تحمل تطورات الإقليم عنوان الصراع الثالث في القرن الحادي والعشرين، بعد الأول في لحظة حرب تموز، وما تلاها وسبقها من صراع مستمر ضد الكيان المحتل في فلسطين، والثاني يوم الربيع العربي الذي بقي العنوان الأساسي على مدار عقد ونصف ضمن سباق النفوذ والصراع.
وما بينهما من حيث سياق التفاعل الموضوعي كانت لحظة أكتوبر، التي مثّلت استعادة لعمق الصراع وتماهيه بين مقولات الاحتلال والاستبداد؛ ضمن توازن الرعب الإسرائيلي مع أنظمة مستبدة. ولعلّ الأكثر جدليةً ارتفاع وتيرة تعقّد التحالفات وصعوبة تفكيكها بين طهران الساعية لتوسيع نفوذها الإقليمي بعد احتلال أربعة عواصم عربية أو استمرار دولة الاحتلال باحتلال فلسطين؛ والرفض القاطع لأي تسوية سياسية على أساس حل الدولتين ضمن سياسات ضمنية تتسم بتبادل الأدوار ولو كانت موضوعياً لا تشي بذلك.
ومن هنا، عند نقطة ارتكاز عرقلة الحلول السياسية يمضي الأسد، على خطا الكيان في عرقلة التحول السياسي السوري، في انتظار لحظة "صبر استراتيجية" جديدة تجلب معها مساراً يفوق الانفتاح تجاهه ويصل لإعادة الإعمار وتجاوز الماضي أو مغادرة التاريخ، مع محاولات جاهدة لتجنب صراع تتباين فيه القراءات والدوافع بخصوص الحلفاء على المستوى المتوسط أي ما بعد "تمترس الجغرافيا" المرحلة التي تربك الأسد. على عكس تساؤلات مسار الثورة بعدما أجاب عليها عبر سياسة التطهير ضد الشعب السوري أو "استراتيجية الترويع والانتقام".
يدفع ذلك للاعتقاد بأنّ أكثر ما كان يخشاه الأسد امتحان من هذا النوع الرفيع -إقليمياً- ضمن تشكيل نقطة التوازن بين استعادة فاعليته الإقليمية أو حفظ مواقف كلاسيكية تجاه "محور المقاومة"، حيث مثّلت لحظة أكتوبر أصعب اختبار للأسد بعد بدء "مسار التواصل التقني" مع الدول العربية مما وضعه أمام خيارات معقّدة خاصة أن المسار يحمل موضوعات أمنية عميقة؛ على رأسها تفكيك تحالفاته مع طهران لضمان عودة جديدة كفاعل إقليمي من بوابة حلحلة الملفات العالقة ودفعه للابتعاد عن إيران التي تبحث عن الاستقرار عبر استمرار الهيمنة.
تأتي التمفصلات الجديدة الدبلوماسية والعسكرية منها سلسلة الاغتيالات ضمن سياسة تسعى لاستعادة الزخم الشعبوي وإعادة الحضور والاستقطاب لفعالية إدارة نتنياهو؛ بعد حالة الاستعصاء التي فرضها صمود غزة.
انزلاقٌ في قواعد الاشتباك الإقليمية: الحرب أو إعادة تعريف القواعد
يصعب مغادرة التاريخ عبر تجاوز الاستحقاقات، كحال فلسطين أهم استحقاقات المنطقة إقليمياً، فلم تغب القضية الفلسطينية عن تشكيل رؤى الدول كمركز وأطراف خلال عقد الربيع العربي، بل كانت اعتباراً أساسياً في صبغ خارطة التحالفات والفعل كحال تمثيل النموذج السوري إحدى أهم تلك التجليات. وكما أنّ لكل سياق في الاستحقاق أدواته وتحالفاته، تبقى مرحلة أكتوبر منعطفاً جديداً ليس فقط في الإقليم وإنما كذلك ضمن القضية السورية خاصة في بنية نظام الأسد ما بعد مسار "التطبيع" الذي بدأ العام.
