"قبل خمسين عاماً، علمتني شوارع لينينغراد قاعدة مفادها أنه إذا لم يكن من المعركة بد، فعليك أن تسدد الضربة الأولى".
لا تعبر هذه الفلسفة المنقولة عن لسان الرئيس الروسي عن سرد لطفولته ونشأته في لينين غراد، في منطقة اتسمت بالعنف وسط جوِّ مشحون بالشجار مع أقرانه أو مع من يفوقونه سناً وحجماً فحسب، لقد جعل بوتين من هذه الفلسفة طريقة للحكم وأسلوب حياة طغى على سياساته الداخلية والخارجية منذ محاولة توليه السلطة.
ظهر تعطشه إلى السلطة مبكراً، فلم يجد بأساً من الانضمام إلى الاستخبارات الروسية " كي جي بي" التي كانت تتمتع بسمعة سيئة للغاية، ثم استغل الفوضى الحاصلة في فترة انهيار الاتحاد السوفييتي وبنى لنفسه مكانة جعلت منه نجماً في محيطه.
ربما لم يتخلّ يوماً عن ولائه للاستخبارات وربما جعل منها ساعداً أيمن في ترسيخ قواعد سلطته، فأحاط نفسه بمساعدين ومستشارين مرتبطين بالعمل الاستخباري صانعاً منهم درعاً قوياً أمام المناوئين.
لم تستطع وسائل الإعلام الروسية الرسمية مهما ركزت على الجانب اللطيف منه لتوجيه الرأي العام الروسي، من تلميع صورته في ذهن بعض المعارضين
حلمه في إعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي كان هدفاً بعيداً في جميع الحملات التي شنها على معارضيه، ويعد السبب الرئيسي الذي حرك هجماته العسكرية في داخل روسيا وخارجها، فأصبح الرئيس الأكثر دكتاتورية منذ رحيل "ستالين" وصادق على تعديلات دستورية من شأنها أن تطيل فترة بقائه في الرئاسة حتى عام 2036.
لم تستطع وسائل الإعلام الروسية الرسمية مهما ركزت على الجانب اللطيف منه لتوجيه الرأي العام الروسي، من تلميع صورته في ذهن بعض المعارضين له، خصوصاً بعد ما حصل في الانتخابات الأخيرة التي كانت تحيط بها شبهات يشوبها الشك بالتزوير، علاوة على رغبة الجيل الجديد من الروس بالتغيير التي شكلت حافزاً شديداً للخروج في مظاهرات معارضة لنظامه.
المظاهرات التي اندلعت في يناير/كانون الثاني من طرف مناصري "أليكسي نافال" المعارض القديم لنظام بوتين، قُمعت بشدة واحتجزت الشرطة آلاف الشباب منها حتى إن "نافال" اعتُقل مباشرة بعد وصوله إلى البلاد، وبذلك فقد منحت تلك التحركات بوتين مجدداً رخصة للتعجيل في مشروعه التوسعي لتأسيس ما اصطلح عليه باسم العالم الروسي وعده مناصروه والعالم قيصراً حقيقياً بعد أن رسخ مقاليد حكمه.
الهوس بإعادة أمجاد روسيا القيصرية واعتقاده المستمر بأنه في منأىً عن العقاب، وتصويره على أنه زعيم القطب الأقوى بعد أميركا على أقل تقدير، أضاف من تضخيم حالة الغرور لديه فبدأت هجماته تزداد عنفاً في مواجهة حكومات وهيئات تدعي عدم القدرة على لجمه تاركة له حرية الاستمرار في البطش.
كانت علاقته بالغرب محكومة بالبرود لكنها لم تتعدّ أكثر من ذلك على خلفية تورطه بمحاولة اغتيال نافال بغاز الأعصاب، وزادت الأمور حدة بعد أن قام بما وصفه العالم الغربي بالتصرف الطائش حين بادر بالهجوم على أوكرانيا، لكن ذلك هو الآخر لم يكن سبباً كافياً على ما يبدو لاتخاذ موقف حقيقي ليكون كفيلاً بوضع حد لتصرفاته الإجرامية التي يدفع ثمنها المدنيون.
