تُعتبر صناعة الاستبداد كأي صناعة أخرى، لها أدواتها ومقوماتها وفلسفتها الخاصة. أما في السياق السوري، فيمكن اعتباره من أكثر البيئات سهولة في ممارسة هذه الصناعة لانعدام الحريات وغياب الدولة، وارتفاع الاستقطاب الطائفي وكثرة سلطات أمر الواقع، فضلًا عن حاجة فئات سورية للاستقرار بعد 14 عامًا من العنف الذي مارسه الأسد ضد شعبه، والذي أفرز عنفًا بالوكالة امتد إلى السلطات المحلية التي نشأت كحالة معارضة للأسد ومنظومته.
استخدمت تلك السلطات في مفاصل حكمها أدوات السلطة الشمولية ذاتها التي امتهن الأسد استخدامها، لكنها لم تصل على مدار تلك الأعوام إلى الحالة الراهنة التي تنزع لاستقرار لم تشهده سوريا منذ أكثر من عقد من الزمن، خاصة في مدينة إدلب السورية.
هناك، لجأ الجولاني الذي يحكم المنطقة بالنار والحديد وتحت التهديد إلى تكريس ثنائيات التطرف أو الاستبداد، الأمان أو الحريات، المنطقة بإحكام مطلق، لا يختلف كثيرًا عن ذاك الذي ثار عليه السوريون في الثورة السورية. فكل المقومات التي دفعت الناس للخروج إلى الشوارع باتت موجودة بوجود سلطة الجولاني، الذي استطاع بجدارة كبيرة إعادة استحضار أدوات سلطة الأسد مع تكثيفها ولويها بما ينسجم مع واقع المدينة.
ليس الجولاني وحده، وإنما قبله الأسد في دمشق، يعمل على إعادة بناء الصورة الذهنية لدى الناس عنه، عبر ضخ الفعاليات المختلفة خاصة السياحية والثقافية والترفيهية، بما يصبّ في صالح هدفه السياسي الذي يرتكز على إعادة التعويم والبناء ونكران الماضي أكثر من التصالح معه. كما في حالة "إكسبو سوريا" الذي حظي بدعم كبير من قبل الإعلاميين التابعين لنظام الأسد؛ خاصة من ناحية "البروباغندا" التي قاموا بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإفساح المجال أمام عودة الاستثمار لمناطق النظام من جديد؛ بالبناء على دعاية إعلامية تحمل طابعًا سياسيًا بطعم الإنجاز لتطوي صفحة المجازر والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الأسد وتعيد إنتاجه كمنتصر على شعبه وصاحب النهضة السورية الجديدة.
الحقيقة، ما يعوّل عليه الأسد خطير وقد يكون ناجعًا إلى حد ما، خاصةً وأنّه يعتمد على استحضار نماذج دول مستبدة تُنتج صنعة الاستبداد وتنجح بها.
أما الجولاني الذي يواجه استحقاقًا مركبًا بين المحلي والإقليمي يتعلق بمصيره على المستوى الاستراتيجي في سوريا المستقبل والحسابات السياسية، فيعمل بكل جهد على إبقاء السيطرة على مدينة إدلب وتصدير نفسه كمخلص وحاكم وحيد لها بلا خصوم
ولطالما خدمت المظاهر المعمارية الحداثية هذه الصنعة في إعادة إنتاج العقل الجمعي المحلي والدولي، كذلك في خدمة السردية الذاتية على حساب تلك الموضوعية، كما في نموذج العاصمة البيضاء المبهرة في تركمانستان أو كوريا الشمالية.
وقد استفاد الأسد من إعادة علاقته مع بعض الدول العربية، من أجل إنجاز تكتيك بيع الوهم في استعادة "سوريا الأسد" لعافيتها من جديد، متجاوزًا لحظة آذار أو لحظة السويداء التي مر على حراكها الحضاري عام كامل بشكل متواصل يطالب المحتجون السوريون التحوّل السياسي وبناء دولة المواطنة السورية الجديدة.
أما الجولاني الذي يواجه استحقاقًا مركبًا بين المحلي والإقليمي يتعلق بمصيره على المستوى الاستراتيجي في سوريا المستقبل والحسابات السياسية، فيعمل بكل جهد على إبقاء السيطرة على مدينة إدلب وتصدير نفسه كمخلص وحاكم وحيد لها بلا خصوم، مع انزياح كبير في التوجهات وانفتاح أكبر على العالم الغربي. فما كان حرامًا كالديمقراطية سيصبح حلالًا قريبًا ما إن استمر الجولاني بذات النسق الانفتاحي "ديمقراطية مشوّهة"، لكنه ما زال يكره الليبرالية كما يكرهها الأسد على ما يبدو - وكأنّ كل المستبدين يكرهون الليبراليين.
