيلٌ، والأهمُّ من كُلِّ ذلكَ إنَّها عمَلٌ مُؤلِمٌ وقاسٍ جدَّاً، وتعذيبيٌّ مُضْنٍ إلى حُدودِ السَّادومازوشيَّة..

لكنْ.. لا تكترثْ بكُلِّ هذا الهُراءِ يا خالد؛ لأنَّني، كمَا أُقنِعُ نفْسِي واهِمَاً، أمتلِكُ آليَّاتِ ما دُعِيَ في تُراثِنا العربيِّ النَّقديِّ بِـ (حُسْنِ التَّخلُّصِ) بسَلاسَةٍ مُرهِقَةٍ وأنَفَةٍ مُخادِعَةٍ!

في جميعِ الأحوال أيُّها العزيزُ، دعنِي أُردِّدُ (معَكَ) لا (عنْكَ)، هذهِ التَّساؤلات الزَّائِغَة:

  • هل (ميزو) كمَا كنتَ تُنادينِي (وأنتَ الوحيدُ الذي كانَ يُنادِيني بهذا الاسم عبرَ حياتي كُلِّها).. هل هذا ألْـ (ميزو) يُريدُ أنْ يكتُبَ عن (خالد خليفة)، أم يُريدُ أنْ يكتُبَ (خالد خليفة)؟

هل سيكتبُهُ بعَينيْهِ، أم بعُيونِ الآخَرينَ؟

هل سيكتُبُهُ ببصيرَتِهِ، أم ببصيرَةِ الآخَرينَ؟

أو لأقُل على نحْوٍ حاسِمٍ: هل يستطيعُ هذا ألْـ (ميزو) أنْ يكتُبَهُ ببصيرتِكَ أنتَ يا صديقي وقدِ (انكشَفْتَ) فيهِ وفي الآخرينَ؟  

لنرى الآنَ يا (خلُّود) الغالي ما الذي سترتكِبُهُ هذهِ ألْـ (الذَّاتُ المِيزَوِيَّةُ) بحقِّكَ، وبحقِّ نفسِها..  

أوَّلاً: لماذا كُلّ هذا التَّفجُّعِ على خالد خليفة؟

أعتقدُ، ومن دونِ فذلكةٍ أو مُقدِّماتٍ، أنَّ رحيلَ خالد المُفاجِئَ، قد فتَحَ في قلبي وعقلي كُلّ الأوجاع الشَّخصيَّة والوطنيَّة دُفعَةً واحِدَةً وبلا حُدودٍ..

هوَ ضرْبَةُ غدْرٍ أشبه بالشَّرارة التي أشعلَتْ حريقَ المَشاعِرِ والعَواطِفِ والوُجدانِ، وهزَّتْ شجرةَ الذَّاكرةِ والذِّكرياتِ من جُذورِ أسئلتِها المِفصليَّةِ وهيَ تستيقِظُ على حينِ غِرَّةٍ كي تستنطِقَ، وبلا هَوادَةٍ، جبالَ الأحلامِ والآمالِ الفرديَّةِ والجمعيَّةِ، وكي تُعايِرَ الأثمانَ والخساراتِ جميعها..

بعدَ أيَّامٍ من الصَّدمةِ العارمة والتَّفجُّعِ البالغ، شعرتُ أنَّ الرِّثاءَ لا ينفعُ مع خالد، ولا المديحُ؛ إنَّما الهجاءُ: الهجاءُ وحدَهُ ينفَعُ معكَ أيُّها المُشاغِبُ الطَّائِشُ فحسْبُ..

الهِجاءُ في هذا الاختبارِ العسيرِ يكونُ هِجاءً للجَمَالِ وللقُبْحِ في آنٍ معاً، كأنْ نُجلِسَ هذا (الجَمَالَ/ القُبْحَ) على رُكَبِنا بطريقَةِ رامبو، ثُمَّ نجدُهُ مُرَّاً، فنهجوهُ..

سأهجوكَ يا مَنْ جعَلَ أيَّ شخصٍ، وكُلَّ شخصٍ، حتَّى لو كانَ قد قابلَكَ مرَّةً واحدةً فقط يُعِدُّكَ لهُ، أو ملكَهُ، أو صديقَهُ المُقرَّب والصَّدوق..

سأهجوكَ يا خالد لأنَّكَ بهذهِ الطَّريقةِ، التي تبدو تلقائيَّةً، وهيَ تلقائيَّةٌ باقتدارٍ نادِرٍ، لم تكُنْ فرداً؛ إنَّما كنتَ (ظاهرةً فريدةً) لفردٍ يُساوي جماعةً..

كنتَ ساحِرَاً مَلعوناً وأنتَ تُحوِّلُ كُلَّ غِيابٍ قصيرٍ لكَ بعدَ أيِّ حُضورٍ عابِرٍ أو طويلٍ إلى رأسمالٍ رمزيٍّ إنساناً ورُوحاً ومُعامَلَةً وإبداعاً، ليأتيَ رحيلُكَ الأخيرُ كتوقيعٍ وُجوديٍّ كُلِّيٍّ توَّجَكَ ضَميراً جَمعيَّاً بهذا المَعنى..

لهذا؛ لم يكُنْ الأسَى السُّوريُّ الهادِرُ والهائِلُ حُزناً على فُقدانِكَ وليدَ مُصادَفةٍ قطّ..

لقد تآمَرْتَ علينا (وُجداناً وعقلاً) مُتحالِفاً مع المحبَّةِ والفَرَحِ المَنثورِ بحُضورِكَ وخفَّةِ رُوحِكَ الوَثَّابَةِ كذاتٍ إنسانيَّةٍ أوَّلاً، وكذاتٍ مُبدِعَةٍ في الباطِنِ العَميقِ العَميق ثانياً..

لكنَّ لذلكَ كُلِّهِ جانبٌ دلاليٌّ آخَرُ..

حُضورُكَ وغِيابُكَ استحضَرَا في الوقتِ نفسِهِ تقاليدَ التَّراجيديا السُّوريَّة والعربيَّة الحديثَةِ والمُعاصِرَةِ، إنْ من جهَةِ طريقَةِ رحيلِ المُبدعِينَ وعذاباتِهِم الفائِضَةِ كالحَرائِقِ المُتوحِّشَةِ في الشَّرايينِ (... لؤي كيالي - رياض الصَّالح الحسين - دعد حدَّاد - محمَّد سيدة - سنيَّة صالح - مصطفى الحلَّاج - إبراهيم الجرادي - حاتم علي - خيري الذَّهبي - بندر عبد الحميد - ... وغيرهم كثيرونَ وكثيراتٍ من قافِلَةٍ طويلَةٍ طويلَةٍ جدَّاً...)، أو من جهَةِ النَّزيفِ السُّوريِّ الجليلِ منذ عُقودٍ طويلَةٍ، ومنذُ أكثَرَ من ثلاثَةَ عشرَ عاماً على وجهِ الخُصوصِ..

لعلَّ هذهِ الأبعادِ التَّراجيديَّة قد نفخَتْ فينا، فضْلاً عن كينونَةِ خالد الفرد/ الإنسان والمُبدِع الرَّاحل، إعصارَ الآلامِ والانكساراتِ الجَمعيَّةِ، ولا سيما بائتلافِ كُلِّ ذلكَ مع خالد (المَوقِف)، وهذا ما سأُشيرُ إليهِ في السُّطورِ الآتية.   

***

ثانياً: بعضُ تلويحاتٍ وتلميحاتٍ في السِّيرَةِ الشَّخصيَّة والإبداعيَّة

1- خالد والبيئة الأُولى:

لا شيءَ أرفضُهُ شكلاً ومضموناً أكثَر من إلصاقِ ألقابٍ تنطوي على عُقَدِ النَّقصِ الحضاريِّ مثل خالد خليفة هيمنغواي الرِّواية العربيَّة، وممدوح عدوان زوربا العرب، وعلي الجندي بودلير العرب، والماغوط رامبو العرب، ووو...

خالد هوَ خالد ابنُ إحدى القرى العربيَّة في ريف حلب، والمَولود في بلدة أورم الصُّغرى بمنطقَةِ الأتارب، والذي كانَ على تماسٍ مع بيئَةِ عفرين ذات الأَغلبيَّة الكُرديَّةِ، وهوَ المُشبَعُ والمُنغرِسُ والمُتفاعِلُ مع سَرديَّاتِ النَّسيجِ الاجتماعيّ والثَّقافيّ والسِّياسيّ الغنيِّ والمُتنوِّعِ في حلب أوَّلاً، ثُمَّ في دمشق، وفي سوريَّة بوجهٍ عام/ وبطبيعَةِ الحال..

