عادت المسألة الحدودية للواجهة من جديد مع الركود الحاصل على الساحة اللبنانية بما يخص الملف الرئاسي الأبرز، والذي تتعلق به مختلف قضايا لبنان المتعثرة والتي لا تنتهي.
المشهد اللبناني القاتم نجا من فتنة الشمال بين بشري وبقاع صفرين التي تؤكد التحقيقات بأن لا خلفيات سياسية للحادثة أو تحريك متعمد من أطراف معينة، بل حادثة متعلقة بالنزاع التاريخي على القرنة السوداء والأراضي المحيطة.
على الرغم من أن المسألة تم تطويقها بسرعة وسحب فتيلة الفتنة منها إلا أن مشكلات لبنان المختلفة أجبرت البلد على الاستمرار في حبس الأنفاس دون توقف أو استراحة. فتلويح نواب حاكم مصرف لبنان، قبيل انتهاء مدة ولايته، بالاستقالة- في ظل حكومة تصريف أعمال متنازع عليها سيتعذر عليها على الأغلب تعيين بديل عنه- يعني احتمالية مضاعفة الأزمة النقدية اللبنانية وانفلات العملة بشكل هستيري إن حصل السيناريو الأسوأ وهو الفراغ التام في قيادة المركزي.
يقبع حزب الله والثنائي الشيعي في عمق هذه الأزمة وبشكل مباشر، فلم يرد الثنائي الشيعي لنائب الحاكم الأول للمركزي وسيم منصوري المحسوب على الرئيس بري تسلم قيادة المصرف بعد سلامة لعدم تحمل الأزمة النقدية القادمة والسابقة، إلا أنهم بمرحلة من المراحل وبعد مشاورة لم تخلُ من اختلاف في وجهات النظر بين الحزب والحركة مال الثنائي إلى قبول الاستلام. لهذا الغرض جال منصوري في الولايات المتحدة في جولة كانت خلاصتها سلبية عاد بعدها منصوري أقرب لرفض المنصب.
صعّد نواب حاكم مصرف لبنان عندها في بيان عد هجوما على الطبقة السياسية وتنصلا من المسؤوليات القادمة. إذا، فملف الحاكمية الضاغط والذي تحول من المارونية تاريخيا ترمى كرته الملتهبة اليوم في حجر الثنائي الشيعي للأسباب التي ذكرنا.
رفض حزب الله لانعقاد الجلسة كان وجيها. فعلى الرغم من تصويرهم لنتيجة الجلسة كانتصار إلا أنها في الواقع ضاعفت من تراجع حظوظ مرشحه سليمان فرنجية الرئاسية
ملف ثانٍ يقلق حزب الله وهو الملف الرئاسي بخاصة بعد الصفعة التي تلقاها. فعلى الرغم من كون جلسة الرئاسة الأخيرة لم تكن من مصلحته، فقد أصر على انعقاد الجلسة الرئيس بري لرفضه التراجع عن وعده بعقد جلسة فور توحد المعارضة على اسم محدد وهو ما كان مع المرشح الوزير السابق جهاد أزعور.
رفض حزب الله لانعقاد الجلسة كان وجيها. فعلى الرغم من تصويرهم لنتيجة الجلسة كانتصار إلا أنها في الواقع ضاعفت من تراجع حظوظ مرشحه سليمان فرنجية الرئاسية. فالحزب الذي فعل كل ما بوسعه لرفع نتيجة فرنجية للحد الأقصى، مستعينا بكل الأدوات ومنها رجل الأعمال المعروف نقولا الصحناوي الذي جير له عدد من أصوات النواب، لم يستطع فرنجية رغم ذلك الحصول على أكثر من 51 صوتا من أصل 128 وهو ما عد الحد الأقصى الذي يمكن أن يحصل عليه مرشح الثنائي في أي مواجهة ديمقراطية حقيقية.
تداعيات هذه النتيجة تجلت في زيارة المبعوث الفرنسي "لودريون" الأخيرة إلى لبنان والتي انطلق فيها بالسؤال عن بدائل عن المبادرة الفرنسية في اعتراف غير مباشر ولكن واضح عن انفتاح فرنسا على طروحات جديدة وبالتالي تراجع الطرح السابق المتمسك برئاسة فرنجية.
