مؤتمر "مؤثرون من أجل الإنسانية".. محاولة فهم متغيرات المجتمع والمؤسسة

2024.08.14 | 05:58 دمشق

مؤثرون من أجل الإنسانية
+A
حجم الخط
-A

خلّفت العقود الطويلة من الاستبداد في سوريا خلال عهد نظام الأسد، مجتمعاً صامتاً وخائفاً غير متفاعل مع قضاياه العامة، خاصةً تلك المرتبطة بالمجتمع المدني السوري، الذي أعاد "الأسد" استيعابه ضمن "المجتمع العسكري"، عبر عسكرته وجعله جزءاً من السلطة ومفاهيمها، بينما فتحت الثورة السورية باب الرأي العام الحر أمام الجميع بغض النظر عن الانتماءات، وهذا بالعموم جعل الشارع السوري على مستوى جيد من الاحتكاك مع قضايا الرأي العام.

برز ذلك بشكل ملح خلال سنوات الثورة السورية، هذا التفاعل يمكن أن يُرى من جوانب مختلفة، منها ما هو متعلق بحرية التعبير ووجود مجتمع جديد مهتم ومتفاعل وفاعل شعبياً وأخرى متعلقة أكثر بفقدان عوامل الثقة بأي عمل مدني؛ وهذا يفتح السجال تجاه فرضية خطيرة لأنّ فقدان الثقة بالمجتمع المدني السوري الذي لم يأخذ فرصة حقيقية بعد لاختباره، يعني فقدان الثقة بأهم حوامل المجتمع السوري على المستوى البعيد؛ خاصةً ما إذا كان التغيير يمر بشكل أساسي عمودياً وأفقياً أي ليس فقط عبر السياسة وإنما كذلك من المجتمع.

جاء مؤتمر "مؤثرون من أجل الإنسانية" الذي نفذه فريقا ملهم وبنفسج ضمن فضاء أسهم بردود فعل متباينة مؤيدة ومعارضة ومتهكمة في مواقف مختلفة، وقبل أن يفتح ذلك نقاشاً على مستوى الأسباب، لا بدّ أن يحفز ذلك لطرح سؤال "المتغير الاجتماعي" الجديد الذي من المهم أن يوضع على المسطرة الأكاديمية ويُعاين وينظر له بعين الجديّة، بما أنّ الفاعلين في القضية السورية يرون بشكل مستمر المتغيرات على المستويين السياسي والاقتصادي والأمني في كثير من الأحيان، لكن قلما يُرى المتغير الاجتماعي على مستوى المجتمع السوري نفسه في معادلة التغيير المطلوبة في سوريا الجديدة.

أصبح من الواضح أن هناك إنساناً سورياً جديداً يتعاطى مع القضايا المحلية بشغف كبير يدفعه للتفاعل بقلق وارتباك وحدة وتفاؤل؛ بغض النظر ما إن كان مؤيداً أو معارضاً للملف..

أصبح من الواضح أن هناك إنساناً سورياً جديداً يتعاطى مع القضايا المحلية بشغف كبير يدفعه للتفاعل بقلق وارتباك وحدة وتفاؤل؛ بغض النظر ما إن كان مؤيداً أو معارضاً للملف.. من هنا، تأتي ضرورة الالتفات نحو المتغير الاجتماعي ليكون هو منطلق تقييم الشعب السوري الجديد بعد الثورة، المتغير نفسه الذي جعله بشار الأسد في بداية الثورة عاملاً جامداً غير قابل للانزياح ولا يُعول عليه بقوله: "الشعب السوري غير مستعد للديمقراطية"، والمتغير نفسه الذي سُرد عنه روايات تاريخية طويلة بعدم قدرته على التفاعل مع قضاياه وفق مبدأ "حرية التعبير" باستخدام أدوات مدنية لا عسكرية.

وعلى هذا الأساس حرص نظام الأسد على تصدير الحقبة الديمقراطية خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين في سوريا على أنّها مرحلة "فوضى عسكرية" في محاولة رسم صورة ذهنية في اللاوعي الجمعي السوري عن السوريين أنفسهم، بأنهم شعوب متأخرة ثقافياً وغير قادرة على التأقلم مع مفاهيم حداثية شكلت صورة عصر النهضة في دول متقدمة.

لذا، من الجيد تثبيت قواعد المقال بالقول إنّ أصل أيّ سجال حاصل هو ديمقراطي بطبيعته ضمن سياق المتغير الاجتماعي نفسه، فعندما امتلك المجتمع السوري سمة الحرية أصبح جزءاً مهماً من قوام أي مشروع، وهذا يفترض عدم تجاهله كتحد قائم مقابل تعزيز "إدارة التوقعات" بكيفية التعامل مع التحديات القائمة؛ بكون الشارع أصبح جزءاً من عملية المراقبة والتقييم وفق منظوره الذاتي.

عند هذا المتغير الجديد تنطلق أهمية الحرص على إدارة الرأي العام كإدارة الموارد المالية والبشرية تقنياً داخل أي مؤسسة، لذلك، البدء من مطالبات عقلنة المجتمع يجعل أي مهمة من هذا النوع صعبة؛ بينما التركيز على العمل والإنجاز والتغيير والوقت مع إعطاء أهمية أكبر لعلم الاجتماع نفسه كتخصص يتم احترامه داخل المؤسسات نفسها يساعد على التعامل مع تحديات كبيرة لأن إدارة عقل المجتمع يبدأ من العلم نفسه؛ وهذا بطبيعة الحال يقلل من فرص إضاعة فرصة الإنجاز في ظل التركيز على الانخراط في خوارزمية ردة الفعل. وذلك بالاعتماد على فلسفة إدارة الأفكار الجديدة عند الجمهور التي تقول "إن الأفكار تمر بثلاث مراحل السخرية، المقاومة، القبول".