خالد هوَ خالد ابنُ الارتماءِ غيرِ المَحدودِ في أحضانِ الحياةِ المَفتوحَةِ، وإغوائِها الفاتِنِ القتَّالِ حتَّى الثُّمالَةِ..

إنَّهُ ابنُ الانتماءِ إلى الإنسانِ والآخَرِ والتَّفاعُلِ غيرِ المَشروطِ، وابنُ فترةٍ ثرَّةٍ وحُبلَى بالحِرَاكَ السِّياسيِّ والاجتماعيِّ والثَّقافيِّ: فترة مُشبَعة بالحُبّ والخوف والحُرِّيَّة والقلَق والفوضى والتَّجارِب والجَمَال والقُبْح والقُيود والاندفاع والإخفاق والمَمنوعات واختراقِها لَعِبَاً على الحوافِ الخطِرَة أو في العُمقِ..  

ولعلَّ هذا ما يعكسهُ الصَّديق العزيز الشَّاعر والكاتب عمر قدُّور في منشورٍ رثائيٍّ لهُ عن خالد في صفحتِهِ على الفيس بوك، وجدْتُ أنَّهُ يُقدِّمُ صُورةً مُقتضَبَةً، لكنَّها مُكثَّفَةٌ ودقيقَةٌ عن بيئتِهِ وتكوينِهِ وبداياتِهِ، إذ يقولُ:

"شريط صور طويل كتير مرق براسي؛ بيت أهل خالد في "المشهد" اللي بفضله ما كان يخلو من الزوار والزيارات الطويلة. الأخ الكبير المعتقل، الغايب الحاضر.. وشي عشر شلل فايتين ببعض من أصدقاء الأخوة خالد وحسن ومحمد وعلي، شعر وسياسة، والبعض من الرفقات ناطرين دورهم في الاعتقال!

فؤاد، حسين، سلام، غرناطة، ربيعة، منى، براءة، ربيعة، علي، وعلي، لقمان، غادة، صلاح، أمان، حسين، نجم، عبد اللطيف، أليس، حليم، محمد، سلوى، هويدا، سمر، هالا... وآخرين... وأحياناً المرور العابر لتانيا أو لأصدقاء آخرين لمروان الغائب.

عزائي الخاص للي ذكرتهم واللي نسيتهم من تلك السنوات. في ظرف أفضل كان يمكن على الأقل أن نجتمع ونضع وردة لخالد بحجم تلك الأيام".

2- خالد والمُلتقى الأدَبيّ في حلب:

كانَ خالد أحد الأعضاء الفاعلين في مطبخ (المُلتقَى الأدبيّ) الشَّهير في حلب، والذي بشَّرَ بأسماءٍ شِعريَّةٍ وبعضِ الحساسيَّات الجديدة (نسبيَّاً) في ثمانينيَّات القرن المُنصرِم، قبلَ أنْ يتمَّ إيقافُهُ في العام 1986، وكانَ أحد أهمّ مُحرِّكيهِ الصَّديق العزيز الباحث والنَّاقد محمَّد جمال باروت.  

أُقيمَتْ فعاليَّاتُ المُلتقَى مرَّتيْن في العام في تلكَ المَرحلة، في سَعْيٍ إلى تقديمِ روحٍ مُغايِرَةٍ تردُّ على هيمنَةِ جيلَي السِّتِّينيَّات والسَّبعينيَّات في الشِّعر والثَّقافة السُّوريَّة كمَا تُظهِرُ توجُّهاتُ بَيان تأسيس المُلتقَى، وشارَكَ عددٌ منَ النُّقَّادِ والأساتذة الجامعيِّين في تقويم الأعمال وفي النِّقاش حولها، كما يذكُرُ الصَّديق العزيز الكاتب والصَّحفيّ نجم الدِّين سمَّان في إحدى موادِّهِ، ومن هؤلاء: (عمر الدقاق، فؤاد المرعي، وليد إخلاصي، فايز الداية، نبيل سليمان، محمد جمال باروت، نيروز مالك.. إلخ). ويُشيرُ نجم، أيضاً، إلى أنَّهُ قد شارَكَ في نشاطات المُلتَقَى ما يقربُ من ثمانينَ شاعراً وشاعرة وقاصَّاً وقاصَّة، مُعدِّداً بعضَ هذهِ الأسماء:

"فيصل خرتش، عبد اللطيف خطاب، فؤاد محمد فؤاد، خالد خليفة، عمر قدور، حسين بن حمزة، أليس إلياس مسّوح، عبد السلام حلّوم، ندى الدانا، يوسف إسماعيل، مسلم الزيبق، صالح الرزّوق، بشار خليلي، بسام سرميني، فريد ناظاريان، أحمد عمر، عبد الرحمن حلاق، مها بكر، حسين درويش، لقمان ديركي، عارف حمزة، محمد علاء الدين، عبد الحليم يوسف، بسام حسين، صلاح داوود، أمان أبو دان، صالح دياب... وغيرهم ."

على أيِّ حالٍ، قد يختلِفُ الكثيرونَ حولَ تأثيرِ الأسماء التي أفرَزها المُلتقَى شِعريَّاً وقصصيَّاً بوجهٍ خاصّ، وثقافيَّاً بوجهٍ عامّ، على الأقلّ، مُقارَنَةً بالجيليْن اللَّذيْن يُفترَضُ أنَّ أعضاءَ المُلتقَى أرادوا مُجاوَزَةَ تجارِبِهِم الإبداعيَّة وحساسياتِهِم الفنِّيَّة، وهذهِ مَسألةٌ تحتاجُ إلى مُقارَباتٍ نقديَّةٍ مُعمَّقةٍ تأخذُ في حُسبانِها تعدُّدَ التَّجاربِ واختلافِها من مُبدِعٍ إلى آخَر، ومن مرحلةٍ إلى أُخرى، لكنَّ ما يُشكِّلُ إجماعاً بخُصوصِ المُلتَقَى هوَ الرَّغبَةُ الحثيثَةُ (وهيَ المُحرِّكُ الأعمَقُ لهُ) بالالتفافِ على قبضَةِ السُّلطة مُتجسِّدَةً على نحْوٍ مُباشَرٍ بكُلٍّ من وزارة الثَّقافة واتِّحاد الكُتَّاب العرب، وما يُمثِّلانِ من مُصادَرَةٍ خطابيَّة وفنِّيَّة بسَيطرتِهِما حينَها على المَشهدِ الثَّقافيِّ، وهذا ما انعكَسَ بجَلاءٍ في لُعبةِ شَدِّ الحِبالِ التي أحاطَتْ بالمُلتَقَى بينَ اتِّحادِ الطَّلَبة مثلاً وفرعِ الحزب في الجامعة، وقد بلَغَ التَّصادُمِ حدَّاً اعترَضَ فيهِ مُفتي حلب آنذاك، على جُملَةٍ في قصيدة في إحدى المرَّات.     

ولهذا؛ يكادُ يتَّفِقُ الجميعُ على أنَّ تجاذباتِ المُلتَقَى الفكريَّةِ الغنيَّةِ، وسِجالاتِهِ الإبداعيَّة المُوسَّعةِ، وتوتُّراتِهِ الأمنيَّةِ مُتعدِّدَةِ الجوانبِ، قد ترَكَتْ في جميعِ الأحوالِ أثَرَاً لافِتَاً في الذَّاكرة الثَّقافيَّة السُّوريَّة، لا تخلو نوعاً ما، وكمَا اعتدنا دائِماً في تقاليدِنا البُكائيَّة (الأليمَة)، أنْ نَروِيَ سِيرَةَ تجارِبِنا المَوءودَةِ بماءِ النوستالجيا الفادِحَة القصِيَّة..  