يحاول الحزب التكيف مع هذه المعضلات وعينه على تغيير في النظام اللبناني إما بقوة الأمر الواقع والنفوذ كما حدث في حقبة الرئيس عون الذي امتلك فيها الحزب الفيتو على الحكومات وكل ما له علاقة بها عبر رئيس الجمهورية وهو ما يحاول تثبيته في هذه الانتخابات عن طريق إيصال مرشحه المباشر للمرة الثانية على التوالي وهي التي ستعد سابقة في تاريخ لبنان، وإما عن طريق مواقع جديدة يحصل عليها في تركيبة الدولة.
لكن يبدو أن خيارات حزب الله هذه صعبة التحقق بحسب المعطيات الحالية وهو ما يجعل الأخير في مأزق سيجبره على التنازل.
إضافة، لا يخاف الحزب بسبب إمكانية تحميل ممثله في حاكمية مصرف لبنان الانهيار الحاصل والقادم وإمكانية فشله في الحصول على ما يريد في الموقع اللبناني الأول وانعكاسات ذلك عليه، ولكنه يحاول سريعا تلافي تململ بيئته التي بدأت تتسآل ماذا بعد الترسيم البحري وهل سحبت أسباب النزاع مع إسرائيل؟
حاول الحزب من خلال نصب خيميتين في المنطقة المتنازع عليها في مزارع شبعا التأكيد بأن قضية المقاومة المركزية لم تنته في لبنان وبأن الصراع مع إسرائيل مستمر وقد قدم هذه المسألة بذكاء من خلال خيمتين رمزيتين وجه بهما رسالة للداخل والخارج في وقت لا يريد الحزب، ومن خلفه إيران وأميركا، أي حرب بينه وبين إسرائيل. طبعا ليس الهدف من الخيمتين البيئة الداخلية للحزب فقط بل يصاحب ذلك رسالة إقليمية ودولية وداخلية مع إدراك الحزب حدود النزاع مع إسرائيل في هذه الظروف وإدراكه كذلك صعوبة توجيه إسرائيل لضربة وما يترتب عليه من نزاع قد يكون مفتوح لا يتحمله أحد ويأمل بأن تكون الطريقة فعالة لإيقاف قدِم إسرائيل لبلدة "الغجر" جنوبي لبنان هي لعبة ذكية، بالمجمل، تفيد حزب الله على كامل الأصعدة.
يتشدد اليوم حزب الله للحصول على أعلى مستوى من المكتسبات إلا أنه لن يخرج عن كونه رفعا للسقف كجزء من المخاض الطبيعي للتفاوض الإقليمي-اللبناني
بشكل عام، لا يبدو حزب الله بأفضل حال نظرا للظروف التي تحيط به إلا أنه يحاول التكيّف والمنازعة للبقاء على الخريطة والحفاظ على المكتسبات التي سيخسر جزءا منها لا محالة نظرا للتغييرات في المنطقة وهي التي بدأت في سوريا في وقت سابق، فقد أجبر حزب الله على إعادة التموضع والتراجع في مختلف المناطق السورية لمصلحة الاتفاق السعودي-السوري. يعتبر هذا الفعل تراجعا لحزب الله ولو أنه يصب في مصلحة الرئيس الأسد الحليف ولكنه تراجعا على أي حال مهما أخفي الأمر.
يتشدد اليوم حزب الله للحصول على أعلى مستوى من المكتسبات إلا أنه لن يخرج عن كونه رفعا للسقف كجزء من المخاض الطبيعي للتفاوض الإقليمي-اللبناني وهو ما سيترتب عليه أضرار للحزب وشيء من التراجع عن الذروة التي وصل إليها في السنوات الأخيرة ولن تكون المكاسب كلية كما يتصور جمهوره أو على الأقل كما يتمنى.
فعندما توضع طاولة المفاوضات عليه تقديم شيء في وقت يصر بأن لا شيء لديه يمكن أن يتخلى عنه وهنا معضلة يبحث لها عن حل..