بعد انعقاد الجولة الرابعة من المباحثات بين الوفدين التركي والأرميني، راحت الأبواب الموصدة بين الطرفين تُفتح الواحد تلو الآخر. فبعد الإقرار بفتح الحدود البرية بين تركيا وأرمينيا أمام رعايا الدول الأخرى ممن يزورون البلدين، وإقرار الشروع في الإجراءات اللازمة في هذا الصدد وأيضاً الاتفاق على إطلاق الشحن الجوي التجاري المباشر بين أنقرة ويريفان في أقرب وقت والأهم من كل هذا الاتفاق على اتخاذ خطوات ملموسة من أجل ضمان التطبيع الكامل بين البلدين، وفي حال نجاح البلدين في الوصول للتطبيع الكامل سوف تفتح أبواب استراتيجية كبيرة لتركيا من شأنها تغير موقفها الجيوستراتيجي وحتى الثقل الاستراتيجي في كل آسيا مما يعزز موقعها وقوتها أمام الغرب القوي.
ولو تمعنا تاريخياً ولو بعجالة في التاريخ الأرمني الحديث (وفقاً للمصادر التركية)؛ عندما بدأت الدولة العثمانية على وشك الانهيار تحولت صداقة طويلة استمرت لعدة قرون إلى كابوس بين الأرمن والأتراك في القرن الماضي وهنا استغلت الدول الكبرى في تلك الفترة تفكك العقد الاجتماعي للدولة العثمانية فراحت تدعم مجاميع المجتمع المسيحي ضد دولة ذات طابع إسلامي فكما تم دعم اليونان والبلغار جاء الدور على الأرمن من أجل تنفيذ خططها الجيوستراتيجية، وفي مقدمة هذه الدول روسيا وفرنسا.
وبينما كانت الدول الأوروبية وروسيا تثير المشاعر القومية الأرمنية من ناحية كانت تقوم من ناحية أخرى بممارسة البروباغندا لتشكيل منظمات مسلحة بين الشباب الأرمن الملتحقين بالمدارس التبشيرية في الأناضول وبالفعل تأسست مليشيات أرمنية مثل «هنجاق» عام 1887 و«طاشناق» عام 1890. وتم لغاية عام 1891 افتتاح 9 كليات فرنسية و14 إيطالية و9 كليات أمريكية في أراضي الإمبراطورية، بغية تجنيد الأقليات المسيحية. وكانت المنظمات المسلحة الأرمنية تجذب الشباب القومي إلى صفوفها بدعم من روسيا والدول الأوروبية، كانت الدولة العثمانية تمر بفترة صعبة على الصعيد السياسي الداخلي ومع صعود السلطان عبد الحميد إلى العرش في تلك الفترة أشعل مدحت باشا الذي كان الوزير الأعظم في ذلك الوقت حرباً مع روسيا بلا سبب الحرب الروسية العثمانية (1877) وانتهت الحرب بطرق سياسية عبر مؤتمر برلين ومع توقيع معاهدة برلين في هذا المؤتمر فقدت الدولة العثمانية بلغاريا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك.
بدأت المنظمات الأرمنية تتحول إلى مشكلة سياسية بالنسبة للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب مع روسيا (1877-1878). وكانت الدول الغربية قد وقعت على العديد من الاتفاقيات السرية فيما بينها مثل «سايكس – بيكو» بهدف تقسيم الإمبراطورية العثمانية، وفي أثناء ذلك رفعت المنظمات الأرمنية علم التمرد في أرضروم يوم 20 يونيو/ حزيران وفي منطقة كوم كابي في مدينة إسطنبول بتاريخ 15 يوليو/تموز 1890 فقد تم احصاء نحو 40 عملية تمرد في الفترة بين 1882 و1909.
لكن وفي تلك الفترة نفسها كان هناك وزراء وبرلمانيون ومسؤولون محليون وولاة وسفراء من الأرمن أيضا في المناصب العليا للإمبراطورية العثمانية، حتى إن العديد من مستشاري السلطان عبد الحميد وأمناء خزينته كانوا من الأرمن ولكن الأمور ساءت مع تولي حزب الاتحاد والترقي للسلطة عقب إسقاط عبد الحميد عام 1909 بسبب زيادة الحس القومي عند الحكومة آنذاك.
وعندما دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى خسرت مئات الآلاف من أبنائها في عدة جبهات في خضم ذلك كانت المنظمات الأرمنية تدهم قرى الأناضول وقد واجهت الدولة العثمانية صعوبة في ضبط التمردات الداخلية للأرمن بسبب تعرضها لحصار القوى العظمى من جميع الجهات خلال أشد فترات الحرب العالمية احتداما وعندما لم تتوقف الهجمات الأرمنية طلب فريدريك برونسارت فون شيلندورف (1864-1950)، وهو قائد في الجيش الألماني دعم العثمانيين في الحرب العالمية تهجير الأرمن مثلما تم تهجير الأتراك من البلقان على يد الأوروبيين ومن القوقاز على يد الروس وعلى إثر ذلك أصدرت الحكومة العثمانية (وبإملاء من رئيس الأركان الألماني) «قانون التهجير» بتاريخ 27 مايو 1915 تحت إشراف طلعت باشا أحد القادة الأقوياء في حزب الاتحاد والترقي.
كان لا بد من التعرض لتاريخ الأزمة الأرمنية لإيضاح أن قبل هذا الاقتتال الأسود كانت هناك أيام بيضاء جميلة بين الطرفين التركي والأرمني وأن هذا العقد الجميل ممكن إعادته وخصوصاً أن هناك منفعة كبيرة على المستوى الاستراتيجي والاقتصادي لكلا الطرفين وأن الاقتتال بين الطرفين لم يجنِ ثماره إلا دول الجوار التي تحولت لدول عظمى على حساب أرواح الشعب الأرمني الذي كان أكبر الخاسرين وأنه لا بد من إعادة حقوق هذا الشعب العظيم الذي كان يلقب بالأمة الصادقة لصدقه وإتقانه لعمله في أي محفل كان.