يتزايد وقع الأزمات الحاصلة بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس حكومة الحرب الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهذه الأزمات المفتوحة مردها حالة الإحراج التي سببتها حرب غزة للإدارة الديموقراطية على بعد أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، وخاصة أن نتنياهو يجهد بشكل حثيث لتوسيع الحرب ونقل التوتر لكل الجبهات.
وبات عنوان نتنياهو الأبرز أنه بات من الواجب مواجهة إيران وحزب الله والتي تتهرب الولايات المتحدة من مواجهتهم، لذا يضغط نتنياهو ووزراء اليمين الإسرائيلي لتوجيه ضربات متتالية ضد إيران وحزب الله على كل الخارطة الإقليمية المفتوحة على الصراع.
وأمام هذه الرقعة الجغرافية المشتعلة والتي تنهك العالم أجمع، ثمة مساحات صراعية أخرى بدأت بالعودة للتوتر، وتحديداً في أوكرانيا، من هذا المنطلق سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل سنوات لحشد حضوره العسكري والاستخباري على الساحل السوري المطل على كل المنطقة، إضافة إلى تركيز حضوره في الساحل الجزائري وما بينهما الساحل الليبي عبر تحالفه مع خليفة حفتر.
في المقابل ومع فوز الإدارة الديموقراطية ووصولها للبيت الأبيض، أعاد بايدن إحياء حلف شمال الأطلسي، بعد أن تعايش مع الروتين والهدوء، وجرى العمل على صياغة رؤية مستقبلية جديدة له من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم، وهذا المسار عززته الحرب الأوكرانية، بالتوازي مع توسيع واشنطن لحضورها العسكري على مساحات مختلفة وباتت موجودة بشكل رسمي في أكثر من 90 دولة وتوسيع شراكاتها الإقليمية في ظل ما كان يحكى دائماً عن انسحاب أميركي من المنطقة، في حين عمل بايدن على تكريس هذا الحضور عبر إعادة استنهاض الناتو.
فرضت حرب غزة وتداعياتها على الإدارة الأميركية إعادة حشد القوة العسكرية برية وبحرية وجوية، طالت للمرة الأولى منذ عقود البحر المتوسط بكل مساحاته وشواطئه
ومع لحظة "طوفان الأقصى" والتي فاجأت الجميع، كان لا بد من إعادة صناعة سياسة جديدة للعالم القديم، وتغيير لخريطة النفوذ والتي كانت تملؤها إيران وتركيا وإسرائيل، لذا فرضت حرب غزة وتداعياتها على الإدارة الأميركية إعادة حشد القوة العسكرية البرية والبحرية والجوية، طالت للمرة الأولى منذ عقود البحر المتوسط بكل مساحاته وشواطئه، في ظل الحرب التي اندلعت في البحر الأحمر، حيث الممرات المائية لشرايين التجارة العالمية.
لذا كان واضحاً أن الإدارة في واشنطن التي تصنع صورتها كقوة عسكرية فاعلة تنطلق من حضورها العسكري البحري، ولذلك قررت إعادة فرض نفسها من خلال دورها الفاعل في حرب غزة، عبر تأكيد نفوذها على الممرات المائية الاستراتيجية في قناة السويس ومضيق هرمز والبحر الأحمر.
وأمام الاهتمام الأميركي بمعالجة أزمات الممرات المائية والمضائق، تعود إيران للتلويح بتفاهماتها العسكرية مع روسيا والصين، على الرغم من كل الانشغال الروسي في أوكرانيا والغياب الصيني عن الأحداث الإقليمية، ما أشعر إيران أنها متروكة، لذا تأتي المناورات البحرية الصينية ـ الروسية ـ الإيرانية والتي بدأت في المياه الإقليمية الإيرانية منذ أيام، والتي ستشمل المرور في البحر العماني على مقربة من قواعد أميركية في المنطقة.
وتأتي هذه المناورة لتحاكي بأدائها شكل النزاع القائم حول الممرات المائية في البحر الأحمر، على اعتبار إيران تخوض مواجهة بحرية من خلال جماعة الحوثي، وهي توحي من خلال هذه المناورة أن حلفاءها يقفون إلى جانبها، في ظل التوتر بينها وبين واشنطن، لكن كل التجارب تؤكد أن الأميركيين لا يتركون المضائق الحيوية في العالم معرضة لأي خطر استراتيجي داهم.