أمَّا خالد، فمن جانبِهِ كانَ يكتبُ في تلكَ المرحلة الشِّعرَ والقصَّةَ القصيرة، غيرَ أنَّهُ لم يتأخَّرْ كثيراً في هجرانِهِما، والإبحار في فخاخ الرِّواية، رُبَّما لأنَّهُ أحسَّ أنَّ ما يُريدُ أنْ يقولَهُ لنْ يُوصِلَهُ إلّا السَّردُ العريضُ في وَضْعٍ مُركَّبٍ ومُتراكِبٍ سياسيَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً في سوريَّة، وفي مَرحلةٍ عربيَّةٍ مُعقَّدةٍ جدَّاً.

لكنَّ المُفاجأة أنَّ خالداً قد أودَعَ ديوانَ شِعرٍ (قد يكونُ وبعيداً عن سِجالِ القيمَةِ الفنِّيَّةِ هوَ الأثرُ الوحيدُ الباقي من شِعرِهِ على الأرجح) عند الصَّديق العزيز الشَّاعر والتَّشكيليّ منذر مصري، الذي اختارَ من إحدى قصائدِ هذا الدِّيوان عنوانَاً لمَقالةٍ كتَبَها عن هذهِ النُّصوص ناشِرَاً بعضَها إثرَ رحيلِ خالد، وهيَ: "كوَترٍ وحيدٍ في كمنجةٍ متروكةٍ".   

3- خالد ومجلَّةُ أَلِف:

صُقِلَتْ تجرِبَةُ خالد بعُمْقٍ بعدَ مُشارَكتِهِ في تأسيس (مجلَّة أَلِف/ أَلِف لحُرِّيَّة الكشف الإنسان والكتابة/ ألف للكتابة الجديدة)، والتي أسَّسَها برفقةِ الصَّديق العزيز الكاتب والنَّاشِر وصاحبِ الفِكرَة سحبان سوَّاح، كُلٌّ مِنْ: لقمان ديركي ونبيل صالح وخالد خليفة وأحمد إسكندر سليمان وأسامة إسبر وأحمد معلَّا ووائل سوَّاح، فضْلاً عنِ الشَّاعر المُخضرَم الرَّاحل محمود السَّيِّد الذي اختيرَ ليكونَ رئيساً لتحريرِها، وبدا، إلى جانب سحبان، العقلَ المُحرِّكَ الأوَّلَ فكريَّاً وفنِّيَّاً وبصَريَّاً للمجلَّة ولكُلِّ الشَّبابِ المَوجودينَ فيها.

وقد انطلَقَتْ في العام 1990، وصدَرَ منها أربعةٌ وعشرونَ عدداً، قبلَ أنْ تتوقَّف بسببِ غِيابِ التَّمويل، الذي كانَ في الأصل ذاتيَّاً، حيثُ كانَ ترخيصُها في نيقوسيا بقبرص، لاستحالَةِ إصدارِ مجلَّةٍ بمثلِ هذهِ التَّوجُّهات في سوريَّة أو حتَّى في أيِّ بلَدٍ عربيٍّ آخَر من دونِ مُبالَغة.  

بدَتْ (ألِف) مُختبَراً تجريبيّاً على مُستويَي النَّصّ والتَّشكيل، فكلُّ شيء فيها كانَ يتغيَّرُ من عددٍ إلى آخر، ووحدهُ لوغو المجلّة كانَ ثابتاً في شكلهِ وليسَ في موقعهِ كمَا كتَبَ عنها الصَّديق العزيز الشَّاعر والمُخرِج علي سفَر في إحدى مقالاتِهِ عن محمود السَّيِّد، وأظْهَرَتِ المجلَّةُ تأثيراً مُغايِرَاً (وإلى حدٍّ كبيرٍ مُضادَّاً للقبضَةِ الإبداعيَّةِ التَّدجينيَّة) للمطبوعات الثَّقافيَّة الرَّسميَّة شكلاً ومضموناً ومَحظوراتٍ، وتركَتْ بصْمةً تجاوَزَتِ الفضَاءَ الثَّقافيَّ السُّوريَّ إلى الفضَاءِ العربيِّ بمَعنىً ما، وهذا ما اتَّسَمَ بالاتِّساقِ والدِّيناميَّةِ مع مسيرَةِ (خالد) حياةً وثقافةً وموقفاً، ومهَّدَ نوعاً ما، أيضاً، لانطلاقتِهِ في مِضمارِ الأعمالِ الرِّوائيَّةِ والسِّيناريوهاتِ التِّلفزيونيَّة، حيثُ كانَ في مرحلة مجلَّة ألِف قد شَرَعَ بكتابةِ روايتِهِ الأُولى (حارس الخديعة) الصَّادِرَة في العام 1993.     

4-خالد الذَّاتُ المُبدِعةُ نصَّاً روائيَّاً:

آمَنَ خالد منذ بداياتِهِ الرِّوائيَّةِ بولادةِ روايةٍ سوريَّةٍ جديدة من رَحِمِ المُجتمعِ المُغلَق والأُفُقِ المُغلَق، واشتغَلَ على هذهِ التُّخومِ الطَّموحَةِ. فإذا كانتِ المَحلِّيَّةُ بمَعنىً فنِّيٍّ هيَ المَدخلُ المِحوريُّ أوِ الممرُّ الإجباريُّ للعالَميَّةِ، كما هُوَ شائِعٌ وصحيحٌ نسبيَّاً، لكنْ بعدَ أخذِ تحوُّلاتِ العصرِ ومُستجدَّاتِهِ الرَّقميَّةِ المُعقَّدةِ بعيْنِ النَّظَر، كما أرى، فإنَّ هذا التَّجذُّرَ المَحلِّيَّ هوَ ما أنجزَهُ خالدٌ بقُوَّةٍ؛ إذ كانت معشوقتُهُ الأُولى (حلب) مدارَ رواياتِهِ السِّتّ المَنشورة في حياته.   

وفي هذا المِضمار، ينقلُ الصَّديق العزيز الشَّاعر والكاتب بشير البكر عن خالد قولَهُ لهُ (ما معناهُ) إنَّهُ، وبعد ستِّ رواياتٍ، قد صفَّى حسابَهُ تجرِبَةً وتجريباً ومَوضوعاتٍ مع حلب، وإنَّهُ يُحضِّرُ لعملٍ لهُ أُفُق تاريخيّ مُغايِر خارجَ الفضاءِ الحلبيِّ، والمُفاجأةُ الجميلَةُ أنَّ هذا العمَل الرِّوائيّ الذي لم يُمهِلِ القدرُ خالداً (الحلبيَّ الرِّوايَةِ قلباً وقالباً في ستِّ رواياتٍ) كي يُشرِفَ على نشرِهِ بنفسِهِ، صدر منذ أيام تحت عُنوان (سمك ميت يتنفَّس قشور اللَّيمون)، وهيَ الرِّوايةُ التي بدأ بكتابتِها في سورية، واستكملَ صياغتَها الكامِلَة خلالَ منحتِهِ الأدبيَّةِ الأخيرَةِ في سويسرا، وتدورُ أحداثُها في اللَّاذقيَّة، وتتحدَّثُ عن خيباتِ شبابِها وشابَّاتِها (أبطالُها موسيقيُّون وشعراء وراقصة)، وانكسارِ أحلامهِم وسطَ فسادٍ إداريّ وسُلطويّ هائل.     

نالَتْ روايات خالد اهتماماً عربيَّاً وعالَميَّاً لافِتاً، ولَوْ قُدِّرَ لهُ أنْ يعيشَ أكثَر، لكانَ هناكَ قطافٌ عالَميٌّ أكثَر تجذُّراً، وقد تمكَّنَ شخصاً ونصَّاً في السَّنوات الأخيرَةِ من فتْحِ آفاقٍ واسِعَةٍ على العالَم والآخَر، فنالَ جَوائِزَ عدَّة، ورُشِّحَتْ بعضُ رواياتِهِ لجَوائِزَ مُتنوِّعة، فضْلاً عن كتابةِ كُبرياتِ الصُّحف والمَواقِع العالَميَّة عن رواياتِهِ، ولا سيما في ضوءِ ترجمَةٍ لافتَةٍ لبعضِها إلى لُغاتٍ مُختلِفة.