بين هذا وذاك أيضاً كان السبب في تدمير الشيشان بسبب القتال العنيف الذي أودى بحياة آلاف المدنيين بين عامي 1999 و2000، ثم اقتطع من جورجيا إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية انتقاماً من رئيس جورجيا الذي أظهر ميله نحو الغرب.
وبحسب أهدافه البعيدة شكل الغرب والناتو أزمة حقيقية لمطامعه القيصرية، فكان عليه إزاحة أي شبهة ولاء لهم من زعماء جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقاً، لبسط سيطرته وفرض الولاء له بشكل شخصي، وهو أمر تسبب بكوارث عسكرية جعلته يقدم على قرارات يصفها المحللون السياسيون بالرعناء، لكنه فعلها على الدوام من غير ردع أو محاسبة، بل وحقق منها مبتغاه بسلاسة قلّ نظيرها.
إشارات استفهام كثيرة قد تثيرها صفحات حياة زعيم يقحم بلاده في حروب وجبهات مختلفة ومتعددة في الوقت نفسه، من دون أن يسبب ذلك ضرراً أو أزمة حقيقية في بلاده، في وقت يستمر فيه بتوجيه السلاح نحو المدنيين من غير عواقب تُذكر على الصعيد السياسي أو من دون أن تتخذ الهيئات الدولية موقفاً ضده.
مؤخراً نشرت "كارلا ديل بونتي" وهي مدعية عامة سابقة في المحكمتين الجنائيتين الدوليتين في راوندا ويوغوسلافيا مذكراتها تحت عنوان: «المُطاردة، مجرمُو الحرب وأنا»، وعبرت في إحدى المقابلات أن بوتين لا بد أن يتحمل مسؤولية جرائمه في أوكرانيا بعد انتشار صور لمقابر جماعية فُتحت على أثرها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي تحقيقاً موسعاً، حول ارتكاب الجيش الروسي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
المعلومة ليست جديدة على الإطلاق فقد عبرت بولندا جارة أوكرانيا عن الرأي ذاته وفقاً لتصريح رئيس الوزراء "ماتيوز موراوسكي" في أكثر من مناسبة بقوله: "إن بوتين مجرم حرب"، ويجب محاكمته على هذا الأساس، وأن أمن بولندا معرض للخطر بسبب الحرب الروسية المستمرة على أوكرانيا، كما كان لـــ "جو بايدن" رأيا مماثلاً وعدّ "بوتين" قاتلاً على خلاف سلفه "ترامب" الذي جمعته مع بوتين علاقة طيبة.
التحقيق الذي أجرته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومنظمة الأمم المتحدة، توصل إلى أن نظام الأسد مسؤول عن تسع هجمات ضد المدنيين بالأسلحة الكيميائية
هل كان لذلك كله أثر إذن؟ لا يبدو أن أياً مما سبق قد غير شيئاً في وضع بوتين القانوني والسياسي، بل يبدو أنه يكتسب قوة أكثر مع الوقت على الرغم من تورطه في ملف الهجوم الكيميائي على المدنيين السوريين ومحاولة طمس الحقائق وتضليل المعلومات، وهو ما عبرت عنه الولايات المتحدة دوماً موضحة أن التحقيق الذي أجرته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومنظمة الأمم المتحدة، توصل إلى أن نظام الأسد مسؤول عن تسع هجمات ضد المدنيين بالأسلحة الكيميائية، فكيف يمر ذلك هو الآخر من دون نتائج إلا إذا كانت الدول المعنية مستفيدة من خطط بوتين وتوسعاته بطريقة أو بأخرى؟
ليس من الغريب إذن أن بوتين بعد ذلك كله ما زال رئيساً لإحدى أقوى الدول في العالم، وادعاء الدول العظمى صاحبة الأمر والنهي في ملفات الشرق الأوسط العجز وعدم القدرة على ردعه، وتظاهرها بالأسف على المدنيين الذين أزهق وأمثاله أرواحهم، الغريب فقط أن العالم سينساهم بعد حين، وسيذكر التاريخ الذي يكتبه الأقوياء والمنتصرون مجرمين لُمّعِتْ صورتهم بعناية تحت اسم حماية الوطن.