ربما لم يتوقع من يعرف تجربة الشاعر السوري حسان الجودي (المقيم في هولندا) أن يتوجه هذا الشاعر لكتابة أدب أطفال، فهو بحسب من يتابعه ويعرفه عن قرب من جيل الثمانينيات في القرن الماضي وكان شاعر الخيارات الأصعب في الجيل الجديد في ذلك الوقت، منهمكا في التجريب المستمرّ ويضع ذاته الشعرية أمام اختبارات جعلت شعره متجها بمتلقّ هو الآخر مركّب التكوين والمعرفة، وليس قارئا يحمل في أفكاره صورة مسبقة عما هو الشعر وعما هي القصيدة.
من هنا يأتي عدم التوقع في أن يضع الجودي في حسبانه أن يكتب قصة أطفال. ففي القصة ينبغي أن يغادر الكاتب أولا تجربة الشعر وتقنياته إذا كان شاعرا أو غير شاعر، ومن ثم تصبح المهمة أصعب حين تكون القصة خاصة بالأطفال. لكن الجودي ومن منطلق تنويع أساليب الكتابة وأهدافها تراه اختار أن يواجه الطفل بعالم أدبيّ مغامرٍ قائم على عدد من الصفات والملامح الخاصة التي سوف نراها خلال هذه القراءة لمجموعته القصصية (كيف تصبح عالِماً) الحاصلة على جائزة الدولة لأدب الطفل في قطر، وجاءت في 98 صفحة قطع كبير وملوّن.
العنوان المعطى للمجموعة هو عتبة أولى للفهم والتحليل النقدي هنا، فهو عنوان يصنع أفقا من الأسئلة الخاصة بمشروع القصة الطفلية التي ينتجها هذا الشاعر الكاتب الذي لا يريد من الطفل أن يصبح شاعرا مثلا! ولا يريد أن يحرضه على أن يصبح مقاتلاً أو سياسيا، بل يريد أن يستفز فيه قدراته التربوية والذهنية ليصبح عالِما! إذا فنحن أمام مشروع عالِم صغير يبنيه حسان الجودي. سوف يتكشف المشروع هذا عن عملية دقيقة تتضافر على صنعها عدة عوامل من أسلوب أدبيّ فني، وحسّ عالٍ بالمسؤولية تجاه شخصية الطفل وحاجاته التربوية والثقافية، إضافة إلى مضمون الرسالة الأخلاقية والعلمية التي يريد أن يوجه مدارك الطفل نحوها ليستفزّ فيه الأسئلة والفضول المعرفي الذي لا يتوقف عند الطفل.
تحمل القصص عناوين مثل: (كمية المطر) (الفانوس الأبيض) (درس في الرسم والهندسة) (مسابقة في شرب الماء) (كيف تصبح عالما) (دورةُ الماء). توحي هذه العناوين بما تحتويه القصص من قضايا يجعلها الكاتب هاجسا مشتركا فيما بينه وبين الطفل. وهي كما يظهر للوهلة الأولى مواضيع علمية بحتة تحتاج أن يتوفر الكاتب في داخله على شخصية علمية بحتة ليستطيع مخاطبة الطفل ليس لتعليمه فقط بل لإقناعه وتربيته بصورة لا مجال فيها للغشّ والادعاء. فأن تتحدث عن قضايا علمية لا يمكن أن تكون على معرفة عمومية فضفاضة فيها، فأنت هنا أمام الطفل الذي لا يوقفه حد عند سؤال ولا استفسار ولا معرفة، وعليك أن تكون مستعدا لتقديم كل أشكال المعرفة المطلوبة وبشكل تحترم فيه شخصيته وفضوله العلمي المشروع وغريزته في الاطلاع، اي أنك مسؤول أخلاقيا عن مصداقية المعلومات التي تلفت نظر الطفل إليها وتريده أن ينغمس في التفكير فيها أو وعيها. فهل كان الكاتب هنا جديرا بالقيام بهذه المهامّ كلها وهو في الأساس شاعرٌ خاض مشروع الشعر بعيدا عن الطفل وشخصيته ومعارفه؟
لا يريد الطفل أن تقول له تعال نمشِ بين الشجر ونحلم بالمستقبل مثلا! بل هو يسألك عن الشجرة والزهرة، عن الغيمة التي تمرّ فوقه الآن، وعن العصفور وماذا يشرب