وبغضِّ النَّظَر عن تصوُّري الشَّخصيّ عن فكرَةِ العالَميَّة، ونسبيَّتِها؛ إذ أعتقدُ أنَّ أحد أهمّ مَقاييس أنْ يكونَ الإبداعُ عالَميَّاً هوَ أنْ تكتُبَ ذاتَكَ (كياناً وكينونَةً) بأصالَةٍ فنِّيَّةٍ وفكريَّةٍ خالِصَةٍ، وحينَها تغدو عالَميَّاً حتَّى لو لم يقرأ لكَ سوى بضعةُ أشخاصٍ في حارتِكَ المنسيَّة، أجِدُ أنَّهُ لابُدَّ من بسْطِ تحذيرٍ ضروريٍّ في هذا المِضمار من جانبيْن:

الأوَّل: عدمُ المُبالَغة في الانسياقِ وراءَ تضخُّمِ وتضخيمِ هذا الفخِّ المُغرِي أحياناً، وهوَ ما كانَ خالد واعياً لهُ بمَعرفتِي لهُ، وبأحاديثِنا المُشتَرَكة.

الثَّاني: العالَميُّ هوَ المُنغرِسُ في مكانِهِ وفي موقعِهِ قبلَ أيِّ طرحٍ آخَر، كما أشرتُ في سُطورٍ سابِقَة، وهوَ الأمرُ الذي أكَّدَهُ خالد بِسُلوكٍ كانَ يأبَى عبرَهُ أنْ يترُكَ سوريَّة وُجوداً فيزيائيَّاً ووجدانيَّاً ونفسيَّاً مهما حدَث، وباشتغالٍ فنِّيٍّ إبداعيٍّ كانَ يحفرُ في الأعماق السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة للبيئة السُّوريَّة، وبوفاءٍ تخييليٍّ ومَعرفيٍّ يتحرَّكُ بإتقانٍ بينَ المُتونِ والهَوامِشِ.

ويُمكِنُ أنْ نتذكَّرَ، هُنا، بعضَ هذهِ الهَواجِس الفكريَّة والسَّرديَّة الجريئة المَوجودة عندَ خالد، كما في كتابتِهِ، مثَلاً، عنِ الغَجَرِ وهَوامِشِهِم المنسيَّة في روايتِهِ الثَّانية (دفاتر القرباط) الصَّادِرَة في العام 2000، حيثُ جُمِّدَتْ عُضوِيَّتُهُ في اتِّحادِ الكُتَّابِ العرب مُدَّةَ أربع سنواتٍ بسببِ مَضامِينِها.

في حين تبقَى رواية (مديح الكراهيَّة) التي عمِلَ على كتابتِها ثلاثَ عشرةَ سنة، والصَّادِرَة أوَّل مرَّة في العام 2006 (قبلَ مَنعِها في سوريَّة)، الرِّواية الأكثَر حُضوراً وصدىً وتأثيراً، وذلكَ لمَا تنطوي عليهِ مَوضوعيَّاً وفنِّيَّاً من حفْرٍ عَميقٍ وحسَّاسٍ وصادِمٍ في مَسألة الصِّراع الدَّمويّ في سوريَّة بينَ السُّلطة والإخوان المُسلمين (تُغطِّي الفترة المُمتدَّة بينَ أعوام 1963 و2005)، وقد تُرجِمَتْ إلى أكثَرَ من ثماني لُغاتٍ، ووصلَتْ إلى القائِمَةِ القصيرَةِ في الجائِزَةِ العالَميَّة للرِّواية العربيَّة (بوكر) في دورة 2008، كما دخلَتْ في القائمة الطَّويلة لجائزة (الإندبندنت لأدب الخيال الأجنبيّ) في العام 2013، ليفرضَ خالد نفسَهُ بوصفِهِ المُرشَّح العربيّ الوحيد في هذهِ القائِمَة، وصنَّفَها موقع (ليسْت نيوز) الثَّقافيّ الأمريكيّ ضمن أفضل مائة رواية عبر التاريخ.

تحدَّثَ خالد في أحدِ حواراتِهِ عن هذهِ الرِّواية، قائِلاً:

"إنَّها لا تناقشُ الأحداثَ بشكلٍ سياسيّ، بلْ تَروِي تلكَ الفترةَ من خلالِ شخصياتٍ حيويَّةٍ تعيشُ في سياقٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ، وهيَ من ناحيَةِ الخَيَالِ تُعَدُّ أكثَر من مُجرَّدِ توثيقٍ، فالأفكارُ والمَشاعِرُ فيها طازجةٌ، وترتبطُ بالخوفِ المُتراكِمِ لدى الشَّعبِ السُّوريّ، ولهذا فهيَ ليسَتْ محدودةً بزمنٍ معيَّنٍ؛ إنَّما يُمكِنُ أنْ تَنطبِقَ على فتراتٍ مُختلِفَةٍ، ولمْ يَكُنِ الوثائقيُّ، على مِحوريَّتِهِ في الرِّواية، عاملاً أساسيَّاً فيها".

5- خالد الذَّاتُ المُبدِعةُ نصَّاً دراميَّاً (سيناريو):

انطلَقَتْ ما دُعِيَتْ بالفورة الإنتاجيَّة في الدَّراما السُّوريَّة بقرارٍ سياسيٍّ مثَّلَتْهُ وزارةُ الإعلام في العام 1994، واتَّجَهَ عددٌ كبيرٌ من الكُتَّاب والمثقَّفينَ السُّوريُّين باتِّجاهِ كتابةِ السِّيناريوهات التَّلفزيونيَّة بدافِعٍ مادِّيٍّ وإعلاميٍّ ترويجيٍّ، وهوَ أمرٌ ينطوي على وجهٍ إيجابيٍّ ووجهٍ سلبيٍّ لا مَكانَ للتَّوسُّعِ بهِ هُنا؛ إنَّما يُمكِنُ القولُ باختصارٍ شديدٍ: إنَّ حيْفَاً وظُلمَاً كبيراً قد وقَعَا على عددٍ كبيرٍ من الأعلام النُّخبويَّة السُّوريَّة حينَما بدا أنَّ مَنْ يتمُّ تقديمُهُم بوصفِهِم الوجهَ الثَّقافيَّ للبلَدِ هُم بالتَّحديد المُشتغلونَ في الدَّراما وحدَهُم، في حين يتمُّ التَّعتيمُ (إعلاميَّاً ومَعنويَّاً ومادِّيَّاً) على أسماءٍ مُهمَّةٍ وأصيلةٍ فكراً وإبداعاً، وهذهِ مَسألةٌ مُشينةٌ إلى حدٍّ بعيد.

على أيِّ حالٍ؛ فتَحَ خالد عبرَ هذهِ (الكُوَّة) أُفُقاً مُزدوَجاً في حُضورِهِ السُّوريّ، ففي الوقتِ الذي كانَ يتمُّ تجاهُلُهُ عمداً بوصفِهِ روائيَّاً، لمَا تُمثِّلُهُ رواياتُهُ من آراءٍ ومَواقِفَ، تسلَّلَ عبرَ الدَّراما بأعمالٍ لافتَةٍ في مُعظمِها، وكانَتِ البداية المُدوِّيَّة عندما تبنَّى بإعجابٍ بالِغٍ (شيخُ الكار) المُخرِج هيثم حقِّي سيناريو خالد الأوَّل (سيرة آل الجلالي) الذي عُرِضَ على الشَّاشات أوَّل مرَّة في العام 2000، وذلكَ لما يُشكِّلُهُ هذا النَّصُّ من حفْرٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ وتفكيكٍ بِنيويٍّ في البيئةِ (الحلبيَّة/ السُّوريَّة)، وهوَ الأمرُ الذي يصبُّ في خطِّ (حقِّي) الدَّراميّ المِحوريّ لديهِ، والقائِم على مَسارات التَّنوير الاجتماعيّ النَّهضويّ، وقد تعرَّضَ المُسلسَلُ لانتقاداتٍ واعتراضاتٍ شديدَةٍ من جهاتٍ حلبيَّةٍ نافِذَةٍ، في الآنِ نفسِهِ الذي دخَلَ فيهِ تاريخَ الدَّراما السُّوريَّة بوصفِهِ علامَةً فارِقَةً في مَسيرتِها.  

كانَ لخالد مُسلسلات عدَّة مُهمَّة، منها (قوس قزح) الذي أخرجَهُ هيثم حقِّي، وكانَ، أيضاً، ضمنَ الخطّ الاجتماعيّ التَّنويريّ (الأُسَرِيّ والعائليّ)، وجاءَ مُسلسَلُ (هدوء نسبيّ) ليكونَ بوَّابةً كبيرةً لخالد نحْوَ إنتاجٍ ضخمٍ بتمويلِ جهتيْن (روتانا خليجيَّة وإيبلا الدَّوليَّة)، وإخراج المُخرج التُّونسيّ الرَّاحل (شوقي الماجري)، وهوَ يتناوَلُ مُعاناةَ الصَّحفيِّين والإعلاميِّين في فترة الاحتلال الأمريكيّ للعراق.

