حوار لبناني يمدد الفراغ وينتظر تطورات سوريا

في غمرة التركيز الإقليمي على تسارع الأحداث في سوريا شمالاً وجنوباً، استطاع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري تشتيت الهجوم الضاغط الذي كان يتعرّض له على أساس محلي ودولي على أنه المعرقل الأول في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبات النقاش صاخباً حول المشاركة في حوار يؤدي إلى جلسات متتالية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

هو لم يحول الأنظار فقط من مكان إلى آخر وإبعاد الضغوط عنه، لكنه نجح أيضاً في شق كتلة المعارضة لفرنجية التي كانت تصنّف نفسها الكتلة المعارضة والبالغة أكثر من 41 نائباً ليصبح عددها الفعلي 31 نائباً التزموا حتى الآن قرار مقاطعة الحوار النيابي، والذي لا يحمل برنامجاً واضحاً ومحدّداً كمدخل إلزامي لدعوته إلى جلسات متلاحقة.

وهو بذلك أشعل أيضاً خلافاً داخل الكتلة المعارضة، كما سعى إلى إظهار وجود تفسخ في العلاقة بين هذه الكتلة المسيحية وبين البطريركية المارونية، وهو يسعى لمكسب إضافي يعيد إلى صورته صفة الشخصية الجامعة، بعد أن أدت معركته في تبني مرشح بشار الأسد المنبوذ دولياً لوضعه في خانة الطرف، وذلك عبر الامتناع عن الذهاب لعقد جلسة الحوار طالما أن هنالك مكونات سياسية ممثلة بالبرلمان تعارض وتمتنع عن المشاركة، وهو ما سيعطيه الحرص على رفض تهميش أي مكون سياسي، وهي صورة مرنة وجامعة غابت عن المسرح السياسي خلال الأشهر الماضية بسبب الاصطفاف الحاد الذي واكب ترشيح فرنجية.

وسيعمل بري على الاستفادة من وصول الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان مطلع الأسبوع المقبل، في جولته الأخيرة للمهمة التي كان قد كلفه بها الرئيس الفرنسي بالإضافة لتغطية من أركان الخلية الخماسية، ليعمل على تجيير كل الحركة التي أنتجها لودريان لمصلحة الثنائي الشيعي.

ثمة حرص أميركي على دور بري وموقعه كتيار شيعي أكثر براغماتية واتزاناً من حزب الله، وجاءت خطوته الحوارية بمثابة ورقة إضافية بين يديه تحصن دوره السياسي من أي ضغوط خارجية مرتقبة

وخلال زيارة المستشار الرئاسي الأميركي لشؤون أمن الطاقة الدولي آموس هوكشتاين إلى بيروت، والتي سجلت اجتماعاً إيجابياً مع بري، إضافة إلى خلوة امتدت أكثر من عشرين دقيقة، كان واضحاً أنّ الضغوط التي تعرّض لها بري من أعضاء في الكونغرس الأميركي لا علاقة لها بتوجه إدارة بايدن. لا بل على العكس، ثمة حرص أميركي على دور بري وموقعه كتيار شيعي أكثر براغماتية واتزاناً من حزب الله، وجاءت خطوته الحوارية بمثابة ورقة إضافية بين يديه تحصن دوره السياسي من أي ضغوط خارجية مرتقبة.

هو في اختصار نجح في استدراج الكتل السياسية إلى سجال حول الحوار المفترض، بعدما كان السجال يتركز سابقاً حول الدعوة لانعقاد جلسات لانتخاب رئيس للبلاد. وهو نقاش مفتوح سيعمل على ملء الوقت الضائع والفراغ القاتل الذي يحاصر لبنان في ظل التحولات الإقليمية. ومهما تكن المواقف السياسية المعلنة والتبريرات الإعلامية الجاري تسويقها.

إلا أن الجميع بات يركز على الحركة الخارجية القادرة وحدها على تحقيق الاختراق المطلوب. والمقصود هنا الحركة الأميركية القادرة على نسج التسويات على المستويين الإقليمي واللبناني، خصوصاً بعد الضربات القاسية التي تلقتها المبادرات الفرنسية في لبنان، وجعلت من باريس في موقع العاجز عن إنجاز التسويات والفاقدة لقدرة التأثير على الداخل اللبناني.

من هنا أتت أهمية الزيارة التي قام بها هوكشتاين للبنان، وخاصة أنها حملت رسائل محددة في عدد من محطاتها، والذين تابعوا زيارة المستشار الرئاسي الأميركي لبيروت لمسوا التفاؤل الذي حرص على إظهاره خلال لقاءاته مع الأطراف، وحتى بعد انتهاء مهمته في بيروت. فهو حرص على إبراز ملف الحدود البرية كبند أساسي في زيارته، مؤكداً عودته ثانية إلى لبنان لمتابعة جهوده ولو ليس في القريب العاجل نتيجة تطور الأمور المتعلقة بأمن الطاقة مع قرار روسيا والسعودية تخفيض إنتاجهما للنفط.