يتحرك المشهد الجديد في الإقليم بعد العام، تجاه قواعد اشتباك جديدة تحت سقف إمكانية "الانزلاق نحو حرب" في حال استمر بالوتيرة ذاتها بصرف النظر عن الوقت والتوقيت، ومما لا شك فيه أن الفواعل الإقليمية تميل نحو أن تتجهز لإدارة أخطار سيناريو الحرب غير معلوم التوقيت. لكن كثرة المؤشرات منحت الفرضية أبعاداً جديدة تتسم بالتصعيد غير الاعتيادي على مدار عام كامل.
تلك المؤشرات، غير متعلقة بغزة وحدها، وإنما مرتبطة بسؤال ما بعد الحصار والهولوكوست أو العنف الممنهج، وما نتج عنهما من استثمار حاد إيراني في محاولة انتهاز فرصة خرق قواعد الاشتباك التي حرصت على حفظها أو الحفاظ عليها مع الغرب؛ خلال الربيع العربي، خاصةً عند توقيع الاتفاق النووي مع إدارة أوباما لقاء مقايضة في الملف السوري، ليست طهران وحدها وإنما بادلتها واشنطن ذات التوجه والحماسة المرحلية. شكّل ذلك دافعاً إيرانياً لإعادة التموضع وتوسيع دائرة النفوذ وحركيّة الفعل تجاه رؤية مركزية إقليمية عبر دفعها إلى الأمام بدلاً من استمرار الوقوف في المنتصف، مما عمّق الخلاف من جديد وهذا برز في عهدة ترمب وبايدن ضمن مستويات مختلفة وصعوبة العودة للخلف.
بينما وسّع هجوم المسيرات الإيرانية التي مرّت من سوريا والعراق وسقطت داخل حدود "الكيان" من احتمالات الصراع في الإقليم، وزادت مؤشراتها أكثر مع "تزامن المسارات" في حادثة سقوط الطائرة الإيرانية ومقتل الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي"، مما ألمح بوجود تغيرات عميقة في قواعد الاشتباك الإقليمية؛ ولعلّ تدرج مستوى الاشتباك من إيران لفواعل محلية عبر هجوم الحوثي في العشرين من تمّوز ضمن "عملية يافا" كفاعل ما دون دولة "عسكرية" داخل حدود دولة الاحتلال وما بعده من استهداف مدينة الحُديدة اليمنية تحت عنوان "اليد الطويلة" يمثّل تأكيداً على أنّ التغيير ليس مجرد تكهن أو فرضية، بل حقيقة سياسية جديدة ضمن صراع النفوذ أو مركز الإقليم واستقطاب نحو انزلاق غير معلومة حدوده يشكل قواعد جديدة؛ خاصةً، مع دفع إيران للدول التي تسيطر عليها لساحات المواجهة كسوريا.
بجانب وجود رغبة جمّة لدى إدارة نتنياهو بتوسيع دائرة الحرب والاشتباك لما بعد غزة لتدوير زوايا أزماته الداخلية؛ والبحث عن فرصة لإعادة رسم الصورة الذهنية خارج إطار التنميط في مشهده الداخلي الذي يكتظ بالتحديات على مستوى الديناميات والاستحقاق المحلي؛ كما تأتي التمفصلات الجديدة الدبلوماسية والعسكرية منها سلسلة الاغتيالات ضمن سياسة تسعى لاستعادة الزخم الشعبوي وإعادة الحضور والاستقطاب لفعالية إدارة نتنياهو؛ بعد حالة الاستعصاء التي فرضها صمود غزة في عدم قدرة الكيان على حسم المواجهة بشكل نهائي وانعكاساتها الداخلية والدولية، فضلاً عن أنّ سلوك نتنياهو ذاته في مشهد البرلمان الأميركي الذي وصفه د. عزمي بشارة مؤخراً بأنه "خطاب لاستدرار التصفيق" يؤكّد حالة الاستعصاء والعناد في توسيع دائرة الصدام.
تشير الانطباعات الأولى، لتحمس الأسد تجاه المسار الروسي أكثر من الإيراني، بكونه يمثّل فرصة لاستعادة الحضور الإقليمي ولو كان على حساب الإيفاء بالالتزامات المطلوبة.