من جهتِي أخبَرْتُ خالداً في إحدى جلساتِنا بإعجابي الكبير بمُسلسلِهِ (المفتاح) الذي أخرجَهُ المُخرج الرَّاحل (هشام شربتجي)، ولَفَتَتْ نظَري حيويَّةُ النَّصّ، ورشاقةُ الحركة والحبكة والحوار، وجَماليَّاتُ الإخراج والتَّمثيل، فضلاً عن أهمِّيَّة الحفر اللَّافت فيهِ في جُذور تشكُّل بِنَى الفَساد، وقلتُ لهُ إنَّهُ النَّصّ الأقوَى لكَ في الدَّراما بما يتعلَّقُ بالبنية الفنِّيَّة في اعتقادي.

كانَتْ إحدى استراتيجيَّات خالد في مُسلسلاتِهِ تكمنُ في تمريرِ ما يُمكِنُ تمريرُهُ من المَقولاتِ (المَسكوتِ عنها) التي يتحايَلُ بها على الرّقابة التَّلفزيونيَّة مُنخفِضَةِ السَّقفِ، قدرَ المُستطاع، واهتَمَّ كثيراً في إظهار الطَّبيعة الاجتماعيَّة للطَّبَقة الوُسطى في سوريَّة، وحاوَلَ أنْ يعكسَ مَعيشَتَها ويومياتِها وطُرُقَ حياتِها، فكُنَّا نرى أحياناً، صوراً شبه مُتطابِقة مع سهراتِنا وسهرات المُثقَّفين (ومنها ما كانَ برفقَةِ خالد طبعاً) غناءً ورقصاً ومأكلاً وفُكاهاتٍ؛ إذ كانَ الهَاجِسُ الهُوِيَّاتيُّ (ليسَ من جِهَةِ الأيديولوجيا؛ إنَّما من جِهَةِ جَماليَّات الحياةِ الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة) عميقاً لديهِ.

لوجستيَّاً؛ أو تكتيكيَّاً: كانتِ الدَّراما عندَ خالد (تحديداً بما يتعلَّقُ بمَردودِها المادِّيّ) فُرصةً للارتياح من مُتطلَّباتِ العيْش لفترةٍ جيِّدَةٍ، حيثُ يتفرَّغُ بعدَ تحصيلِهِ مَبلَغَ نصٍّ دراميٍّ من تأليفِهِ للحياة والمَلذَّات والمُتَع والسَّفَر، ولا يَعنِي ذلكَ أنَّهُ يكفُّ عنِ الكتابة الرِّوائيَّة؛ لكنَّهُ حينَ يشعرُ أنَّ نصَّهُ الرِّوائيّ بحاجةٍ إلى الحسم، يعتزِلُ نوعاً ما لإنهائِهِ، ليعودَ من جديدٍ إلى الحياة الحُرَّة العريضة، ثُمَّ لكتابة الدَّراما، وهكذا دواليك...

6- مَشروعُ الإحياءِ الثَّقافيِّ الأخيرُ:

عملَ خالد وصديقُنا الجميل والعزيز (بولس حلَّاق) على مَشروعٍ ثقافيٍّ خلالَ السَّنواتِ الأخيرة، حيثُ قامَ بولس بترميمِ منزلٍ في إحدى مناطق دمشق القديمة، بالتَّوازي مع الحُصول على ترخيصٍ لمُلتقَىً ثقافيٍّ باسْمِ (مُلتقَى مَعابِر)، وقد زارني خالد وبولس في إحدى الزِّيارات تحديداً بهدفِ الاتِّفاقِ معي على العمَل في هذا المَشروع الطَّموح.

قد يبدو من الغريبِ جدَّاً أنْ يُفكِّرَ هذان الصَّديقان بمثلِ هذا المَشروع الذي يتحرَّكُ بعكسِ التَّيَّارِ، أو يجرِي باتِّجاهٍ مَقلوبٍ في بلَدٍ مزَّقتْهُ الحربُ سياسيَّاً واجتماعيَّاً واقتصاديَّاً؛ ففي الوقتِ الذي كانَ فيهِ مُعظَمُ السُّوريِّين يُحاولُونَ مُغادَرَةَ البلادِ إلى أيِّ مكانٍ مُمكِنٍ أو مُتاحٍ، ظلَّ خالد وقليلونَ مثلَهُ مُتمسِّكينَ بقاعِدَةِ البَقاءِ هُنا، وقد أعلَنَ في غيْرِ مرَّةٍ عدمَ قدرتِهِ على الابتعاد الدَّائِم عن دمشق وسوريَّة.

كانَ هذا المَشروعُ يهدُفُ إلى إقامَةِ النَّشاطاتِ الأدَبيَّة والفنِّيَّة والفكريَّة المُختلِفَة، ويتطلَّعُ إلى إحياءِ التَّقاليدِ الثَّقافيَّة عندَ الأجيالِ الجديدة في مرحلَةِ ضياعٍ محلِّيَّةٍ وعالَميَّةٍ، وكانَ الصَّديقان خالد وبولس يتطلَّعانِ إلى الرَّبطِ مُستقبَلاً مع جهاتٍ وهيئاتٍ ثقافيَّةٍ عدَّةٍ (كفكرَةِ الرَّبطِ مثلاً مع الصَّديق أكرم إنطاكي مسؤول موقع مَعابِر الإلكترونيّ ودار نشر مَعابِر)، بغيَةَ تحويلِ المُلتَقَى إلى مُؤسَّسةٍ ثقافيَّةٍ مًتكامِلَةٍ ضمنَ حقلِ ألغامٍ مُعقَّد!

مُوافَقَتِي على المُشارَكَة في المَشروع لم تتطلَّبْ ولا لحظَةً تفكيرٍ واحِدَةٍ بعدَ شرحِهِما لماهيَّتِهِ وأهدافِهِ، وطلَبِهِما منِّي مَدَّ المَشروعِ ونشاطاتِهِ بدراساتٍ ومُطالَعاتٍ نقديَّةٍ وتنظيريَّةٍ، وكانَتْ هذهِ المُوافَقَةُ هيَ الاستثناءُ الوحيدُ عندي الذي اخترَقَ قراري الجذريّ بعدمِ المُشارَكة في أيِّ نشاطٍ ثقافيٍّ رسميّ أو غير رسميّ في الدَّاخل منذُ العام 2011، حيثُ كانَ الحَماسُ العارِمُ سيِّدَ المَوقفِ، ولا أنسَى كيفَ كانَ خالد يُردِّدُ في هذهِ الجلسة الثَّلاثيَّة بفرحِ طفلٍ بريءٍ وغيرَةِ مُثقَّفٍ وطنِيٍّ: "بكرا بتشوف يا ميزو كيف بدنا نضوِّي على كلّ الأسماء الثَّقافيَّة السُّوريَّة اللّي انظلمِتْ، وكيف بدنا نحكي عن تجارِب جماعيَّة مهمّة وممنوعة متل مَطبوعة الكُرَّاس ومجلَّة ألِف، وكيف بدنا...".

***

ثالثاً: خالد الذّات المُبدِعة حياةً وشجاعَةً ومَوقِفَاً

لم يكُنْ خالد مثاليَّاً، ولم يدَّعِ هذا أصلاً؛ بل على العكس من ذلكَ، احتضَنَ بمحبَّةٍ وواقعيَّةٍ الكثيرَ من عُيوبِهِ ومن عُيوبِ الآخَرِين، لأنَّ طبيعَةَ الحياة والإنسان هيَ على هذا النَّحُو كما كانَ يَعتقِدُ، ولأنَّهُ، أيضاً، كائِنٌ فطْرِيٌّ مُرتَمٍ في أحضانِ التَّجارِبِ والمُمكِنِ والمُحتمَلِ، ولا يستطيعُ أنْ يُؤطَّرَ كأيقونَةٍ أو كصَنَمٍ مُنجَزٍ، فهذا ليسَ من بابِ التَّرفُّعِ أو الادِّعاءِ؛ إنَّما لأنَّ ذلكَ ضدُّ تكوينِهِ وكينونتِهِ، وضدُّ احتفائِهِ بالأخطاءِ والنَّقصِ البشريِّ.

