يختتم المؤرخ الفلسطيني البارع "قيس ماضي فِرّو" جهده الجهيد بتشبيه ثلاثة تياراته (الإسلامية والتغريبية والمازج بين العربية والتغريبية) بالقميص الذي تنوعت ألوانه في الخياطة عبر اكتشافه طبائع الهويات في المشرق العربي وتشكلها ضمن تتبع خطابها الجامع مع تأكيده على اجتهاد الباحثين بعدم إمكانية الجزم بوجود حاجز بيّن بين سائر تلك الهويات، إلا أنه سعى في إظهار الفروقات مما يجعل كتابه مرجعًا في موضوعه.
يقع كتابه الضخم "ثقافة النهضة العربية وخطابات الهويات الجماعية في مصر وبلاد الشام" (دار الفارابي 2017) في 470 صفحة (صافٍ غير شامل صفحات الفهرس العام للكلمات وقائمة المصادر التي احتوت ما يقارب 400 مرجعًا)، ويحوي ستة فصول، تقدمها شرح مفصل لدواعي اختيار عنوان كتابه لماذا "ثقافة"؟ وماذا يعني "خطابات الهويات الجماعية"؟ وكيف أنه تخيّر البحث في الثقافة النخبوية وترك الشعبوية، يعني أنه يقتصر في عملية فحصه تلك على طبائع الاتجاهات النخبوية التي نشأت في الشام ومصر.
ترك مصطلح (النهضة العربية) بلا تعريف في مقدمته كونه مشكلة بحثه ليفرده في فصل خاصّ، إذ ناقش ماهية اعتبار أصحاب هذه النهضة لطبيعتها، هل هي "نهضة بالمعنى العام" أم فعلًا "نهضة عربية"؟ وماهية هذه "العربية"، هل حوت الإسلامية والتغريبية كذلك معها؟ وكيف تطورت من "عصبية خلدونية" مناكفة لـ"شعوبية عجمية" قبيل عصر القوميات (فصله الأول) حتى بلوغها مبلغ "القومية" و"الوطنية" والدعوات التراثية الإسلامية وتلك الغربية (الفصل الرابع والخامس والسادس) كتطبيق عملي لاكتشاف ثقافة تلك النخب في مصر والشام، مرورًا بمناقشة ماهية النهضة وبروزها (الفصل الثاني) ثم التدقيق بمراد بحثه أي معنى "ثقافة النخبة" (الفصل الثالث).
يخوض "فِرّو" في اكتشاف دقائق مصطلحات "الأمة" و"الملة" و"العربي/ العرب" وغيرها من المصطلحات التي لم يبدأ استخدامها فحسب لدى ابن خلدون -اختاره كنموذج تمثيلي لا حصري- ولم تنته فقط لدى معاصري الحرب العالمية الأولى (منتهى زمن دراسته) بحيث يسلط الضوء بدقة بالغة الصعوبة على أن مثل تلك المصطلحات ليس من السهولة بمكان اقتباسها كما هي، وعدم احتوائها على معنى ثابت كونها تشكلت وتمفصلت عبر حوادث وتغيرات اجتماعية. صحيح مسألة اقتصار بحثه على النخب، إلا أن هذه النخب وليدة المجتمع في نهاية المطاف، أو هكذا يمكن أن يقال إن أُريدَ الحديث عن تنظير جيمس غيلفين.
ينطلق الكاتب بعدها ليقتبس مقاربات سوسيولوجية لأمثال "لوالت روستو" و"بنديكت أندرسون" و"إرنست غيلنر" ويتخيّر من مقارباتهم ما يمكن أن يؤدي لإيصال نظريته المُرادة، نقل عنهم مثلًا "أن القومية تنشئ الأمم لا العكس"، و"أن الثقافة العليا -للنخب- تنتج القومية" ومثلها تسبّب "دور المستعمر في تجميع الأصوات ضده لتشكيل قومية رد الفعل"، لكنه أكد كذلك أن دور النخب في تنشئة القومية كان مثل شد الحبلة -متعدد الأطراف كما يبدو لا طرفين فقط- كلّ منهم يحاول اجتذاب الجماهير لخطابه الذي حاول تأطيره بالمقارنة مع ما يسمّيه "فوكو" بالأبستيم، أي "الحقبة المعرفية التي تشكل منظومة ثقافية ولغوية".