سوريا الأسد: مشهد إقليمي ومشهدان في سوريا
حرصت روسيا إحدى أهم القوى المهيمنة على قرار "نظام الأسد" في رعاية مسار إعادة إنتاج النظام من الناحية الإقليمية عبر تحقيق خرق مع دول عربية عديدة، تحت عنوان إخراج النظام من عباءة إيران، وانفتاح تجاه إعلاء ديناميات التواصل الأمني أهم مقولات المرحلة. وقد برز بوضوح تفاعل الأسد مع لحظة أكتوبر ببرودة غير كلاسيكية من ناحية التعبئة الشعبية أو الانخراط السياسي، مما مهد لطرح تساؤلات عميقة حول مدى تمسك الأسد بموقفه التقليدي تجاه "محور المقاومة" ليس من ناحية مساندة القضية الفلسطينية كموقف؛ إنما في التمسك في أدبيات إيران نفسها في الحركيّة تجاه القضية بوصفه وكيلاً وليس ضمن صيغ تشاركية (فهناك فصل يجب تلمسه بين دوافع إيران من فلسطين التي تدور ضمن صراع النفوذ والهيمنة وبين عمق القضية نفسها من الناحية القيمية. الموقف الباهت من محور إيران جعل الأسد أمام مشهدين جدليين بين اندفاع طهران الذاتي إقليمياً، وضمان تعويمه في الإقليم روسياً.
تشير الانطباعات الأولى، لتحمس الأسد تجاه المسار الروسي أكثر من الإيراني، بكونه يمثّل فرصة لاستعادة الحضور الإقليمي ولو كان على حساب الإيفاء بالالتزامات المطلوبة من ضمنها حركيّة الإقليم -قبل لحظة أكتوبر- الذي يميل لتطبيع العلاقات العربية مع الكيان وإقصاء إيران أو تضييق تموضعها. على عكس حماسته تجاه المسار الإيراني، فقد أظهر به الأسد رغبةً أقل؛ لأنه لا يقدّم إجابات عن تحوّلات المنطقة، وينطلق من ضرورات "رد الدين" الإيراني من خلال دفع الإقليم تجاه المكاسب الإيرانية خلال الربيع العربي؛ أي ليس فقط في السيطرة على عواصم عربية منها دمشق، بل في السيطرة على الإقليم وليس الدول ضمن السقف الذي وضعته إيران لنفسها ولو بلغ "المقامرة السياسية" بتكثيف الصراع.
من هنا، يمكن تحليل لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأسد في تموز، كنتاج للتأكيد على ضرورة استمرار الاستجابة لذات السياسات الخاصة بالموقف من لحظة أكتوبر وعدم الانجرار وراء الاستقطاب الإيراني، وقد أكّد ذلك التعبير عن غاية اللقاء بهدف "البحث المعمق في التطورات السياسية والعسكرية الحاصلة في الشرق الأوسط وما تقتضيه من تبادل للآراء حيال التعامل المشترك مع هذه التطورات" يعني ذلك، الحذر الروسي من انزياح في موقف الأسد تجاه طهران خلال الاحتدام الإقليمي، مما يدفعها لاستخدام "الدبلوماسية القسرية" لإعادة ضبط تموضع نظام الأسد ضمن قواعدها الذاتية ومنطلقاتها الإقليمية، والأهم إدارة المخاطر الاستراتيجية في أيّة لحظة اندفاع كعنصر مفاجأة.
أمّا الموقف الإيراني، فيبدو أنّه مندفع تجاه توسيع ساحات المواجهة عبر استمرار أدوات الضغط على الأسد، وربما قصف "حزب الله" لمنطقة "مجدل شمس" السورية المحتلة، يضع إيران في موضع المتهم الأول بهدف حسم موقف "سوريا الأسد" من منطلقاتها الجديدة، ولو مرّ ذلك عبر إعادة تعريف طهران لعلاقتها مع الأسد وانتقالها لاستخدام الأدوات القسرية لحفظ مكتساباتها، وربما من أهم تلك الدلالات هي تزامن القصف مع تطورات سوريا الموضوعية منها بعد زيارة الأسد بيوم واحد لموسكو واغتيال "لونا الشبل" قبل أيام، أو مع تشابكات الإقليم وانزياحه نحو إحدى سيناريوهات الحرب عبر تطورات اليمن قبل يومين فقط.