icon
التغطية الحية

"الولاءات المتضاربة" والتحولات الطارئة على سوريا في العهد الفيصلي

2022.05.20 | 09:30 دمشق

wlaat_mtdarbt-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

رغم أنه لم يدم أكثر من سنتين إلا أن العهد الفيصلي الذي أعقب انسحاب العثمانيين من سوريا بعد أربعة قرون، يعتبر من الفترات التي لم تحظ بدراسة كبيرة تاريخياً، بيد أن الفترة هذه تعد مفصلية في تاريخ سوريا، وشهدت تحولات اجتماعية كبيرة، سيما الانتقال من سياسة الأعيان إلى شكل من أشكال السياسة الجماهيرية.

كتاب "الولاءات المتضاربة.. القومية والسياسة الجماهيرية في سورية مع أفول شمس الإمبراطورية" لـ جيمس ل. غيلفين، الصادر مؤخراً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بترجمة عمرو الملاح، يحاول أن يشرح تلك الحقبة التي تعتبر بداية ظهور القومية العربية، من خلال دراسة دور النخبة المثقفة وتوجهاتها وطريقة عملها في مخاطبة الجماهير، والتحولات الاجتماعية والسياسية الكبيرة التي طرأت على سوريا بعد أربعمئة سنة من حكم العثمانيين.

"العربية الفتاة" وأعضاؤها

في القسم الأول من الكتاب يشرح فيه المؤلف بنية التنظيمات السياسية في العهد الفيصلي، ومن أهمها جمعية "العربية الفتاة" التي تأسست في باريس بين عامي 1909 و1911، ورغم أن أعضاءها لم يتجاوز عددهم السبعين شخصاً إلا أن أهميتها تأتي من نسبة كبيرة منهم صحفيون وكتاب وضباط عسكريون، والأهم من هذا كله أن الجمعية منذ عام 1916 ربطت مصيرها بالأسرة الهاشمية والثورة العربية، عملٌ سعى إليه الإخوة فوزي ونسيب وسامي البكري. وهذه الجمعية التي أصبح أعضاؤها فاعلين في الحكومة الفيصلية وبيدها الوظائف والأموال ازداد عدد أعضائها بشكل كبير، وسرعان ما تحولت من جمعية سرية ذات قواعد صارمة إلى الذراع الذي يقود الرعاية السياسية للأمير فيصل وسلطته.

 

العربية الفتاة.jpg
الجمعية العربية الفتاة (1909)

 

ومن أجل أن يحافظ قادة الجمعية على امتيازاتهم قسموا عضويتها إلى فئتين: المؤسسين الذين انضموا إلى الفتاة نهاية الحرب، والمحتسبين أو العاديين، وهم الأعضاء الجدد، ولكن هذا التقسيم تعرض للاهتزاز نتيجة تشكيل لجنة لترقية المحتسبين إلى مؤسسين، ومن هؤلاء الذين تمت ترقيتهم عبد الرحمن الشهبندر وعادل أرسلان المستشار السياسي للأمير فيصل ووصفي الأتاسي وصبحي الطويل ويوسف العظمة ورشيد رضا وغيرهم.

بين اتحاد سوري وآخر عربي

سرعان ما دب الخلاف بين أعضاء الجمعية نتيجة التدخل المباشر من العرب غير السوريين في شؤونها، ونتيجة دخول أعضاء جدد إليها مؤيدين للاتحاد السوري ومعادين لأشراف مكة، فيما كانت الحكومة تمارس الضغوط والترهيب على أعضاء فرادى في الجمعية، وتتلاعب بالانتخاب الداخلية، وكانت تقدم الرشى إلى كل عضو وتمول الأنشطة اليومية للمنظمة، أضف إلى كل ذلك سياسة " فرق تسد" التي مارستها السلطات الفرنسية حتى قبل دخولها لسوريا رسمياً.