بالتوازي فإن موسكو الغائبة عن مسرح الأحداث فعلياً، أعادت ترتيب عودتها للمنطقة من بوابة الدفع بتمركزها في البحر الأحمر عبر عقد اتفاق سري مع التدخل السريع في السودان للاقتراب من دون إحداث جلبة من قناة السويس، وذلك عبر السعي للحصول على قاعدة بحرية على الشاطئ السوداني، ما يجعلها جزءاً من القوى المتحكمة بالحركة البحرية في البحر الأحمر، في ظل عدم القدرة على تطوير مرفأ طرطوس ليصبح أكثر ملاءمة مع الطموحات العسكرية لبوتين.
من هنا يمكن فهم الخلفية الجدية للخطوة الأميركية بإنشاء الرصيف البحري لإغاثة غزة، والذي سيكون مرتبطاً بجسر بحري وآخر جوي يمتد من قبرص وصولاً إلى ساحل غزة والذي يكثر الكلام عن غزارة الثروة النفطية والغازية الموجود أمامه، ما يعني أنه سيكون خطاً عسكرياً ثابتاً ومتحركاً سيشكل سداً منيعاً أمام الخط المنوي إنشاؤه بين روسيا وإيران أي خط سوريا – ليبيا والسودان.
وهذا التسابق المحموم بين واشنطن وموسكو وطهران على سواحل شرق البحر المتوسط والذي يشمل الساحلين السوري واللبناني، هدفه حجز مقاعد متقدمة للجانبين أو لحلفائهم في لعبة النفوذ البحري، وعليه يمكن فهم التسابق الأميركي والإماراتي والصيني على مرفأ طرابلس شمال لبنان، والذي سيعزز مكانة مهمة للطرف الحاضر به، بكونه المرفأ المحاذي لمرفأي طرطوس واللاذقية، ومن هنا يمكن فهم إصرار واشنطن على منع حصول تصادم عسكري بين إسرائيل وحزب الله.
لذا فإن المبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين والذي زار لبنان منذ أيام، وضع تصوره للحل أمام الرئيس نبيه بري بكونه صلة الوصل مع حليف إيران الرئيسي أي حزب الله، ومن ثم غادر على أمل العودة مع بدء هدنة رمضان في قطاع غزة، لكن ما أثار صدمة الجميع هو عجز واشنطن عن تحقيق الهدنة بعد انهيار اجتماعات القاهرة وقبلها لقاءات باريس المخابراتية، بعد رفع السقوف بين حماس وإسرائيل.
وعلى الرغم من النزاع القائم بين حكومة الحرب الإسرائيلية برئاسة نتنياهو وبين إدارة الرئيس بايدن، ثمة تقاطعات أميركية مع إسرائيل، فيما يتعلق بالوضع السياسي والعسكري في لبنان، ووجود قناعة شبه مشتركة على تحجيم الدور العسكري لحزب الله في سوريا ولبنان، وأهداف إسرائيل المتعلقة بأمنها، تترابط مع أسباب أشمل لواشنطن تتعلق بتخفيف إخضاع لبنان كلياً لإيران، بدليل الغطاء لحركة تجميع المعارضة اللبنانية.
يبدو أن رهان حزب الله القائم حتى اللحظة هو على تزايد منسوب التوتر بين واشنطن وحكومة الحرب اليمينية وعلى توسيع دائرة الإجراءات الأميركية ضد حكومة نتنياهو، لإلزامها وقف الحرب
ويبدو أن حزب الله مصرّ على قاعدة أنه لن يفاوض قبل وقف إطلاق النار في غزة، لذا فالأمور مرشحة لأن تبقى تراوح مكانها ولو مع احتمال ارتفاع مستوى التصعيد الميداني ولو جزئياً، واستمرار سياسية الاغتيالات السياسية والأمنية لقادة من حزب الله وحماس وفصائل أخرى.
في نهاية المطاف يبدو أن رهان حزب الله القائم حتى اللحظة هو على تزايد منسوب التوتر بين واشنطن وحكومة الحرب اليمينية وعلى توسيع دائرة الإجراءات الأميركية ضد حكومة نتنياهو، لإلزامها وقف الحرب. وهذا ما عبر عنه حسن نصر الله بشكل لافت، حين ألمح لقدرة بايدن على وقف الحرب بسرعة فائقة.
وبالتالي تتوقف المواجهات في كل المنطقة، لذا يراهن الحزب على حالة التوتر والتعب الإسرائيلية من استمرار المواجهات في ظل الانقسامات الداخلية، ما سيدفعه إلى اختيار لحظة التصعيد في حينها، بهدف استعادة معادلة توازن الردع، لتحسين موقفه الدفاعي بالهجوم، والذهاب بعدها إلى مفاوضات ندية، لكن يبدو أن تحليلات حزب الله تعول على حصان نتنياهو المتعثر وليس على حقائق الميدان.