لكنَّ مُرونتَهُ وانسيابَهُ الوُجوديَّ هذا لا يَعنِي تفريطَهُ بمَواقِفِهِ الجذريَّة والحادَّة، ولعمري هذهِ إحدى مآثِرِهِ الاستثنائيَّة: لا أعنِي قَبولَهُ الاختلافَ معَ الآخَرين فحسْبُ؛ إنَّما أعنِي أيضاً (وعلى نحْوٍ أعمَق وأهمّ في شخصيَّتِهِ) قَبولَ المُختلِفِينَ معهُ بهذهِ الهُوَّة، وتعايُشَهُم مع ذلكَ، ومُعظَمُ هؤلاءِ يرفضونَ في العادَةِ مثلَ هذا الاختلاف (أو بالأحرى: الخِلاف) في مَرحلَةٍ انبسَطَ فيها الاستقطابُ السِّياسيُّ والاجتماعيُّ انبساطاً شديدَ العُمقِ والعُنفِ في آنٍ معاً، فسُلوكُ هؤلاءِ كانَ مُغايِرَاً تماماً مع خالد، لأنَّهُ، ومن دونِ فذلَكَةٍ كبيرةٍ: خالد هوَ الإنسانُ البسيطُ الضَّاحكُ المَكشوفُ العاري المُمازِحُ المُتصالِحُ معَ نفسِهِ ومعَ الآخَرينَ والقريبُ من الرُّوحِ والقلبِ والوُجدان.    

يُمكِنُ في هذهِ النُّقطة بوجهٍ خاصّ، الحديثُ عن نمَطٍ واضِحٍ في حُضورِ خالد وشخصيَّتِهِ؛ إذ يجمَعُ بينَ المُثقَّفِ الذي يُحافِظُ في أعمالِهِ ومَواقفِهِ على درجةٍ رصينَةٍ مِنَ النُّخبويَّة غير المُؤدلَجَة، ويعيشُ الحياةَ (أحياناً) كإنسانٍ مُتوازنٍ نسبيَّاً، وكصُعلوكٍ يتراقَصُ على حوافِ التَّسكُّع والجُنون والمُتَع في أغلَبِ الأحيان.

ولهذا، بدا خالد في حياتِهِ وفي مماتِهِ أشبَهَ بظاهِرَةٍ في المَشهدِ الثَّقافيّ السُّوريّ، ولم أُبالِغْ (أنا أو غيرِي) حينَ بدَأنا نندبُ كالثّكالى، ونتباكَى عليهِ بحُرْقَةٍ مُردِّدينَ أنَّ دمشقَ أصبَحَتْ خاويةً بِرحيلِهِ؛ ذلكَ لأنَّ غيابَهُ كانَ فادحاً لأصدقائِهِ، ولأنَّ هذا الغِياب أعطانا شُعوراً كذلكَ بأنَّهُ لم يرحلْ وحدَهُ؛ إنَّما رحلَتْ معَهُ مرحلةٌ كامِلَةٌ، وظاهِرَةٌ مُتشابِكَةٌ معَ أحداثٍ كُبرَى حلَّتْ في البلَد، وبما يتزامَنُ خلالَ العقدِ الأخيرِ على الأقلّ (إذا لم نُشِرْ أيضاً إلى خساراتِ آخِر عشرينَ سنة)، بغِيابِ أسماءٍ فكريَّة وثقافيَّة وسياسيَّة وازنة وكثيرة جدَّاً.

لقد ترفَّعَ خالد، في مُعظَمِ الحالاتِ، عنِ الشَّخصَنَة، وفَهِمَ أنَّ مَعركتَهُ على الأرض تتعيَّنُ بأصالَةٍ في نُصوصِهِ قبلَ أيِّ مكانٍ آخَر، لهذا حرصَ على عدمِ مضيَعَةِ الوقتِ في تفاصيلَ تستهلِكُ الذَّاتَ وطاقتَها الحياتيَّة والإبداعيَّة، فلَم يتنازَلْ عن مَواقفِهِ الثَّابِتَةِ فنِّيَّاً وسياسيَّاً قيْدَ أُنملَةٍ، وظلَّ يُوازِي (ويُقاطِعُ في بعضِ الأحيانِ) بحنكَةٍ وذكاءٍ بينَ انغماسِهِ في الحياةِ وإغواءاتِها، وصَرامتِهِ الحاسِمَةِ في علاقتِهِ بالإبداع، وهُنا نستذكِرُ معاً أنَّهُ أمضَى ثلاثةَ عشر عاماً في كتابَةِ روايتِهِ (مديح الكراهيَّة)، وأنَّ حصيلَتَهُ الرِّوائيَّة لم تتجاوَزْ ستّ رواياتٍ منشورة في حياته، فضلاً عن روايتهِ السَّابعة المَنشورة منذ أيَّام كما أشرتُ من قبل، وهذا خيرُ دليلٍ على جِدَّتِهِ في الكتابَةِ مِنَ الجِهَةِ النَّوعيَّةِ إبداعيَّاً وفكريَّاً، لا مِنَ الجِهَةِ الكمِّيَّةِ.  

جانبٌ آخَرُ من المُفيد أنْ أُشيرَ إليهِ في اعتقادي، وهوَ ترفُّعُ خالد عن الادِّعاءِ أو التَّبجُّحِ؛ فهوَ لا يدَّعِي ما ليسَ فيهِ، ولا يَستعرِضُ عضلاتِ إنجازاتِهِ، ولا يتهافَتُ على حِسابِ كرامتِهِ، فلمْ يسألْنِي ولا مَرَّة هل قرأتَ روايتِي هذِهِ، أو هل شاهدْتَ مُسلسلِي ذاكَ؟ كما أنَّهُ لا يُردِّدُ مآثِرَهُ الثَّوريَّةَ كالبَعضِ مثلاً، وهوَ الذي سَبَقَ لهُ أنْ تعرَّضَ للضَّربِ حتَّى كُسِرَتْ يدُه أثناءَ مُشاركتِهِ في تشييعِ المُوسيقيّ السُّوريّ ربيع غزي في 26 مايو/ أيار 2012، فضلاً عن أنَّهُ لا يُحبِّذُ عمَلاً لا يقتنِعُ أنَّهُ سيُضيفُ شيئاً عبرَهُ أو لهُ، حيثُ أذكُرُ في هذا المِضمارِ أنَّني حينَ طلَبْتُ منهُ أنْ يُقدِّمَ شهادَةً عنِ الشَّاعرِ الرَّاحل علي الجندي (الذي أعمَلُ على إنجازِ كتابٍ عنهُ)، اعتذَرَ قائِلاً: لي ذكرياتٌ كثيرةٌ معَ أبي لهَبٍ في حلب ودمشق، لكنْ ليسَ عندي شيءٌ مهمٌّ أُضيفُهُ إلى ما جمعتَهُ في كتابِكَ هذا.

غيرَ أنَّهُ، وفي الوقتِ عينِهِ، كانَ مُعتدَّاً بنفسِهِ، مُميِّزاً بينَ الغُرورِ وتقديرِ الذَّات، ففي إحدى المرَّاتِ امتدحَنِي على كتاباتِي، فقلتُ لهُ: لا يا رَجُل.. ليسَ إلى هذهِ الدَّرجة.. ليُفاجِئَنِي بِرَدِّهِ الحاسِم والعَميق: ميزو بعمرك لا تتواضَع حينَما يتعلَّقُ الأمرُ بمَا هوَ صادق..

***

رابعاً: نفَحَاتٌ من حصَّتِي في (خَلُّود) الصَّديق

لكُلٍّ منَّا حصَّتُهُ فيكَ يا خالد، فكم أنتَ شاسِعٌ يا صديقي الجَميل، وكم أنا مُشتاقٌ إليكَ..  

أيُّ لقاءٍ معكَ، ولو بالمُصادَفَةِ السَّريعَةِ، كانَ كفيلاً بأنْ يُدخِلَ سُروراً وغبطَةً وانفراجاً غيرَ مَفهومٍ إلى القلب..