النادي العربي والتوجيه والتعبئة

التنظيم السياسي الثاني هو النادي العربي، الذي يشبه جمعية العربية الفتاة، لجهة أن معظم قادته من الصف الأول والثاني هم من الطبقة الوسطى ومن الصف الثاني للأعيان الدمشقيين، علاوة على ذلك لم يكن الأعضاء الأصليون في المنظمتين على وعي كبير بالفوارق الاجتماعية والثقافية التي تميزهم عن الأغلبية من مواطنيهم وحسب، بل إن ما تمتعوا به من امتياز الوصول إلى الحكومة العربية ساعد على تعزيز نظرتهم إلى السياسة باعتبارها ميداناً للتلاعب والتآمر.

وعلى الرغم من أن أعضاء النادي كانت لديهم عموماً نظرة مشتركة للعالم ورؤية للمستقبل إلا أنهم انقسموا بخصوص مستقبل الدولة العربية أو السورية، بينما أيد بعضهم اتحاد عربي يضم سوريا وفلسطين والعراق وشبه الجزيرة العربية بقيادة الشريف حسين، وهو ما رفضه البعض الآخر، وذلك زاد من حدة الخلاف لتبدأ الانشقاقات في النادي الذي كانت الحكومة الفيصلية تنظر إليه بصفته جسراً لردم الهوة بينها وبين الأهالي، وأناطت به مهمة توجيه السكان وتعبئتهم.

اتفاق فيصل- كليمنصو!

 مهمةٌ استمر بها النادي حتى بعد اتفاق الأمير فيصل بالحروف الأولى مع رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو القاضي بأن "السوريين لا يستطيعون في الوقت الحاضر نظرًا لاختلال النظام الاجتماعي الناجم عن الاضطهاد التركي، والخسائر المحدثة أثناء الحرب، أن يحققوا حريتهم، وينظموا إدارة الأمة دون مشاورة ومعاونة أمة مشاركة، على أن تسجل تلك المشاركة في عصبة الأمم باسم الشعب السوري وتُطلب من فرنسا"، إلا أن سلطة الحكومة العربية ما برحت تتضاءل حالها كحال استراتيجيتها لتحقيق الاستقلال لسوريا الموحدة.

 

فيصل.jpg
الأمير فيصل خلال مفاوضات 1919 في قصر فرساي. ويظهر ما دُعي بـ لورانس العرب إلى يسار الأمير (Getty)

 

في مدينة حلب لم يكن إهمال الحكومة لواقع هذه المدينة الاقتصادي السيء هو سبب نفور الحلبيين منها وحسب، بل "إن المدينة كانت تضم أنصاراً للأتراك أكثر مما تضم من مناصري أشراف مكة".

اللجان الشعبية

الشكل الثالث للتنظيمات السياسية، كان اللجان الشعبية، التي تم تشكيلها لحماية المدن والأحياء والبلدات بعد مصادقة الحكومتين الفرنسية والبريطانية على الانسحاب البريطاني من سوريا في 15 أيلول 1919، ونتيجة لذلك خفضت بشكل كبير الحكومة البريطانية المعونة التي كانت تدفعها، فلم تعد سلطات الأمير فيصل قادرة على دفع أموال الحماية للبدو لضمان دعمهم وحسن سلوكهم، فانهار الأمن وامتد من الريف إلى المناطق الحضرية.

على الفور وجه ياسين الهاشمي رئيس ديوان الشورى الحربي في الحكومة العربية الدعوة لتجنيد اثني عشر ألفاً للدفاع عن سوريا، وشرع في إنشاء هيكل عسكري جديد، وتحديداً لجنة الدفاع الوطني، وقد أدى الضغط الذي مارسه البريطانيون على إرغام الحكومة على التنصل من لجنة الدفاع الوطني، ليتم بعدها تفكيك اللجنة فيما تم نفي الهاشمي إلى فلسطين، في حين استمر فخري البارودي ونسيب البكري بتجنيد المتطوعين.

في هذا الصدد يقول د. نمر رئيس تحرير جريدة المقطم إنه التمس مرات ومرات الإذن بنشر مقالات تعبر عن رغبة السوريين بشأن مستقبل بلادهم، ليأتيه الرد من مراقب المطبوعات أن بإمكانه قول ما يحلو له عن سوريا، دون المساس ببريطانيا وفرنسا والشريف حسين، أو حتى المصالح الفرنسية البريطانية في سوريا!

