تابعت حلقات عدة من تسجيلات مصوّرة يبثها الإعلام السوري تهدف إلى إيهام الناس أن المسؤولين وأصحاب القرار في حكومة النظام السوري أو وزارة إعلامه، يهتمون إلى حد كبير بتفاصيل حياة المواطن السوري، ويكفي الحديث هنا عن برنامج -أو فيديو- واحد لنرى مقدار الذل الذي نحتاج لبذل جهود جبارة لمتابعته.
هذه الخطة الإعلامية مُتبعة منذ عقود ولكنها زادت أخيراً. في حلقة من برنامج تلفزيوني اختاروا له عنوانَ "فطورك علينا" وترعاه صحيفة "الوطن" المقرّبة من النظام السوري، تُبثّ الحلقة من سوق الخضراوات في مدينة اللاذقية (السوق المركزي، وفيه تباع اللحوم والأسماك والخضار...). مقدمة البرنامج للأمانة مذيعة جميلة كعارضات الأزياء برشاقتها وجمالها، لكنها مفرطة الانشراح والبهجة بصورة تثير العجب! تلك المذيعة الفرحة التي تمثل الجهة التابعة لها (المسمّاة إعلام الوطن!)، بدأت بالقول بسعادة غامرة: "نحن في العاشر من رمضان ويُقال (إذا عشر بشر)"، ثم تقترب من سيدة سورية في منتصف العمر تشي ملامح وجهها بتعب مُزمن وأسى جليّ، وتسألها: "شو ناوية تطبخي اليوم؟"، لترد السيدة بخجل وصوت مطفأ: "كوسا محشي". تتابع المذيعة أسئلتها: "كم ولداً عندك؟ وماذا تعملين أنتِ وزوجك؟".
تجيب السيدة بدورها: "لدي خمسة أبناء، وأنا لا أعمل، وزوجي لا يعمل أيضاً لأنه شهيد". لا تعلق المذيعة بأية كلمة على عبارة "الزوج الشهيد"، وكأنه من الطبيعي أن يكون الزوج أو الأخ أو الابن "شهيداً"! وتذكرتُ أن التلفزيون وجريدة "الثورة" التي كانت تخصص كل أسبوع صفحة كاملة تعرض فيها صور أكثر من أربعين عسكرياً "شهيداً"، وأن أهالي أولئك الأربعين يشعرون بالفخر وعزة النفس لأن ابنهم "شهيد"، وكلهم يقولون الكلمات نفسها تماماً من دون أن يزيد أو ينقص حرف جر! والعبارة التي كانت سائدة آنذاك: "كوكبة من الشهداء"!
بعد ذلك تنتبه المذيعة إلى أن صبية مراهقة ترافق أمها، فتسألها: "في أي صف أنت يا غالية؟"، لترد الصبية: "أنا تركت المدرسة". تتصنع المذيعة الذهول لتتابع أسئلتها: "لماذا؟"، فترد: "كي أساعد أمي في مصروف البيت". وهنا ترد المذيعة لتقول لتلك المواطنة: "اليوم رح يكون إفطار رمضان علينا، وتتنقل المذيعة برشاقة من دكان إلى دكان لتشتري المواد اللازمة لطبخة الكوسا محشي، بأسعار خيالية: عشرة آلاف ليرة كيلو البندورة وكذلك الفليفلة. باختصار شديد سيكون سعر الكوسا مع المواد اللازمة نحو 42 ألف ليرة، وبقي على المذيعة أن تشتري اللحم، فتقصد اللحام الذي يبيع كيلو اللحم بما يتراوح بين 30 ألفاً و38 ألفاً.
أي ذل تقدّمه هذه البرامج وهي تعرض القهر والجوع والعوَز الذي يعيشه السوري في ظل العبارة المُوحدة التي صار السوريون يرددونها: "عايشين من قلة الموت"؟
تشتري المذيعة كيلو اللحم للمواطنة، فتكون كلفة طبخة الـ (كوسا محشي) قرابة المئة ألف ليرة سورية. السيدة وابنتها تحملان الأكياس وعلامات الشكر المُذِلّ على وجهيهما. نعود إلى المذيعة التي تتقافز بحماسة لتختار رجلين بوجهيهما البائسين الواجمين بحسب ما أظهرته الشاشة، ونظراتهما مطفأة، يتأملان الأسعار بذهول ويكبحان القهر المتراكم منذ عقود في نفسيهما. تسأل المذيعة الرجل الأول: "شو رح تفطر اليوم أنت وأسرتك؟ فيرد: "فريكة تسأله سأشتري لك الفريكة هل ستأكلونها مع دجاج؟ أجاب الرجل: "طبعاً"، فتتابع المذيعة: "حسناً، سنشتري الدجاج أيضاً". فجأة تلمع نظرة في عيني الرجل فيقول لها: "غيرت رأيي اشتري لي لحم غنم، منذ ثلاث سنوات لم أذق طعم اللحم". يحس المواطن أنه حصل على فرصة ذهبية أو كأن الحظ ابتسم له فقد رضيت المذيعة أن تشتري له كيلو لحم غنم، ثم زيتاً نباتياً بـ19 ألف ليرة.
سأكتفي بهذين المثالين من عديد الأشخاص الذين قابلتهم المذيعة، على المنوال والسيناريو نفسه؛ مواطن أو مواطنة عاجزان عن شراء الخضراوات واللحم والزيت والدجاج واللحم، حتى البطاطا -طعام الفقراء- أصبحت بعيدة المنال، فالكيلو بـ3000 ليرة فقط!