في عُرسي آخِر العام 2022 كانَ (خلُّود) فاكهةَ الحُضور، كعادتِهِ في جميعِ سهراتنا، ولقاءاتنا، وأغانينا، ونُواحِنا، و(تَنَاحةِ) إرادتِنا الصُّلبة، وفداحَةِ عجزنا المُحكَم..

لم يتوقَّفْ خالد يومَها عنِ الرَّقص والغناء والمُزاح والحركة بينَ الطَّاوِلاتِ والصَّديقات والأصدقاء، فخالد خبيرٌ مُتمكِّنٌ منِ استجلابِ الفرحِ وتكثيرِ الكرنفالات، ولا يُفرِّطُ بلحظةِ (سعادَةٍ) ولَوْ مُتخيَّلَة، ينشرُها حولَهُ، ويمنحُها مجَّاناً للآخَرين، رافِضاً فكرَةَ انتظارِ أخْذِها من أحَدٍ أبَداً، وقد رَوَى لي صديقُنا العزيز الشَّاعر والمُترجِم أحمَد م. أحمَد أنَّ خالداً صرَخَ بهِ مُؤنِّباً حينَ اشتكَى أحمَد من الاكتئاب، قائِلاً لهُ: ولك (...) أنا رفيقك ومكتئب.. قُومْ انضرِبْ اتحرَّكْ بسرعة ولك (...)..

مِنَ المَواقِفِ التي لا أنسَاها ما حييتُ في العُرس، كيفَ أجبَرَ خالد والدتي، وسحَبَها من طاولتِها، كيْ ترقصَ معهُ، وهيَ الخَجولَةُ التي كانتْ لا تُريدُ الرَّقصَ لأنَّها ما تزالُ في حُزنٍ وحدادٍ على والدي الرَّاحل..

ثمَّةَ سهراتٌ كثيرَةٌ في الذَّاكرة كُنَّا نغنِّي فيها حتَّى ساعاتٍ مُتأخِّرَةٍ من اللَّيلِ، ونرقصُ ونقهقهُ ولا نُوفِّرُ شيئاً حتَّى أنفسِنا في سُخريَّتِنا، وكثيرٌ من تلكَ السَّهرات كانتْ، تماماً، على وقعِ القصفِ المُتواصِلِ حولِنا، بكُلِّ مَعنى كلمةِ قصفٍ وحربٍ ومَعارِكَ كانت تدورُ في مُحيطِ منطقتِنا (جرمانا)، وبعضِ مَداخِلِها القريبة إلى الغوطة.

كانَ خالد يُحضِرُ أحياناً موادَّ إحدى أكلاتِهِ المُفضَّلة (اللَّحمة بالصِّينيَّة) إلى السَّهرات، ويقومُ بخلطِها، وطَهوِها، وعندما نطلُبُ منهُ الوصفَةَ بعدَ أنْ نتذوَّقَ نكهتَها الرَّائِعَة، يُقهقِهُ، ويُردِّدُ: أُطعمُكُم منها، ولكنْ لا أُعطيكُم لا سرَّ الخَلْطَة، ولا من أيِّ الباعَةِ أُحضِرُ مُكوِّناتِها..

من الطَّرائِفِ التي أذكُرُها، أيضاً، أنَّني طلَبْتُ باتِّصالٍ على الجوَّال (نرجيلَةً) بعدَ السَّاعة الواحدة ليلاً (في مَنطقتِنا كانَ هناك أكثَر من محلّ يقومُ بخِدمَةِ إحضارِ النَّراجيل مُحضَّرَةً ومُشتعِلَةً وبكامِلِ عُدَّتِها إلى البُيوتِ)، فظنَّ خالد أنَّني أمزحُ، وعندما وصلَتِ النَّرجيلة دُهِشَ خالدٌ جدَّاً، وقالَ لي: سأضَعُ هذهِ اللَّقطة الطَّريفة التي تعكسُ طبيعةَ السُّوريِّين وحبَّهُم للحياةِ و(التَّنبلَة) في مَشهَدٍ في أحَدِ مُسلسلاتي القادِمَة.   

لي كذلكَ قصَّةٌ خاصَّةٌ جدَّاً مع خالد، تُظهِرُ مُروءتَهُ وفزعتَهُ الأصيلَة، لكنَّني سأتركُ روايتَها إلى الوقتِ المُناسِب، وسأختتِمُ تداعياتي هذهِ بِذِكْرِ آخِرِ اتِّصالٍ كانَ بينَنا قبلَ أقلّ من أُسبوعيْن من وفاتِهِ، حيثُ كانَ شديدَ التَّفاؤلِ بحراكِ السُّويداء، وأنهَى المُكالَمَة بآخِرِ جُمْلَةٍ سمعتُها منهُ في حياتي، ولا أُريدُ أنْ أُعلِّقَ عليها أبَداً: "ميزو اقترَبَ الفَرَج إنشالله.. اقترَبَ الفَرَج".. 

***

خامساً: خالد -في- حديقَةِ الموت

ليسَ الموتُ شيئاً يأتينا من الخارِجِ؛ إنَّما هوَ أصلٌ تكوينيٌّ فينا، وهذا ما كانَ خالد يعيهِ شخصيَّاً وفكريَّاً ووُجوديَّاً، ولا سيما بعدَ أنْ أجرَى عمَلاً جراحيَّاً كبيراً قبلَ سنواتٍ، وإذا أردنا أنْ نُعقلِنَ الموضوعَ قليلاً، ونُزايِدَ على ألَمِ فُقدانِهِ، أو أنْ نُجمِّلَ صفعَةَ رحيلِهِ، يُمكِنُ أنْ نقولَ إنَّ خالداً قد أدَّى دورَهُ بأكمَلِ وَجْهٍ، وحانَ وقتُ غِيابِهِ المادِّيِّ، لكنْ هل يُعزِّينا هذا الاعتقادُ (شبه السَّاذج)؟

رُبَّما، نعَم، ورُبَّما لا..

غيرَ أنَّني أرى أنَّ خالداً يُشبِهُ وصْفَ ممدوح عدوان لعلي الجندي في تقديمِهِ لأعمالِ علي الشِّعريَّة الكامِلَة، حينَما نعتَهُ بِـ (العاصِفَة)، وتساءَلَ: كيفَ أكتُبُ عاصِفَةً؟

خالد، أيضاً، كانَ عاصِفَةً بطريقَتِهِ، ولا أظنُّ أنَّ أحداً منَّا كانَ يتمنَّى أنْ يراهُ وقد اجتاحَهُ المرَضُ والعَجْزُ في عُمْرٍ كبيرٍ..

جميعُنا بالتَّأكيدِ يُحِبُّ أنْ يحتفِظَ بصورَةِ خالد المُتفجِّر طاقةً وحركَةً وحياةً، وهذا ليسَ تخريجاً لتهدِئَةِ القلوب، فلا عزاءَ لنا بغِيابِهِ أيَّاً كانَتِ المُسوِّغاتُ أوِ الافتراضاتُ، لكنَّهُ مدخَلٌ لكلامٍ قد يكونُ أكثَرَ إيلاماً من الموتِ نفسِهِ..

أعتقِدُ أنَّ من يُؤطِّرُ خالداً (الدِّينامو المُنغمِسُ في الحياة والملذَّات، والضَّاحِكُ ناشِرُ الفرحِ الاستثنائيّ)، بهذهِ الأبعاد فقط، يبقَى على السَّطحِ، فقلبُ خالد، ولا سيما في السَّنواتِ الأخيرَةِ كانَ فائِضَاً بالحُزنِ والأسَى الهائِلِ الذي يصعبُ فيهِ فصْلُ الشَّخصيِّ الخاصّ عنِ الوطنيِّ العامّ وعنِ الوُجوديِّ الكونيّ.

ومَنْ يُتابِعُ منشوراتِهِ في الأعوامِ الأخيرة على حسابِهِ في الفيس بوك سيعرفُ ذلكَ ببساطةٍ، وهذا ما يُذكِّرُني تلقائيَّاً بمَوقفٍ حدَثَ في إحدى جلساتِنا، وحفَرَ بقُوَّةٍ في ذاكرتي، حينَما قلتُ لخالد: إنَّ علي الجندي كانَ يُردِّدُ دائِماً مَقولَةَ أوسكار وايلد "المرحُ والمجونُ هُما قِناعُ قلْبٍ مُدمَّرٍ"، حيثُ التقطتُ لحظَتَها تأثُّرَ خالد العميق في مَلامِحِ وجهِهِ، وفي التفاتَتِهِ القَلِقَة وهوَ يقولُ شبهَ ساهٍ: معهُ حقّ..