والمواقف التي أطلقها الرجل جاءت تزامناً مع بدء عمليات استكشاف الغاز في البلوك رقم 9، بعد نجاحه العام الماضي في إبرام الاتفاق بين لبنان وإسرائيل بدعم قطري لافت، وهو إنجاز أعطاه دفعاً قوياً على مستوى سجله الشخصي في إدارة بايدن.

كذلك فإن إنجازه الشخصي هذا دفع بشركات النفط العالمية لمحاولة الاستثمار في البلوكين 8 و9، وسط ترجيحات علمية أميركية باحتمال وجود كمية كبيرة من الغاز. وهذه الاندفاعة تدل على أن هذه الثروة الموجودة في المساحة البحرية اللبنانية في حاجة لشروط أساسية وفي طليعتها ضرورة تحقيق الاستقرار الأمني عند الحدود البحرية والبرية، وهذا الاستقرار بحاجة إلى تفاهمات عميقة تطول إعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط مع تنامي حدة الصراع في سوريا.

ولا يمكن فصل كل تلك التطورات عن الزيارة الرابعة لوزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان لبيروت في أقل من عام، وهذه الزيارة لها علاقة ولو بطريقة غير مباشرة بالتحركات الأميركية اتجاه لبنان. وكل الذين التقوا الدبلوماسي الإيراني لمسوا منه إشارات إيجابية لم تغب عن كلامه أيضاً في الملف الرئاسي اللبناني وفي تطورات العلاقة مع السعودية، في ظل تطور الأمور خلال الأيام الماضية بين السعودية وميليشيا الحوثي بعد جمود وتوتر ساد الاتفاق بين الجانبين، مع ما تسرب منذ أيام عن حزب الله بخصوص لقاء جاري التحضير له سيجمع الحوثيين والسعوديين في وقت ليس ببعيد، وستنتج منه تفاهمات.

 لكن هذه الإشارات الايجابية الصادرة من الزائرين الاميركي والايراني الى بيروت، لا تعنيان بالضرورة أن الأزمة اللبنانية اخذت طريقها الى حلول مرتقبة، لكنها تعني مسألتين أساسيتين: أولاً، انّ لبنان خرج ملفه من أدراج الجانبين، لكن ملفه مرتبط بتوقيت محدد مرتبط بتفاهمات واشنطن وطهران ومسارات الحسم الجارية في سوريا وما قد ينتج عنه من إضعاف للأسد.

لا بد من رصد الأحداث الكبيرة الدائرة على الساحة السورية، بدءاً من المعارك الدائرة في شمال شرقي سوريا والتبدّلات الحاصلة على مستوى التحالفات الميدانية، خصوصاً أن الطريق البري السريع الذي يربط إيران بسوريا وبيروت هو أحد العناوين الرئيسية لهذه المعارك

والثاني، أن لبنان يدخل في إطار الصورة الشاملة للمنطقة الجاري تحضيرها لمرحلة جديدة، تحمل مرتكزات ومعادلات مختلفة عن المراحل السابقة. وهذا الخطأ الذي يقع فيه كثير من الأطراف في طريقة مقاربتهم للأزمة في لبنان، كذلك فإن باريس نفسها وقعت في هذا الخطأ ما أدى إلى فشل كل مبادراتها المقترحة.

وعليه لا بد من رصد الأحداث الكبيرة الدائرة على الساحة السورية، بدءاً من المعارك الدائرة في شمال شرقي سوريا والتبدّلات الحاصلة على مستوى التحالفات الميدانية، خصوصاً أن الطريق البري السريع الذي يربط إيران بسوريا وبيروت هو أحد العناوين الرئيسية لهذه المعارك.

كذلك التطورات في جنوبي سوريا وتحديداً في السويداء، والتي تطاول جوهر النظام السوري الجديد. وليست مسألة بسيطة أبداً أن تدعو اللجان الممثلة في السويداء إلى تشكيل هيئة سياسية مدنية في المحافظة، تنبثق من مؤتمر سياسي سيجري عقده، وتكون أحد البنود الأساسية المطروحة للبحث في تعزيز مفهوم اللامركزية قابلة للتطبيق، إضافة إلى طرح الإدارة الذاتية وتحديد نقاطها، والدعوة إلى نظام سياسي جديد أنتجه الواقع الجديد لسوريا وأنضجته الظروف والتطورات الميدانية بسبب أداء النظام وحلفائه الإقليميين والسكوت العالمي على تغيير ديموغرافية أهم دول المشرق العربي.

وهذا التطور يعكس مؤشرات كبيرة سيتأثر به حتماً لبنان والعراق والكيان الإسرائيلي. ومن يعتقد أن الخريطة السياسية الجديدة في الشرق الأوسط والجاري رسمها بعناية، محصورة فقط بأسباب ودوافع شرق أوسطية، إنما يقارب المسألة بكثير من الخفة، لذا فإن دعوة بري للحوار والتي تتخذ طابعاً شكلياً وغير جاد، تنتظر أيضاً سياقات الواقع السوري المتأزم والمفتوح على التطورات.