يدمّر الطغاة البلاد والشعوب التي يحكمونها بطرائق مختلفة، ولكن دائماً تكون النتائج كارثية. وهذا ما فعله حافظ الأسد عندما وصل للحكم عام 1970 عبر انقلابه العسكري، الذي أطلق عليه اسماً آخر كان "الحركة التصحيحية".
ومن طرائف عملي أيام زمان في صحافة النظام أنّي أدركت هناك متأخراً أنهم يطلقون على الحركة التصحيحة صفة "المباركة" وعن حرب تشرين "المجيدة". وأنه لا يجوز كتابة هذه العبارات في إعلامهم من دون تلك الصفات.
والغاية المعلنة والخفية لكل طاغية هي البقاء في السلطة للأبد، وفي سياق الاستحواذ على كل مفاصل البلاد الاقتصادية والعسكرية والفكرية والسياسية وغيرها يسيطر الطاغية على اللغة، نعم حتى اللغة تصبح تحت أمر الرئيس، وهنا تبدأ لعبة الماكينات الإعلامية التي تعمل في خدمة الطاغية.
فوزارة إعلام الأسد اشتغلت بالليل والنهار وبغايات خبيثة على تدمير اللغة ومفاهيمها المختلفة من داخلها. ليس هذا فحسب، إنما جرى ويجري الاستحواذ على المفاهيم والقيم السياسية والقانونية وتفجيرها من الداخل. ومن آلاف الأمثلة نذكر كيف تمّ استخدام مفهوم الديمقراطية، فحسب إعلام الأسد وإعلام التابعين له من الخدم في الجبهة الوطنية التقدمية فإن سوريا الأسد لديها "ديمقراطية" لكنها ديمقراطية تناسب مجتمعنا وتقاليدنا وليست ديمقراطية مزيفة، وللأمانة فقد ساند البكداشيون وبقية أحزاب الديكور الأسدي، هذا التدمير ومازالوا، لا بل كانوا من أشدّ المعجبين بمدرسة حافظ الأسد وهي تغتصب اللغة ومفاهيم العصر الحديثة.
لإفراغ الديمقراطية وتلويثها من داخل اللغة كانوا لا يشرحون هذا المفهوم إطلاقاً إنما ينقضّون عليه للإجهاز عليه، يطلقون عليه نار التلويث والتحريف والتخريف
يصفون عموم الديمقراطيات الغربية الحديثة بأنها مزيّفة. وأنّ ديمقراطية حزب البعث العربي الاشتراكي هي الديمقراطية الصحيحة. حيث يتم ترتيب كل عمليات انتخابه الداخلية في غرف ومقار فرع الخطيب وغيرها من فروع الاستخبارات.
ولإفراغ الديمقراطية وتلويثها من داخل اللغة كانوا لا يشرحون هذا المفهوم إطلاقاً إنما ينقضّون عليه للإجهاز عليه، يطلقون عليه نار التلويث والتحريف والتخريف، فالديمقراطية الغربية ملوثة حسب زعمهم، ولا مرّة أحد منهم تحدث عن التداول السلمي للسلطة، ولا مرّة تحدثوا عن رئيس تنتهي فترة ولايته ويجلس بعدها في بيته.
وضمن السياق نفسه جرى تدمير أهمّ مفهوم في العصر الحديث وهو الحرية، الحرية التي رفعها المتظاهرون السوريون السلميون لأشهر طويلة في شوارع المدن السورية، ومازالوا "في السويداء" وأطلقوا تلك اللعنة السلطوية وعلى لسان عسكري من عساكر الأسد وهو يضع بوطه على رقبة مواطن سوري متظاهر ويسخر منه قائلاً "بدكن حرية" وأتبعها فريق إعلام الأسد بتلويث وتدمير مقصود حيث الحريات عندهم هي الدعارة، وبالمناسبة حتى الدعارة فهي عمل جرى تنظيمه في الغرب منذ عقود طويلة، وبائعات الهوى يدفعن الضرائب للدولة. بينما كانت ومازالت بيوت الدعارة السرية التابعة لضباط الأسد تعمل إنما لجباية أموال للضباط.
فالحرية عند الأسد وأتباعه لا تعني حفظ كرامة الإنسان ولا الدفاع عن البشر عبر الجهات النقابية والمدنية والسياسية التي تمثل مصالحهم.
الحرية عنده لا علاقة لها بالحريات الإعلامية والسياسية والثقافية والنقابية والشخصية.
وضمن عمليات غسيل الدماغ وتدمير اللغة ومفاهيمها العصرية جرى تكريس مفهوم العدو الأزلي، والصراع الأزلي معه وصدّروا للناس مفاهيم مثل "ثوابت الأمة" و"الغزو الفكري" ومن المفيد أن نذكر أنهم في هذه الفترة نفسها، كانوا يرسلون أبناءهم للدراسة في بلاد الغرب ويحصلون هناك على جنسيات تلك البلدان التي يصفونها في إعلامهم بأنها ذات ديمقراطيات مزيفة.
وفي فترات استقرار حكم حافظ الأسد، في تسعينيات القرن الماضي وللأمانة كانوا يتركون للبشر مساحات صغيرة، ثقافية أو درامية أو سياسية ليلعبون بها، من عيار: بعض الكتابات الصحفية التي تنتقد مهرجان دمشق السينمائي مثلاً ومديره التاريخي. أو الاستثمار في أقلام معروفة تنتقد عمل الحكومة وخططها. وفسح المجال مثلاً لعضو ما في مجلس الشعب لينتقد عمل الحكومة وتصديره على أنه وطني ومعارض ويسمحون له في ذلك، ولكن تحت سقف الوطن.
الوطن عند الطاغية نقيض مفهوم المواطن. فلا مواطن وحقوق إنسان في وطن الطاغية، فلا مواطن وديمقراطية وحريات في وطن الحزب الواحد وشعارات لا صوت يعلو فوق صوت المعركة
وعلى سيرة الوطن، فإنّ مفهوم الوطن هو أكثر مفهوم جرى تدميره وإفراغه من محتواه، فالوطن هو القائد وحذاؤه وصوره وأمجاده وإنجازاته. وعندما كان الغرب يعمل على تحديث كل شيء من القطارات وبنيتها التحتية إلى مفاهيم العلوم المختلفة، كان تلفزيون الأسد يشرح لنا عن سوريا التحديث والتطوير على إيقاع أغنية فؤاد غازي "يا معاملنا دوري دوري" وذلك بعد عرض إعلانات علكة سهام وسوائل الجلي العصرية.
الوطن عند الطاغية نقيض مفهوم المواطن. فلا مواطن وحقوق إنسان في وطن الطاغية، فلا مواطن وديمقراطية وحريات في وطن الحزب الواحد وشعارات لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. لا مواطن محفوظة كرامته وحياته وحريته في بلد محكوم من خلال فروع الاستخبارات والجيش وثقافة الحذاء العسكري وصراخ الجلّاد: بدكن حرية!
ولأنّ اللغة تمّ تدميرها على أيدي الطاغية، نحتاج الآن فعلياً إلى لغة جديدة نظيفة تدافع عن نفسها عبر مواطنين أحرار. وقبل كل شيء نحتاج دائماً إلى الحرية والديمقراطية والعلمانية كأسس لبناء دولة حديثة بعيداً عن أحذية العسكر والضباط.