"حماية الدولة" كتاب صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن "سلسلة ترجمان"، لمؤلفه ديفيد أوماند وترجمة عمرو الملاح. يقع الكتاب في 552 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
تدرك الحكومات أن الأمن القومي في الأوضاع المضطربة في بداية هذا القرن، يجب أن يركز على خلق ثقة الجمهور بأن الحياة الطبيعية يمكن أن تستمر حتى في مواجهة التهديدات مثل الإرهاب، والأخطار الطبيعية مثل الأوبئة، وتغيّرات المناخ. ويرى أوماند، استنادًا إلى تجربته الخاصة في الحكومة، أنه في حين أن الأمن العام أمر حيوي للحكومة الجيدة، فإن الحكومة السيئة سينجم عنها الفشل في الحفاظ على العلاقة الصحيحة بين العدالة والحرية والخصوصية والوئام المدني والتدابير الأمنية. يدرس الكتاب بالتفصيل كيف تساعد الاستخبارات السرية الحكومات على توفير الأمن، لكنه يخاطر أيضًا بإثارة قلق الجمهور بشأن أساليبها. لذلك، يقترح مجموعة من المبادئ الأخلاقية لتوجيه العمل الاستخباري والأمني في إطار حقوق الإنسان، ويفحص القضايا الناشئة عن استخدام الذكاء الحديث التكنولوجيا للوصول إلى مصادر جديدة للمعلومات، ويناقش كيف يمكن توضيح معنى الاستخبارات على أفضل وجه. ويقدم أوماند وجهات نظر جديدة للممارسين وأولئك الذين يعلّمون دراسات الأمن والاستخبارات، كما يسهّل الوصول إلى القضايا الملحّة للسياسة العامة.
القيمة العامة للاستخبارات
يتخذ عالم الأمن القومي والمعلومات الاستخبارية موقفًا عقلانيًا قويًا استنادًا إلى افتراض مفاده أن من شأن توافر المزيد من المعلومات أن يسفر عن قدرٍ أقل من الجهل، إذًا، يمكن اتخاذ قرارات أفضل، قائمة على المعرفة، وتحظى بفرصة أكبر في أن تكون مواتية، ومن ثم يمكن أن تفضي إلى تحقيق نتائج أفضل. ولا يمنح امتلاك الأسرار ميزة في الحالات كلها، وليس من الممكن دومًا اتخاذ إجراءات بناءً عليها. وليست المعرفة السرية مبعثًا للراحة لدى الحكومة في الكثير من الحالات، ولعل ثمة تشابهًا مع مرضى يطّلعون على ملفهم الوراثي، كاشفين عن وجود استعداد لديهم للإصابة بمرض خطر في الأعوام المقبلة، لا يمكنهم فعل أي شيء تجاهه، غير أن الإلمام به قد يُحدث تغييرات جوهرية في حياتهم.
بيد أن الأمل، مع ذلك، معقود على أن يُحدث التقييم الاستخباري فارقًا بَيِّنًا، وأن يؤدي إلى تعزيز القرارات. وهناك، بطبيعة الحال، بعض الأوقات التي لن توفر فيها المعلومات الاستخبارية الجيدة سوى المعرفة اليقينية بالعمل بلا هوادة، انطلاقًا من سيرورة تاريخية تعجز الحكومات عن إيقافها. وكان انحدار الإمبراطورية البريطانية، على سبيل المثال، ينطوي على تغيرات اقتصادية واجتماعية واسعة إلى حدٍّ يحول دون تأثّرها بالمناورات التكتيكية من جانب الحكومات البريطانية المتعاقبة، على الرغم من أنّ ذلك ربما لم يكن جليًّا لحكام بريطانيا آنذاك.
ينبغي للنهج العقلاني أن يسفر عن نتائج لا بد من أن تؤدي في المتوسط إلى حظوظ أفضل في النجاح بالنسبة إلى الحكومة المعنية. بيد أن صانعي السياسات والقادة العسكريين ما فتئوا يتّخذون بعض القرارات الخاطئة، نظرًا إلى أنهم مضللون في بعض الأحيان بفعل أدلّة مغلوطة، أو لأن الافتقار إلى الدلائل أمر يبعث على التضليل، وفي بعض الأحيان بسبب ذلك فحسب.
وتبيّن التجربة أيضًا أنه حينما يوشك الوضع أن يتغير على نحو هائل جدًا، وتكون الحكومات مقبلة على مواجهة مفاجآت كبرى، فمن المرجّح أنّ القاعدة المستندة إلى الدلائل والتحليل ستصيب صانعي السياسات بالإحباط، وهي سمة غالبًا ما تطبع العالم بطابعها.
ما المفاجأة؟
تنطوي المفاجأة العسكرية على الجرأة، وأخذ العدوّ على حين غفلة، ومن ثمّ، جعله في وضع غير مواتٍ، إضافةً إلى وضع قادته في حالة نفسية مشوشة بعد أن أُخذوا على حين غرّة، وهي حالة من شأنها أن تؤدي بعد ذلك إلى إخفاقات خطرة في استجابتهم، ما يزيد من حدة مشكلاتهم. ويتعيّن علينا اليوم أن ننظر في شكل آخر من أشكال المفاجأة التي تحدث عندما تكون هناك أزمة غير متوقعة تؤثر في نسيج الحياة اليومية، ولا سيما تلك التي تلحق بالمجتمع من الإرهابي الذي تُعدّ المفاجأة بالنسبة إليه بمنزلة أداة تكتيكية وسلاحًا استراتيجيًا على حد سواء.