ونسأل أنفسنا: هل كانت السيدة زوجة "الشهيد"، ستطبخ الـ كوسا محشي حقاً بعدما تبيّن لنا بحساب بسيط وبحسب ما كان ظاهراً في أسعار السوق، بأن الطبخة لأسرة من 5 أشخاص ستكلف نحو مئة ألف؟ فضلاً عن أن ابنتها الفتاة الصغيرة التي تركت المدرسة بسبب الجوع والفقر لتعمل في مصنع أحذية وتؤمن الخبز لإخوتها وتساعد أمها، فأزعم أن إخوتها أيضاً تركوا المدرسة ليعملوا ويسدّوا عضات الجوع.
ثمة تناقض فاضح بين وضع تلك السيدة المدقعة الفقر وطبخة المحشي. إذ لا يخفى على أحد أن المتابعين يدركون جيداً أن ما حصل هو تمثيلية تُعرض أمامهم، وبأن المذيعة بالتأكيد طلبت من السيدة أن تقول كل ما قالت قبل تصوير المقطع. أما بالنسبة للرجل؛ فأي ذلّ فاضح يجعله يطلب من المذيعة، كالمتسوّل، أن تشتري له اللحم بدل الدجاج؟ هل انقرض الشعور بالكرامة؟
بدأت أؤمن أنه انقرض، فالجوع كافر والحرمان المديد يجعل الإنسان يهبط إلى أدنى المستويات في ذلك (الوطن). اللافت في الفيديو أن بعض الباعة رفضوا قبض ثمن بعض المشتريات وقالوا إنها "إكراماً للمذيعة وللإعلام"، ولم يقولوا "إكراماً للمواطن"! هم رفضوا قبض ثمن المشتريات كنوع من الرشوة ضد تهمة مُحتملة في أيه لحظة وليس تعاطفاً مع الفقراء، إخوتهم في الإنسانية.
أي ذل تقدّمه هذه البرامج وهي تعرض القهر والجوع والعوَز الذي يعيشه السوري في ظل العبارة المُوحدة التي صار السوريون يرددونها: "عايشين من قلة الموت"؟ لماذا يقدم الإعلام المواطن السوري ببؤسه وقهره وذل الحرمان والجوع ليراه العالم كله؟ أي ذل أن نجد رجلاً يقارب الستين من عمره وكأن لعابه سال شهوة على اللحم الذي لم يأكله منذ ثلاث سنوات، فيرجو المذيعة أن تشتري له اللحم بدل الدجاج؟ ما الغاية من عرض ذل السوريين أمام بعضهم وأمام العالم؟ ولربما سيتساءل بعض مشاهدي الفيديوهات: هؤلاء المواطنون المحظوظون بوجبة إفطار في العاشر من رمضان، ماذا سيأكلون غداً وفي الأيام التي تليه؟ وأي إهانة تلك التي تطلقها المذيعة التي تتراقص بفرح وتحسها كأنها تزقزق الكلام؟
إلا أن عدسة الكاميرا لا تكذب، فوجوه الناس كالحة ويائسة إلى حد كبير، ومظهرهم البائس ونظرات الحرمان بادية في عيونهم وعيون أطفالهم. ترى، ألا يتساءل المسؤولون المبتكرون لفكرة برامج كهذه تُظهر المواطن كمتسول يشكر "الحكومة" التي صنعت منه "شعب الطابور" في ظلّ حيتان الفساد الذين يعيشون ترفاً أسطورياً؟
ثمة أسماء تتردد كان أصحابها فقراء أو متوسطي الحال وصاروا اليوم من أصحاب المليارات، أحدهم كان بياع دجاج وبالكاد يؤمن طعام أولاده ومصاريفهم صار مليارديراً، ولكي يُغطي على فساده وثرائه الفاحش، قرر ذلك الحوت "النبيل المؤمن"، التبرع لشاب مريض بمبلغ 15 ألف دولار لإجراء عملية جراحية.
فيديوهات الذل هذه إهانة لا يُمكن تقبلها ولا غفرانها لشعب فاق صبره صبر أيوب، لمواطنين سوريين أكثر من 80 في المئة منهم يعيشون في فقر مدقع. أي وقاحة أن تفتعلوا برامج كهذه معتقدين أنكم تلمعون صورة إعلامكم ومسؤوليكم وأصحاب القرار في البلد، وبأنكم تحبون الشعب السوري الفقير الصامت؟ شعب تحول إلى مهرج أو بهلول يراه العالم يقف في سوق الخضراوات واللحوم عاجزاً عن شراء أي شيء. حتى قرص الفلافل، يخبرني أحد الأقرباء الذين اتصلت بهم قبل أيام، صار أصغر وسعره 200 ليرة!
بذلك تكتمل لوحة الذل واحتقار المواطن ليكون مُطيعاً كغنمة، مُضحياً بكرامته لينعم بأمان الدجاجات في القفص. الصمت يُغطي الحقيقة، وصرخة الحق تُعتبر جريمة يُحاسب عليها المواطن. وتستمر الحياة التي لا تُشبه الحياة في شيء.. حياة أيام ذليلة معجونة بالقهر والخوف والحرمان. يبدو أن الشعب السوري صار يستحق أن يدخل في موسوعة غينيس في البؤس وذل العيش.