شهدت السنتان الأخيرتان سلسلة تغيرات على صعيد المنطقة نحو تقارب قواها الكبرى. فبعد صراعات تاريخية قررت المملكة العربية السعودية تغيير استراتيجية التعامل مع إيران من التصعيد إلى الحوار. وعلى الرغم من كون هذا المسار في بدياته ولا ينبئ بانتقال الطرفين نحو التفاهم أو التحالف بالتأكيد فإن الباب قد فُتح باتجاه تهدئة صراعات الوكالة بين الطرفين.
لم يقتصر الموضوع على المملكة العربية السعودية وإيران بل تعداه ليشمل غالبية قوى المنطقة، فعلى الرغم من بناء إيران وحزب الله لمشروعهم على معاداة إسرائيل فإن اتفاقا كان قد أبرم بين لبنان- حزب الله من وراء الكواليس- وبين إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية وهو ما يفتح الباب كذلك على تهدئة استراتيجية بين حزب الله وإسرائيل.
إضافة، وقبيل الانتخابات التركية الأخيرة ظهر تغيّر في الاستراتيجية التركية في المنطقة. فعلى خلفية اندلاع الثورات العربية ودعم أنقرة لها مقابل تخوف غالبية قيادات الشرق الأوسط منها، توترت العلاقة بين تركيا والدول العربية وصولا إلى مستويات تبادل الضربات العسكرية في عدد من بؤر الصراع.
من المعروف أن المظلة التي تبقت للمعارضة السورية كانت تركيا إلا أن التخوف برز مباشرة بعد التقارب الذي انطلق بين تركيا والأسد. فقد بدأت التساؤلات عن مصير المعارضة السورية والشمال السوري وحتى اللاجئين
لكن التقارب الحاصل في المنطقة والضغط الانتخابي والاقتصادي وتراجع الثورات العربية دفع أنقرة للتراجع عن استراتيجيتها الماضية والالتحاق بالجو العام في المنطقة عبر إعادة تفعيل أو تعزيز العلاقة مع كل الدول المجاورة بما فيها نظام الأسد.
على المقلب الآخر، من المعروف أن المظلة التي تبقت للمعارضة السورية كانت تركيا إلا أن التخوف برز مباشرة بعد التقارب الذي انطلق بين تركيا والأسد. فقد بدأت التساؤلات عن مصير المعارضة السورية والشمال السوري وحتى اللاجئين. عندئذ توجهت الأنظار نحو المعارضة نفسها وماذا يمكن أن تفعل وكيف ستكون ردود أفعالها في حال اكتملت سلسلة إجراءات التطبيع مع الأسد.
المشكلة أن كل خيارات المعارضة مُرة، فبعضهم يتهمها بأنها لا تجيد قراءة المشهد العام وبأن المنطقة تتجه نحو التهدئة وبأن عليها بمنطق الواقعية السياسية أن تدخل في المشهد وتحاول التفاوض على مكاسب في سوريا مقابل الاعتراف بالأسد كون ذلك سيكون واقعا في السنوات المقبلة أو ربما الأشهر- على تعبير بعضهم. كما تتهم المعارضة من نفس الفئة بأنها في حال كابرت ورفضت الإذعان للواقع فإنها ستخسر كل شيء وسيدوسها قطار التسويات بلا رحمة والأفضل كسب اليسير على خسارة كل شيء.
بالمقابل، فإن بعضهم الآخر يهاجم المعارضة ويتوعدها في حال قبولها بحل سياسي يكون الأسد فيه داخل المشهد؛ لكون ذلك بنظرهم انبطاحا وضياعا لأرواح مئات آلاف الشهداء السوريين الذين سقطوا في عقد من الزمان بهدف حرية سوريا.
بين هذا وذاك تقف المعارضة حائرة أمام أي قرار يمكن أن تقوم به كونها ستخسر على إثره جزءا من جمهورها بعد أن تساقطت شرائح مهمة منه مع مرور الوقت.
المشهد مشابه في لبنان فبعد أكثر من عام على الانتخابات النيابية التي تلت انتفاضة 17 تشرين يتعرض "نواب الثورة" (الذين نجحوا بعد أن رفعوا راية التغيير والمعارضة الشاملة للنظام) لهجوم لاذع عند كل منعطف.
فنواب الثورة يمثلون أقل من 10% من مجلس النواب اللبناني وهم جدد على الندوة البرلمانية وقوتهم تعتبر محدودة لقلة عددهم ونقص خبرتهم وبعدهم عن الدولة العميقة في البلد كما لارتفاع توقعات جمهورهم منهم. فعلى سبيل المثال وفي الجولة الثانية عشرة لمحاولة انتخاب رئيس للجمهورية التي عقدت في 14 حزيران انقسم النواب بين حزب الله وحلفائه الذين دعموا رئيس تيار المردة سليمان فرنجية وبين فريق المعارضة الذي دعم وزير المالية السابق جهاد أزعور في انقسام شبيه بانقسام عام 2005 بين قوى 14 و8 آذار.
في ظل هذا المشهد انقسم نواب الثورة بدورهم ومن خلفهم الجمهور. فقد صوب فريق منهم على كل من يقترع لفرنجية باعتباره مرشح حزب الله الذي يسيطر على البلد من خارج المؤسسات وصوب فريق آخر على أزعور باعتباره وزيرَ مالية سابقا وجزءا من المنظومة السياسية اللبنانية بينما صوب فريق ثالث، من مؤيدي نواب الثورة، على كل من يقترع خارج هذين الاسمين باعتبار صوت النائب المقترع سيذهب هباء ولن يؤثر في المعادلة الانتخابية ويكون النائب بذلك "شعبوي" وعلى هامش الحياة الانتخابية والسياسية.
القوى المعارضة هي الحلقة الأضعف عند التحولات الكبرى والقرار في هذه اللحظات صعب وأي كان اتجاهه فهو مكلف شعبيا وسياسيا
إذاً مهما اتجه هؤلاء النواب فستكون مهاجمتهم حاضرة ولن يستطيعوا أن يهربوا من قدرهم بخسارة جزء من الجمهور عند كل منعطف كما خسارة لحمة هؤلاء النواب الاثني عشر والتي فقدت بالفعل.
في الحالتين السورية واللبنانية وكما حال معظم المعارضات الشاملة في العالم فهي الحلقة الأضعف في المعادلات. لا تمتلك هذه المجموعات القوة الكافية لتوجيه السياسات الدولية ولا حتى المحلية ولا تمتلك كذلك حرية الحركة السياسية، لأنها بالإضافة إلى القيود السياسية والدولية مقيدة بجمهور حساس جاهز لتقييمها عند كل منعطف. فوق كل ذلك تعاني هذه القوى من اختراقات وضعف في الخبرة وغيرها من العوائق.
بالمحصلة، فإن القوى المعارضة هي الحلقة الأضعف عند التحولات الكبرى والقرار في هذه اللحظات صعب وأيا كان اتجاهه فهو مكلف شعبيا وسياسيا. لكن ذلك لا يعفي المعارضات من المسؤولية، بل عليها السعي الدائم نحو توسيع دائرة التشاور والإخلاص في عملها والإبداع في إيجاد الحلول التي تنقذ من تمثلهم. أما إن تراخت فإن القطار لن يدهسها وحدها، بل سيدهس الثوار أنفسهم بعد أن دهست أحلامهم.