الارتياب من الغرباء

في شهر تشرين الثاني 1919 تولت اللجنة الوطنية العليا رعاية انتخاب ممثلين عن أحياء دمشق، وأدت هذه الانتخابات إلى انبثاق جيل جديد من الناشطين القوميين في دمشق والأجزاء الأخرى من سوريا، وكان هؤلاء الناشطون يختلفون تماماً عن سابقيهم من أعضاء جمعية سوريا الفتاة أو حتى النادي العربي، فأعضاء اللجان كانوا من مؤيدي إقامة حكومة محلية في دمشق، وكانوا مرتابين أو حتى مستائين من الغرباء العراقيين والفلسطينيين والحجازيين الذين التحقوا بالإدارة العربية.

معاقل التنظيم السياسي

إن وجود شبكات متداخلة ومترابطة في كثير من الأحياء تضم التجار والتجار المشايخ يعتبر السبب الأكثر أهمية لتحول الأسواق والمساجد في جميع أنحاء دمشق إلى معاقل للتنظيم السياسي إبان العهد الفيصلي، وعمل على ذلك عائلات دمشقية كآل الخطيب وآل كيوان وآل البرهاني وآل الدقر الذين كانوا برفقة عمدة علماء دمشق الشيخ بدر الدين الحسني يحثون على الجهاد عشية الاجتياح الفرنسي لسوريا، وبعده راحوا يدعون إلى مقاومة الانتداب، فيما توسعت اللجنة الوطنية العليا بعد انضمام مجموعة متنوعة من زعماء العشائر والطوائف والأعيان في الريف السوري.

ابتكار الرموز الوطنية

في القسم الثاني يتناول الباحث " الجماعات الخطابية القومية" وفي هذا السياق يوضح غيلفين أن الحكومة ابتكرت الأعياد الوطنية كعيد دخول الجيش العربي الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول الوفاق والحداد على الشهداء العرب الذين أعدمهم جمال باشا، وكان الشهداء كناية عن تضحية أبناء الأمة السورية كافة اثناء الحرب، ورمز الشهداء احتفظ بقوته العاطفية حتى بعد زوال الحكومة الفيصلية. كما تم الاحتفال بيوم الاستقلال، وجرى تزيين المباني بالأعلام من حلب حتى عمان، وتمت إعادة صياغة وكتابة مسرحيات وأنشطة ثقافية وتضمينها رسائل قومية، بل إن الحكومة أحدثت يوم عطلة وهو عيد الثورة في نيسان من عام 1920 إحياء لذكرى أبطال الجيش العربي.

اللجان الشعبية وظفت استخدام كلمة ثورة للإشارة إلى مناهضة البريطانيين والفرنسيين، فضلاً عن مناهضة الأمير فيصل وحكومته وأنصاره، في حين قبلت الجماعات الخطابية التي تضم اللجان الشعبية وحلفاءها على مضض رمز شرعية أشراف مكة والثورة العربية، لكنهم استخدموه في معانٍ أخرى غير تلك التي يريدها الأشراف ومؤيدوهم.

أشراف بدون مؤهلات!

تبنت الجماعتان الخطابيتان القوميتان قضية الوئام بين الطوائف وعملتا على تعميم شعار "الدين لله والوطن للجميع" بدرجات متفاوتة من الحماس، لكن ما إن غابت النداءات الداعية للتناغم بين الطوائف عن المنشورات التي كانت توزع في دمشق بعد مغادرة لجنة كينغ- كراين حتى حلت محلها على نحو لافت الرموز الإسلامية.

