عاصر جيل التسعينيات العربي أحد أهم متغيرات التاريخ الحديث، عقب اندلاع الربيع العربي، حيث كان جيل التسعينيات -ليس بمعناه العمري فحسب وإنما بمعنى السياق كاملاً- من الأجيال التي استطاعت تجاوز مسلمات أساسية في المنطقة خاصة فيما يتعلق بواقع الوطن العربي السياسي والاجتماعي، امتلك جيل التسعينيات أهم أدوات الثورة المعلوماتية إبان بدايتها أو لحظة وصولها لمنعطف تكنولوجي لم يسبق للبشر الوصول إليه في الربع الأخير من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لم يمتلك فحسب وإنما كان عنصراً مركزياً في مسار تطورها.
بقدر أهمية هذا التطور، كانت انعكاساته على طبيعة حياة الناس دافعاً أساسياً لإعادة تعريف دورة العلاقة والإنتاج الفردية والجماعية للفرد والعائلة والمجتمع ولاحقاً الدولة أو السلطة نفسها من حيث حدودها وهوامشها، حيث كان لهذه المقاربة المتجددة المنطلق الفارق في حياة جيل التسعينيات الذين قرروا أن يخوضوا سجالاً مع العوامل الأربعة السابقة وربما ليس قراراً بمعنى التفكير لإقراره والعمل عليه بقدر ما أن ظروف المعرفة التكنولوجية فتحت مجالاً واسعاً وشرخاً أوسع في المجتمعات الذي سيتطور لاحقاً ليصبح سجالاً في إحدى أهم محطاته مع السلطات الحاكمة، ولا يمكن القفز على الحاجة للتفكير نفسها بما أن العلم مقترن في مساحات الحرية المتوفرة في الدول.
المتغير الأساسي أن جيل التسعينيات استطاع أن يكون عابراً لذاته والأنا المحلية التي عبّرت بشكل مستمر أنّه من الطبيعي أن تكون الحياة على شاكلتها الماضية أن يكون الاستبداد طبيعياً والفقر طبيعياً والجهل طبيعياً والطائفية طبيعية والفساد طبيعياً وأن الدولة تتجسد في شخص "أنا الدولة، والدولة أنا" وربما من أكثر الأحاديث الدائرة في الأروقة كانت التطور الغربي من حيث منظومات الحكم والعلاقة مع المواطنين ومدى التباين بين الغرب والشرق، إذ كانت هذه الملاحظة أساسية في تشكيل رؤى شبابية حالمة جداً تتجاوز الماضي ومتطلعة للمستقبل.
لقد كانت لحظة البوعزيزي عندما أحرق نفسه ملهمة لكل جيل التسعينيات السوري، بل لكل السوريين بمختلف أعمارهم، حتى للشاب المولد في التسعينيات حمزة الخطيب الذي امتلك شجاعة إشعال فتيل الثورة ليس بمعناها الثوري فحسب، وإنما بعمقها السيكولوجي والنفسي والاجتماعي، هي الغضب ذاته الذي يجتاح جيل التسعينيات منذ عقود، هي تراكماتهم على مدار عقود، أبناء جيل التسعينيات يولدون وهم غاضبون من كل ظروفهم التي غالباً تولد معهم، والتي أصبحت جزءًا من كينونة الإنسان القاطن في المنطقة العربية والسوري بالتحديد ومن ثقافته بتعبير أوسع.
من الصعب أن ينسى أحد مدى الطاقة والوعي والمعرفة والثقافة والقدرات البشرية الهائلة التي امتلكها هذا الجيل خلال صراعهم مع الاستبداد خاصةً في سوريا ضد نظام الأسد.
فقط في سوريا "الغضب" هو حالة جينية تولد مع الشباب، ولعلّ لحظة الإدراك هذه أو التشخيص هي أصعب ما يمكن أن يشعر به المرء السوي، ما حدث لجيل التسعينيات ومن عاصرهم من هذه الجيل خاصة أبناء الثمانينيات السوريين هو ليس مذبحة فقط وإنما لحظة سينمائية كانت بها كل الأجيال المعاصرة قبله وبعده عنصراً في الحدث مشاركاً ومراقباً؛ يتابع يحلم ويأمل بما أنّ العنوان العريض كان الدهشة بما أن المذبحة أو الموت كانت هي الحلقة الأخيرة لكل فرد من هذا الجيل.