ولعلَّ هذا الحُزن العميق، وتلكَ الرِّقَّة الشَّفيفَة، قد تجلَّيا سُلوكيَّاً بإهمالِهِ النِّسبيّ وعدمِ مُبالاتِهِ بصحَّتِهِ في أحيانٍ كثيرةٍ، وببقائِهِ فتراتٍ طويلَةٍ في الشَّاليه الذي اشتراه في منطقة (شاليهات الدِّراسات العُليا) شمال مدينة اللَّاذقيَّة، وبدا في الآوِنَةِ الأخيرَةِ أنَّهُ أحَبُّ الأماكِنِ إلى قلبِهِ، وكذلكَ في مَقالاتِهِ الرَّهيفَةِ اللّافِتَة في موقع (مجلَّة المجلَّة)، وكانَتْ آخِرُ تلكَ المَقالاتِ أشبه بتلويحةِ وداعٍ عذبة وحارَّة في الآنِ نفسِهِ، وهيَ بعُنوان: "حمص مدينة الضَّحك التي صارتْ أطلالاً وخرائب - ليسَ سهلاً أن تكونَ من أبنائِها"..

***

سادساً: الجنازةُ والوَعدُ والانتظارُ

كُنا أقلّ من ثلاثمائة شخص في وداعِهِ، وهوَ رقمٌ قليلٌ في جنازاتٍ سوريَّةٍ تقليديَّةٍ لأعلام مثل خالد، لكنَّهُ رقمٌ كبيرٌ في بلدٍ منهارٍ ومُمزَّقٍ، وهذا ما تَشِي بهِ أصلاً كواليسُ الجِنازَةِ وخلفيَّاتُها التي سيأتي الوقتُ المُناسِبُ للحديثِ عنها ذاتَ يومٍ.

التَّأثُّرُ والدُّموعُ و(التَّصفيقُ أمامَ/ ولجُثمانِ خالدٍ): ابتداءً بالتَّجمُّعِ أمامَ مشفى العبَّاسيِّين، مُروراً بلحظَةِ خُروجِ الجُثمانِ بعدَ الصَّلاةِ عليهِ من جامع (لالا باشا) في شارع بغداد، وانتهاءً بالدَّفن في مقبرة التَّغالبة (الشُّهداء) على سفحِ جبَلِ قاسيون في حيّ المُهاجرين، حيثُ سيُقيمُ خالدٌ مُطلَّاً على دمشقِهِ الحبيبة أبَداً، حارِساً هَواجِسَها ومَناماتِها وكوابيسِها في الوقتِ نفسِهِ، ومُنضمَّاً إلى قافِلَةٍ طويلَةٍ من بُناةِ رأسمالِها الرَّمزيّ والجَماليّ والحضاريّ..

هذا التَّصفيقُ الطَّويلُ في المرَّاتِ الثَّلاثَةِ لم يكُنْ سوى رسالَة احتجاجٍ مُضمَرٍ (ورُبَّما صريحٍ وجريءٍ) أرادَ إيصالُهُ أصدقاءُ خالدٍ وصديقاتُهُ بنَوْعٍ مِنَ غصَّةِ الوفاءِ وقسوَةِ الوَعدِ وإيماءاتِ التَّحدِّي: هذا ما جَرَى في شَراييننا المَقطوعَةِ نحنُ البقيَّةُ الباقيةُ مِنَ النَّازفينَ وجَعَاً، والصَّامدينَ أمَلاً في هذا البلدِ العظيم.

لا أُريدُ أنْ أجعَلَ من خالدٍ أيقونَةً أو صنَماً، وهوَ أصلاً لم يُرِدْ ذلكَ يوماً، ولا يُريدُ..

خالد المُحتفِي بهشاشَةِ النَّفْسِ البشريَّةِ، والمُنادِمُ بندِّيَّةٍ وضَراوَةٍ عُيُوبَهُ وأخطاءَهُ، كانَ يَعِي تماماً دلالَةَ النَّقصِ الوُجوديِّ، وجَماليَّةَ تثمينِ هذا النَّقص، وتثميرِهِ حياةً وإبداعاً، ولهذا، ولذاكَ، ولغَيرِهِما: هأنذا، وغيري، نَمضِي في الطَّريقِ مُسلَّحينَ بأحلامِ مَنْ مَرُّوا، وتعلَّمُوا.. مَنْ حمَلُوا الشُّعلَةَ، وعلَّمُوا.. معَ خالدٍ وقبلَهُ وبعدَهُ...

إنَّهُ الانتظارُ المُفضِي إلى وداعٍ، والوداعُ المُفضِي إلى انتظارٍ..

إنَّهُ الحِجابُ اللَّازِمُ كيْ أراكَ ولا أراكَ بوضُوحٍ دائماً كمَا لو أنَّكَ ما زلتَ ترقصُ ضاحكاً في عُرسي..

أيُّها المُراسِلُ الخَفِيُّ بينَ الحَريرِ والحَريقِ..

***

أخيراً، وليسَ آخِراً..

لا أدري يا (خلُّود) الغالي لماذا شَعرْتُ بعدَ خبَرِ رحيلِكَ مُباشَرَةً، أنَّ قصيدتي (وَردةٌ مَقطوفةٌ) المَنشورة في (جريدة القدس العربيّ اللَّندنيَّة) في 14 أيَّار/ مايو 2020، مَكتوبَةٌ (لكَ) و(عنْكَ)!

صِدْقاً، لا أدري لِمَ حَضَرَ هذا النَّصُّ في بالي تحديداً في لحظَةِ رحيلِكَ!  

ولا أعرِفُ، أيضاً، لماذا أحسَسْتُ أنَّهُ ينبغي أنْ يُهدَى إليكَ أنتَ بالذَّات.. إليكَ أنتَ أيُّها الحبيبُ ألْـ (خالدُ) في قُلوبِنا وعُقولِنا جميعاً..

وَردةٌ مَقطوفةٌ..

أنا البدايةُ المُختلِفةُ لوردةِ الوداع.

...

أخَذتُ منَ الذَّاكرةِ

قافلةَ الشُّجونِ الذَّهبيَّةِ

ومنَ الحَدْسِ

دريئةَ القُبَلِ وقد تكاثَرَتْ.

...

خفَّفتُ وزنَ الخوفِ

كأنَّني أصطادُ نفْسي

وأعدْتُ لأصابعي مَلْمَسَ الرِّيحِ.

...

نامَ الأُفُقُ على وسادتي

وتدحرجَ منهُ الحُبُّ إلى الخَلفِ

كحبَّاتِ السَّكاكرِ.

...

قلتُ للزَّمنِ المُحدودبِ:

يتَّسِعُ المكانُ للجميعِ!

...

أُغلِقَتِ المِظلَّاتُ

وأثقَلَ الماءُ أجنحةَ الفراشاتِ

ولم تتوقَّفْ شُرفةُ القلبِ

عن التَّلويحِ لغَيمةٍ تُشبهُ سكرانَ.

...

أطلْتُ النَّظَرَ في الحقلِ

حتَّى تكرَّرَ الغُروبُ مرَّتين

أتَى الصَّباحُ بأناقةِ غُرْبةٍ

ولم يجِدْ منِّي سوى الاستفهام.

...

المَتاهةُ لم تكُنْ هُنا

أمامَ العَدَساتِ البرَّاقةِ

إنَّها هُناكَ

في البئرِ العميقةِ المُظلِمَةِ

وفي الطَّريقِ المُلتفِّ كورقةِ شُوكولا

وفي الصَّمتِ الجَليلِ القاسي كالكَشفِ.

...

- يدي غصنٌ على شجرةِ الغِيابِ

كُلَّما حطَّ عليها الطَّائرُ الغريبُ كضَيفٍ عزيزٍ

ثُمَّ رحَلَ خِلسةً

فقدَتُ إصبعاً آخَرَ من أصابعِها.

...

- حُزني ليسَ ابتسامةً زائِغةً

إنَّهُ حُضورُ الوردةِ

وروحُها في وردةٍ مقطوفةٍ.

...

إنَّ للدَّمعةِ دمعةً أكبَر.