 

كراين.jpg
لجنة هاري كينغ (يسار) تشارلز كراين (يمين) - 1919

 

وبحلول ربيع عام 1920 أذعن الأمير فيصل وجماعته لاستخدام هذه الرموز، مقسمين المجتمع السوري إلى مؤيدين له يصلحون للحكم ومعارضين لا يصلحون إلا أن يكونوا محكومين، ولكن الأشراف وأتباعهم لم يكونوا يمتلكون المؤهلات والحجج التي يمتلكها المتنورون السوريون، لذلك حاول القادمون الجدد إلى السياسة الدمشقية بوصفهم غرباء وغزاة التأكيد عن أن وجودهم ضروري لتنظيم مجتمع منقسم على نفسه منذ قرون، وبناء على ذلك لم تكن الرابطة التي وحدت السوريين ذات طابع سياسي، بل ما وحدهم هو القاسم المشترك في النظرة العالمية والمصالح المستمدة من العرق والتجربة التاريخية للأمة السورية.

فقدان القدرة على التأثير

القسم الثالث يتناول المراسم الاحتفالية القومية، فكانت الاحتفالات التي نظمتها الحكومة العربية تفتقر إلى القدرة على التأثير نوعاً ما، كونها كانت ذات طابع توجيهي، واعتمد الأشراف لترسيخ حكمهم إلى غرس القيم القومية المرتبطة بالمتنورين، ولكن أعضاء الحكومة العربية ووكلاءها- على عكس الأعيان المحليين واللجان الشعبية- يفتقرون إلى المعرفة بالأحياء والقرى لذلك تبنوا استراتيجية تترواح ما بين تقديم الرشى لمثيري المتاعب والمنافسين المحتملين، إلى تقديم الهون المالي للصحف اليومية، وإعادة هيكلة المؤسسات من أجل ربطها بالحكومة.

لم تكن المقاهي الواقعة في قلب المدن والأسواق متنفساً للترفيه فقط، بل مكاناً لتنظيم الفعاليات المسرحية الوطنية وإلقاء القصائد والقراءات المسرحية والصيغ المنقحة من فن خيال الظل بل وحتى العروض المسرحية، فيما كانت المظاهرات التي تدعمها الحكومة تحاول أن تظهر لدول الوفاق أن سكان سوريا مهيؤون للاستقلال ويقفون موحدين خلف الأمير فيصل، غير أن هذه المظاهرات لم تحقق أياً من أهدافها لا داخلياً ولا خارجياً.

على النقيض من الفتاة والنادي العربي لم تكن اللجان الشعبية مستقلة عن الحكومة وحسب، بل تعكس الطابع المتغير للسلطة السياسية المدينية وتجسد وعياً بديلا للجماعة القومية على نحو لم يكن واضحاً في السابق.

مئات القتلى في مظاهرات

يخبرنا الباحث الأميركي أن النخبة ومعها الجماهير في سوريا وخصوصاً دمشق كانوا مستائين من الأمير فيصل لانصياعه للمطالب الفرنسية، وما أعقب ذلك من أزمات سياسية واقتصادية، إثر توقف المساعدات البريطانية. فيما نتج عن الاحتجاجات الشعبية المناهضة لفيصل وحكومته مقتل مئة وعشرين شخصاً وضعفهم من الجرحى، فيما كان عدد الضحايا في مدينة حلب ثاني كبرى مدن سوريا نتيجة الاحتجاجات يتراوج بين خمسمئة وستمئة شخص.

يقول الباحث الأميركي إن قادة الرأي السوريين كانوا يحاولون إثارة حماسة الشعب إلى أقصى حد، ولكن هذه النخبة كانت تتراجع أمام أدنى عقبة تعترض طريقها، تاركة الشعب حائراً في أمره، فضلاً عن أنها كانت تحرض ضد الفرنسيين وفي ذات الوقت كان منها من يفاوضهم سراً.

المؤلف والمترجم

وجيمس ل. غيلفين هو أكاديمي أميركي متخصص في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، سيما مسائل القومية والتاريخ الثقافي والاجتماعي، أما المترجم عمرو ملاح فهو كاتب وباحث ومترجم سوري مهتم بالحقبة العثمانية المتأخرة، ويحمل إجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها، وله العديد من الأعمال المترجمة المنشورة.