من الصعب أن ينسى أحد مدى الطاقة والوعي والمعرفة والثقافة والقدرات البشرية الهائلة التي امتلكها هذا الجيل خلال صراعهم مع الاستبداد خاصةً في سوريا ضد نظام الأسد، جامعات سوريا وأزقتها وتنسيقياتها وفرقها التطوعية والإغاثية والمدنية والنقابية تحكي قصصهم وجهدهم ووجعهم ودمهم الذي نزف في كل حارة وشارع سوري لأجل الحرية وحياة كريمة تشبههم توازي طموحاتهم.
نفسه الجيل، المبعد اليوم والمشتت والضائع والذي بات على مشرفة الثلاثينيات، والثابت في عقده العشرين "الضياع" أو "الموت من الداخل" أو "الانطفاء"، هناك شبان ماتوا أجساداً خلال الثورة لكن هناك أكثر ماتت قلوبهم وتحول شغفهم الذي تحلوا به عند اندلاع الثورة لعبث نيتشاوي عميق لا معنى له، حتى المنطق نفسه غير قادر على تقديم تفسيرات موضوعية له، في الأصل ما حدث لهذا الجيل خلال شبابه ليس فقط غير عادل، بل غير موضوعي.
الجيل السوري من أبناء التسعينيات كغيرهم من السوريين، كانوا يستحقون حياة كريمة وبلداً حراً ودولة قانون، لا تهجيراً قسرياً ولا قتلاً على الهوية ولا اعتقالاً تعسفياً ولا كيماويّاً ولا مقابر جماعية، ولا موتاً في البحر ولا ضياع في البر ولا رحلات لا يقبلها العقل البشري عنوانها الجنون فقط، ولا موتاً سريرياً مستمراً ومتزايداً، ولا ضياعاً للذات، الطموح والشغف والحلم.
أبناء جيل التسعينيات السوريون بكل آهاتهم وأوجاعهم هم الذين قرروا في لحظة مجنونة إعلان الاستقلال قبل أن تولد الثورة؛ في البرهة التي افتكروا فيها أن الثورة هي طريقهم نحو العالم الجديد، نحو وطن جديد.
أحلام هذه الجيل كانت أكبر من واقعهم بكثير، وأكثر من قدراتهم على ما بعد الفعل، رغم امتلاكهم كل الشجاعة نحو تحقيق الهدف من التغيير، أرادوا أن يغيروا واقعهم وفعلوا لكن لم يكونوا إلا على هوامشه، أرادوا إزالة الاستبداد وما زالت معركتهم معه طويلة؛ كلفتهم أكثر ما يمكن أن يمتلكه الإنسان في هذا العمر "شبابه"، لقد ساهم هذا الجيل بصناعة عالم سوري جديد، وبقدر إسهاماتهم هذه، كانوا جثة في محرقة كبيرة وجرحاً ما زال ينزف في كل بيت سوري.
أبناء جيل التسعينيات السوريون بكل آهاتهم وأوجاعهم هم الذين قرروا في لحظة مجنونة إعلان الاستقلال قبل أن تولد الثورة؛ في البرهة التي افتكروا فيها أن الثورة هي طريقهم نحو العالم الجديد، نحو وطن جديد، نحو بيت جديد لا يكون الماضي جزءًا من أي شيء سوى التعلم أمّا المستقبل فهو لهم بكل زمامه.
هذا الجيل الذي يعد الأخير ممن عاصر سوريا في شبابه وانخرط في ثورتها وحملها معه وهاجر بها، بنى أحلاماً كبيرة كان سقفها الوهم، أمّا حدودها فكانت السماء، قرر الثورة عوضاً عن الصمت، التضحية عوضاً عن حياة طبيعية، الصمت أبداً لا يخون لكنه مؤلم، كذلك الثورة لا تخون لكنها موجعة، لكن هناك خائن للثورة والصمت يوجعهم ويؤلمهم هو الحظ. فهذا الجيل غير محظوظ أو ربما كان سقف توقعاته أكبر من اللازم ومن الممكن، لم يبع وهماً لأحد بقدر ما خدع نفسه عندما اصطدمت أحلام أبنائه بواقعهم المرير، كان هذا الجيل حالماً وعنيداً في حلمه. بذات الوقت كان تراجيدياً ضاحكاً للقدر وباكياً للحظ، القدر الذي فتح له مجال الثورة والحظ الذي أعاق طموحاته نحوها.
أبناء جيل التسعينيات تحرروا من الاستبداد، مقابل ذلك ضحوا بالأنا الفرويدوية ولن تعود كما كانت، ومن يعيد لنا الرفاق أو من يعيد لنا ذاتنا، كم تألم فرويد وهو يشرح لهذا الجيل عن الأنا والهو تلك التي ماتت على مذبحة كبيرة لن ينساها التاريخ؛ مذبحة الأسد ضد شعبه.