ما يجعل استخدام أداة التعبير في السياق السوري حادةً وغير منصفة في مواقف عديدة، هو فقدان الأمل والثقة بثقافة الدولة وكل ملاحقها بما في ذلك المؤسسات، وبعدها حالة الخذلان الكبيرة التي تعرضوا لها خلال سنوات الثورة محلياً ودولياً، مع شح النماذج المؤسساتية الناجحة خلال الثورة السورية سوى ببعض الاستثناءات التي بدورها لم يرحمها الجمهور عند أخطاء بسيطة.

عند هذا التشخيص، لا بدّ من القول إن الجمهور السوري وجد في حرية التعبير فرصة ذهبية لاستعادة حضوره على مستوى الرأي العام بعد غياب دام لعقود طويلة؛ ومع ضيق مساحات أي عمل سياسي يعود التركيز لينصبّ على المبادرات المدنية لأنها في قلب العمل والفعل السوري في الآونة الأخيرة، وهذا يجعل الجمهور متيقظاً لأي فعل مدني ومبادرة غير عادية لها صخبها وأثرها؛ لا سيما عند الحديث عن حدث يحمل عناوين عريضة من القضايا الخلافية في الشارع السوري في معرض الحديث عن دعم الثورة السورية من عدمه أو تجاهلها.

بالمقابل، يساعد تشابك العمل المؤسساتي بين المنظمات السورية في تجاوز عقبات كبيرة تتعلق في التعامل مع المتغير وكأنه في قلب الحدث، وهذا ربما استطاع العاملون في "مؤثرون" التركيز عليه واستخدامه خلال محاولات تصويب أهداف المؤتمر، بقدر أهمية التكافل الاجتماعي يعتبر التكافل المؤسساتي في الحفاظ وتطوير مبادرة وطنية من هذا النوع واجباً مؤسساتياً أكثر من كونه شعبياً؛ لأنّ إعادة الزخم للمؤسسات يبدأ من هنا عبر استعادة الثقة بالمجتمع السوري بالتعامل معه كمتغير موجود وقائم وينتظر أطروحات مقنعة ونتائج عملية لا تبنى على ردود فعل وإنما  تأتي في سياق إنجاز يستحق الاحتفاء والتقدير.

بالتالي، إنّ أي محاولة جريئة كدعوة أشخاص لديهم انطباعات سلبية أو حيادية تجاه القضية السورية يحتاج إجابات مقنعة تنطلق من أهمية المحاولة نفسها أو تتجاوزها وهذا بالفعل ما تم العمل عليه؛ باستثناء ادعاء تقصير السوريين تجاه قضيتهم من قبل بعض المؤثرين الحاضرين الضيوف؛ بكون هذا اللوم يفتح مواجهة مباشرة مع المجتمع السوري؛ فأسباب هذه المواجهة مرجعيتها في الأصل فرضية عدم وجود مجتمع سوري ينقل قضيته، إذاً مَن هؤلاء الذين ينتقدون ويرفضون ويقبلون المبادرات، تساؤل يحمل إجابة أكثر من سؤال.

القضية السورية قضية مربكة تحمل تحديات أمنية كبيرة وأسباب عدم وجود المعلومة عنها ليس الجمهور السوري بقدر الخوف من الوصول لها على الأقل ضمن المبادئ الأساسية في صراع الاستبداد والمجتمع؛ أي أنّ غياب المعرفة ينبع من الرفض أو الخوف من اكتسابها وقد تغيب لعدم وجود المعلومة لكن باحتمال أقل.

"مؤثرون من أجل الإنسانية" والمتغير الاجتماعي السوري، كلاهما نجاحات سورية تستحق الإشادة والتطوير، الأول لأنّه فتح الباب أمام جعل القضية السورية هي حامل لقضايا إنسانية أخرى وليس العكس..

وعند هذا الافتراض يأتي التمييز الذي أقامه فيلسوف المنطق كارل بوبر بين "المجتمع المغلق" و"المجتمع المفتوح"، ما يعني أن سمة الحرية نفسها غير موجودة عربياً لتثير تساؤلا بحجم الثورة السورية وليس العكس، وعند الرغبة للانتقال لمجتمع مفتوح تأتي أهمية "مؤثرون".

ختاماً، "مؤثرون من أجل الإنسانية" والمتغير الاجتماعي السوري، كلاهما نجاحات سورية تستحق الإشادة والتطوير، الأول لأنّه فتح الباب أمام جعل القضية السورية هي حامل لقضايا إنسانية أخرى وليس العكس، وفي هذا مؤشرات عميقة أكثرها أهمية أن الثورة السورية أنتجت فرداً سوريا حراً يتميز بعقلية استثنائية متحركة ومخيفة لأي نظام سياسي.

وتبعاً لذلك "مؤثرون" أتى في إطار ما دون سياسي؛ بمعنى إخراج القضية السورية من سياقها السياسي وتصديرها من بعد إنساني وطني سوري وبهذا استطاع المنظمون مجاراة عقل أنظمة الاستبداد في هذه المساحة الهامة، على رأسها "الأسد" مع تعويض القائمين عليها دور الدولة الحرّة أو ربما محاكاة نموذج الدولة السورية الحديثة، والأهم بتقديري "تشابك المؤسسات" فهذه العقلية هي مفتاح لأي "نموذج" سوري جديد.

أما الثاني فهو وجود مجتمع سوري حي، وأيّ مجتمع مدني يغيب عنه المجتمع فهو ميت لأن عوامل التأثير والنقد غائبة، أمّا الذي يحضر به فهو حي ويبنى عليه.