أما في ما يتصل بصانعي السياسات الأمنية، فإن الخطر العام الذي تمثله الصدمة جراء الأحداث غير المتوقعة المحتملة هو الذي يجب أن يتصدر اهتماماتهم. ويُعدّ الخطر نتاجًا للاحتمال، والضعف، والتأثير إذا ما وقع الحدث. وسيشتمل الاستثمار في الأمن في معظم الحالات على توازن بين، من ناحية، التدابير الرامية إلى الحد من المخاطر الكبرى الناجمة عن مزيج من الاحتمال الضئيل الذي قد يكون من العسير التأثير فيه من طريق السياسة، المقترن بمستويات مرتفعة من الضعف والتأثير المحتمل؛ ومن ناحية أخرى، التدابير الرامية إلى الحد من الأخطار الجسيمة الناجمة عن الأحداث التي قد تكون أكثر احتمالًا، لكنها أقل قابلية للتأثر والتأثير. فتحدّ الأولى من المخاطر عبر التقليل إلى أدنى حد ممكن من الأضرار الناشئة عن الأحداث التي تكون قليلة الاحتمال، لكنها شديدة التأثير (أسوأ ما يمكن للعدوّ أن يفعله بك)، وتقلل الأخيرة من المخاطر من طريق تحقيق أقصى قدر من الحد الأدنى من الضمانات في مواجهة الأحداث التي يزداد احتمال وقوعها، لكنها ذات تأثير أقل (أفضل مستوى عام للأمن يمكن تقديمه إلى الجمهور).
إن ما يريده صانع السياسة عادةً في المقام الأول من محلل المعلومات الاستخبارية، أو خبير الأرصاد الجوية، أو خبير الزلازل، أو الاختصاصي في العلوم السياسية، أو المتنبئ بالمستقبل، هو تقدير الاحتمالات. ويمكن اتخاذ مزيد من التدابير الأمنية للحد من الاحتمالات، إذا قُدّر أن ذلك فعّال من حيث التكلفة، لتقليل المخاطر العامة. وهناك تلك الأحداث العادية التي هي النتيجة الحتمية للعيش مع نظم تفاعلية معقدة للغاية.
بناء مجتمع الاستخبارات
لقد استمد مجتمع الاستخبارات في الماضي مجمل صبغته العاطفية من الجانب الخاص بالاستخبارات البشرية في العمل الاستخباري. بل يجري تعيين المحللين بوسائل تعزز ثقافة الواجب السري هذه. وفي ذلك العالم، يجب أن تكون مستويات الثقة بمن هم داخل الحلقة السحرية عالية، بينما يمكن أن تكون توقعات من هم في خارجها في هذا الصدد، سواء أكانوا من السياسيين أم البيروقراطيين أم ضباط الشرطة، منخفضة في المقابل. وسيواجه أولئك الموجودون في داخلها ممن لا يحترمون ما يمكن تسميته بالقيم الأخلاقية للمهنة وقتًا عصيبًا. وهي ظاهرة دينامية نفسية نتوقع رؤيتها في ضابط الاستخبارات، كما هي الحال في المهن الأخرى ذات المتطلبات المماثلة في ما يتعلق بقواعد الثقة المتبادلة التي تشمل في ما تشمله القوات المسلحة، وصولًا إلى خدمات الإطفاء أو الطبابة. وتقيم مثل هذه الجماعات دفاعات اجتماعية، وتميل إلى مقاومة أي تغيير ينظر إليه (مهما كان ذلك خاطئًا) على أنه ينطوي على مخاطر تهدّد بإضعاف جوهر القيم الأخلاقية المشتركة الضرورية للبقاء النفسي في بيئة كهذه. وسيحتاج أولئك الذين يقودون التغيير إلى دعم قوي للاضطلاع بالمهمات الملقاة على عاتقهم.
كما هو الحال بالنسبة إلى المهن الأخرى ذات المخاطر العالية، يمكن أيضًا أن توجد طبيعة المعلومات الاستخبارية موضوع البحث مستويات عالية من التوتر، خصوصًا، نظرًا إلى التنافر الداخلي بين الأهداف المتضاربة والمتنافرة أصلًا، مثل الحاجة إلى الحفاظ على الشعور بالاعتزاز بالنفس والقيم الشخصية، والتصرف بأسلوب معدّ لإنجاز مهمات من أجل الحصول على النتائج، ومن الأمثلة على ذلك التلاعب بدوافع أحد المخبرين المحتملين. ويغدو التوتر بالنسبة إلى البعض عظيمًا جدًا، وإذا لم يعمل الفرد على استيعاب توقعات المنظمة الاستخباراتية للسلوك في مثل هذه المواقف على نحو كافٍ، فعندئذ قد تكون الخطوة التالية أخبارًا تتصدر عناوين الصحف. ويمكن أن يُظهر المجتمعات والمنظمات وكذلك الأفراد ضغوطًا جماعية، وفي تلك الحالة، تصبح العلاقات الاقتصادية العقلانية بين الأصيل والوكيل غارقة في ديناميات العواطف والمشاعر.