عبر ارتحال الكتاب بين موجات الأفكار والمفكرين في مصر والشام، كان "فرّو" يقيس خطابات هؤلاء المفكرين عبر إعمال نظريته في المقارنة والتحليل
وهذا ما يُذكر بمقاربة "جيمس غيلفين" (في كتابه "الولاءات المتضاربة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021). الذي ترك الحديث عن تأسيس قومية ما من (عِلّ نازلة)، وإنما ابتدر الحفر في مصادر شعبية ليتحدث عن قومية من (تحت صاعدة) صادمت تلك الفوقية وأعطت طبعًا آخر -برأيي- ليس فقط لدراسة القومية بل وأيضًا دراسة الهوية والثقافة أي القومية وأخواتها (ماهية الأسلمة والتغريب) بطريقة لافتة عبر مصادر أكثر تشعبا ووعورة.
لا يترك "فرّو" لنا نصّه ينام في التاريخ بل ويوحي لنا أن تطبّعات الاختلاف في فهم "الأمة" على سبيل المثال لدى تلك النخب ولّد خلافًا إراديًا كان أم لا إراديا، سبب بشكل أو بآخر زيادة طين مصالح الاستعمار بلّة في مصر والشام، وهذا خدم مشاريع الاستعمار، كما يشير، والذي أنتج بدوره "دولة إسرائيل" وشكّل تفرقات طائفية، ازدادت تعقيدًا مع زماننا هذا -كما يؤكّده وجيه كوثراني برأيي- مع دول أكثر سطوة واستبداد.
عبر ارتحال الكتاب بين موجات الأفكار والمفكرين في مصر والشام، كان "فرّو" يقيس خطابات هؤلاء المفكرين عبر إعمال نظريته في المقارنة والتحليل، فقد شرع تفصيل العلاقة بين الأفكار والظرف الزماني كشرح العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، وإنتاج الثقافة للقومية، وكذلك نظام التعليم المُقام من قبل الدولة، يُضاف لذلك ثقافة الطباعة بأشكالها المتوغلة في المجتمع، ودورها في تشكيل الخطابات ومكوناتها وكلماتها المفتاحية.
بالإضافة إلى دور الدولة المذكور أعلاه عبر التعليم والطباعة، أُنتجت "الثقافة العليا" بدايةً عبر جولات الطهطاوي ومدونات الجبرتي ويبدو أن ثمة جمع بين مصر والشام في هذه المرحلة، على الأقل إلى حين انفكاك الأخيرة عن سلطة محمد علي، مع عدم اشتراطٍ لازمٍ هنا. مرّت مراحل إنتاج تلك الثقافة العليا بعدها عبر انقسام، كما يبدو، ليتم ترسيخ الخطاب الوطني في مصر بوساطة سعد زغلول ومصطفى كامل وغيرهما.
يتلوه وجود خطاب الوطن السوري التي بُنيت لبناته الأولى الواضحة لدى بطرس البستاني، وتخلل ذلك خطابات أخرى متفاوتة كالمُعلمنة والتغريبية والفرنكفونية لدى شبلي شميل وحتى ندرة مطران، وبالطبع قومية وإسلامية على مدى هذه "الجغرافيا" من مقارعات الكواكبي للاستبداد واتزان شكيب أرسلان مرورًا بتقلبات الشيخ رشيد رضا الملفتة، مع التأكيد أن هذه الجغرافيا المتوترة تحوي العديد من التداخل في مثل تلك الثقافة العليا التي كانت مشتبكة، ولذلك شبهها قيس ماضي فرّو بالقميص متعدد الأقمشة بل وذهب لتعدد الخيوط!
حوت دراسته كثيرا من التوجهات المتداخلة والجمعيات والأحزاب والأعلام المنضوية تحتها، وأولئك المتقلبين في الانتماءات، بين المتدين والمتعلمن، أو السياسي البرغماتي والداعية الصلب الدوغمائي. وحاول "فرّو" الكشف عنها عبر التأكيد على دور المطبعة والتعليم وكذلك الصحافة في خلق الأجواء الثقافية شديدة التنوّع والكثافة، كما أنّه لم يترك الكشف عن بيان كمّها وإحصائياتها وفحصها النوعي.