حسان الجودي في قصته للطفل يدخل في تجربة ليست جديدة على شخصيته، فهو في الأصل يحمل دكتوراه في هندسة الموارد المائية من جامعة بولونية، ومارس العمل الأكاديمي في أكثر من جامعة عربية وأوروبية، أي أنه لا يأتي إلى قضايا كمية المطر ومسابقة شرب الماء ودورة الماء من فراغ ولا من اطلاع عموميّ. بل من منطلق علميّ أكاديميّ صرف، ومن هنا تحمل المسألة وجاهتها ومصداقيتها. هذا أولا، ثانيا هو خاض موضوع نموّ شخصية الطفل وعلاقته بالعلم والمعرفة من خلال حياة عائلية أنجب فيها طفلين كانت تبدو عليهما علامات نبوغ عبقريّ منذ سنواتهما الأولى، ونعتقد أن حياة طفليه ومواهبهما العلمية والأدبية حرضت فيه علاقة خاصة مع عقل الطفل وروحه وتكوينه واحتياجاته. فأدرك بالتجربة المباشرة أن الطفل ليس كائنا بسيطا ولا يمكن (اللعب عليه)، بل يجب (اللعب معه) وشتان بين الحالتين. أدرك بالواقع أن هناك طفلا عربيا مغررا به في مناهجنا وأدبنا لأنه يتم الاحتيال على قدراته والحطّ من شأنها، فأراد تقديم نموذج لقصة طفل مختلفة الاختلاف كله عما هو سائد وشائع.
لا يريد الطفل أن تقول له تعال نمشِ بين الشجر ونحلم بالمستقبل مثلا! بل هو يسألك عن الشجرة، وعن الزهرة عليها، عن الغيمة التي تمرّ فوقه الآن، عن العصفور وماذا يشرب، وكيف تنضج الثمرة، ومن أين يتكون ماء البحيرة... وعندما تجيبه على أسئلته هذه بصورة علمية ومسؤولة تكون قد أخذته إلى المستقبل!
في قصة (كمية المطر) ص 3 تسأله الطفلة أن يعبئوا مياه المطر في زجاجات مياه الشرب، فيقول لها كم سوف نحتاج من زجاجات للقيام بهذا؟ تجيبه "أعتقد أننا نحتاج إلى خمسين زجاجة" يضحك ويقول لها "اضربي هذا الرقم في الملايين".
سؤال الطفلة عن تعبئة المطر في زجاجات مياه الشرب هو سؤال شعريّ مجازيّ لا يتورع الطفل عن طرحه، وعلى الأب هنا أن يحول السؤال الشعري إلى مسألة علمية قائمة بذاتها وتتطلب حديثا بالأرقام والبراهين وليس بالمجازات، رغم أن اختصاص الشاعر العلميّ قابل كثيرا لاستعمال عبارات مجازية مشحونة بشعرية واضحة مثل (حصاد الماء) وهو تعبير علميّ جعل منه الشاعر عنوانا لأول ديوان شعر له!
يطرح كاتب الطفل هنا معلومات كافية عن المطر وكيف يمكن قياس كمياته بصورة علمية، يشرح للطفلة ذلك بالأرقام والحقائق، ويجيب على سؤالها حول كيفية الاستفادة من كميات المطر فيما لو عبئت في عشرين مليون زجاجة، ويبين لها فائدة ذلك على الأسرة الصغيرة وعلى القرية الصغيرة، فيجمع بذلك في خيال الطفلة بين همّ عائليّ وهمّ عامّ وطنيّ ولكن من غير أن يعلن لها شعارات وضجيجا وهميا.
في قصته الثانية (هلوسات) ص 8 يطرح للطفل قضية المرض بالحمّى، وماذا يعني ارتفاع الحرارة وما هي التغيرات التي تطرأ على أجسامنا حين تصاب بتلك الحمّى، وكيف نعالجها... ومن خلال حوار الطفل الذي يروي هنا القصة بلسانه وبين الأب يهرّب إليه الأب معلومات وحقائق جغرافية ومناخية عن حرارة الأرض والشجر والشمس. فيجمع بين أعراض الحمى على الطفل وبين موضوعات علمية كبرى وذلك بطريقة تجمع هي الأخرى بين جمال الأدب وجمال الحقيقة العلمية، أو بتعبير أكثر منهجية: شعرية الحقيقة العلمية، وهي شعرية بات ينشغل بها النقد العلميّ وعالم الفيزياء والجغرافيّ في السنوات الأخيرة، وهذا ما يوظفه حسان بمتعة وسلاسة في قصصه.