لدى الجولاني تحدٍ مشابه لذاك الذي لدى أيّ قاتل ومستبد، "الذاكرة الجمعية"، على طريق صديقه الأسد. ولعل أكثر ما ينجح به المستبدون هو صنعتهم ذاتها "صناعة الاستبداد".
ومن متطلبات تلك الصنعة في حالة وسياق الجولاني، منح السوريين فتاتًا وبعض الهواء الطلق، وما حرمهم منه الأسد على مدار عقود، خاصة في محافظات ومدن الأطراف السورية؛ كالبنية التحتية الجديدة، محاكاة حالة الدولة، استعادة الاستقرار، إنتاج السلطة "الثورية". وهذا كله يمهد لذات نهج الأسد "بيع الوهم"، كما في حالة "معرض الكتاب في إدلب" الذي بدا وكأنه من الأحداث الاستثنائية التي لا يمكن لأي سلطة سورية إنتاجها، أو هذا على الأقل ما أراد الجولاني قوله، حيث ظهر في أول يوم من المعرض ليدشن إنجازه ويذكر الحاضرين أن ثقافة "الأول" لم تنتهِ، الأول في الرياضة والثقافة والأدب والإصلاح والإعمار. أما مظاهر الشعر التي بجّلت سيادته فكانت مشهدًا سوريًا أسديًا مستحضرًا من دمشق إلى إدلب.
يتشارك الجولاني مع الأسد في اغتيال حلم السوريين في بناء دولة الحرية والكرامة والقانون والمواطنة، في بناء إكسبو سوريا يعرض عبره إنجازات سورية تعلي من شأن العقل السوري الجديد، في معرض كتاب يغيب عنه الاستقطاب الطائفي والديني والمؤدلج.
لكن الذي أثار استغراب السوريين، في معرض كتاب إدلب، هو قدرة السلطة الأمنية على استقدام عدد جيد من السوريين مستغلةً عاطفتهم ورغبتهم بزيارة سوريا جديدة خالية من الأسد لأجل الترويج لحدث بارز كما جاء في المعرض ليكونوا شاهدين على "تنوع" فكري غير موجود أكدوا وجوده. فمنذ متى كان "المشروع السني" مشروعًا لإثراء التنوع؟ بينما على بعد أمتار كانت حناجر المتظاهرين في ساحة مدينة إدلب المركزية أعلى بكثير مما أراده الجولاني، حيث طالب المتظاهرون بإنهاء تلك السلطة المستبدة الأمنية، كما رفضوا أي عملية مقايضة بين الحرية والأمن، بين الاستبداد والديمقراطية، بين الجولاني والصندوق.
يتشارك الجولاني مع الأسد في اغتيال حلم السوريين في بناء دولة الحرية والكرامة والقانون والمواطنة، في بناء إكسبو سوريا يعرض عبره إنجازات سورية تعلي من شأن العقل السوري الجديد، في معرض كتاب يغيب عنه الاستقطاب الطائفي والديني والمؤدلج ويحضر فيه العلم وقامات سوريا في السياسة والفن والمسرح والأدب؛ أما ما دون ذلك فليس تنوعًا وإنما استبداد وحشي وهو أشد رعونة من غيره لأنه قائم على بيع الوهم.
ولكيلا نكون شاهدين على تزوير التاريخ، من المهم أن نتذكر أنّ الجولاني الذي يحكم إدلب بالحديد والنار والإكراه هو نفسه الذي استطاع القضاء على عشرات فصائل المعارضة السورية المعتدلة بشكل خاص، ومنع الصحافة الحرة، وقام بتأميم المجتمع المدني، وتكميم أفواه معارضيه، واكتظت سجونه بالمعتقلين، واغتال رفقاء الدرب لأنهم طالبوا بدولة ديمقراطية، وكان سببًا في اغتيال عشرات الصحفيين الوطنيين. فإن لم يكن هذا الرجل مستبدًا ويستحق المقاطعة والرفض والإسقاط، كما هو حال الأسد النموذج المركزي له، فما هو الاستبداد ولماذا الثورة حينها؟ وما أصدق ما قاله بنجامين فرانكلين: "من يتخلى عن الحرية مقابل الأمان لا يستحقهما".