وحين يطرح الطفل على الأب أنه يعرف فائدة النحل فهو يعطينا العسل النافع، لا يكتفي الأب بهذه المعلومة بل يضيف للطفل أن النحل أيضا يساهم مساهمة أساسية في ثلثي المحاصيل الزراعية في العالم من خلال علمية اللقاح التي يقوم بها، ويسرد عليه معلومات أخرى في أهمية النحل حتى يخلق في نفس الطفل عاطفة الاحب والاحترام تجاه الحشرات التي هي جزء جوهريّ من حياتنا.
في القصة الثالثة (الرابط العجيب) ص 21 يسأل الأب الطفل هل قرأ في المجلة فقرة الرابط العجيب؟ ثم يشرح له ما تعني هذه العبارة، فيفهم الطفل أن هناك علاقة بين العشب الأخضر والمثلجات! تبدو هذه القضية وكأنها فلسفية محضة وغريبة ولا يصدقها العقل السطحيّ، لكن الكاتب من خلال شخصية الأب العلمية يحلل للطفل سرّ هذا الرابط لنكتشف حقا أنه رابط يحتاج لعقل تحليلي قادر على الجمع بين العناصر التي تبدو متنافرة ولا صلة منطقية بينها، في حين أن العلم يثبت أنها مرتبطة بعضها ببعض. من هنا يرغب الأب في أن يفكر ابنه في الرابط العجيب بين البحر وكعكة الميلاد مثلا، أو الرابط بين الماء والمصباح المضيء، وهكذا يترك طفله أمام اختبار معقد من أجل إيقاظ مداركه وقدراته الذهنية ومواهبه العقلية ليحلّ المسألة العلمية التي تبدو أقرب لقضية مجردة مستحيلة ليصل في النهاية إلى أن يكتشف "مزيدا من العلاقات والروابط الطريفة بين مختلف الأشياء في هذا الكون الفسيح".
تبدو قصة الرابط العجيب من الأهمية الخاصة جدا في عالم قصص الأطفال، ويمكن اعتبارها نموذجا مثاليا على كيفية تحريض الطفل على التفكير والمحاكمة وخلق العلاقات المعقولة بين الأشياء ذات الروابط غير المعقولة، قصة لا يمكن العثور على شبيه لها في نتاج قصة الطفل العربي مع الأسف. إن الكاتب هنا لا يدعو الطفل إلى أن يكون عالِما وحسب؛ بل وفيلسوفا! لأن المسألة الذهنية المعقدة في القصة تدخل في إطار المشاغل الفلسفية.
في عادات معرفتنا الشائعة عن حكايات ما قبل النوم للأطفال أنها حكايات تهدف إلى تنويم الطفل، وإذا كان ذلك عادة مقبولة لأجل تسهيل دخول جسد الطفل لمرحلة الاسترخاء والنوم، فإنه على الصعيد المعرفي والنقدي لا يريد حسان الجودي أن يحكي للطفل قصة تحرضه على النوم، بل تحرضه على الصحو، الصحو بكل ما في الكلمة من معانٍ تربوية وثقافية ونفسية. وهذا ما يفعله في قصائده بصورة عامة، لا يريد قارئا كسولا بل قارئا يزج بكل طاقاته الواعية في التعامل مع القصيدة.
من أجل أن يعيد حسان تركيب بعض العناصر الشائعة في ثقافة الطفل حين يحكي قصة (البساط الطائر) ص 60، فيعود إلى حكايته في ألف ليلة وليلة ليحرر البساط من مفهومه السحريّ الخرافي ويجعل له تفسيرا فيزيائيا يقنع خيال الطفل وعقله معا، ولكن لا يضحك عليه بأن يبقيه مأسوراً بالدلالة الخرافية التي لا تصدق للبساط الطائر ليصبح البساط السحري هذا هو الطائرة الحديثة!
ملخص الرأي هنا أن كاتب قصة الأطفال حسان الجودي يقدم لنا تجربة لا يوجد لها كثير من الأمثلة في واقع أدب الطفل العربي، مما يدل على قدرته الدائمة على ابتكار الأفكار والأشكال الكتابية المقنعة والمتكاملة في عناصرها وتأثيرها.