يلجأ المعلمون والمعلمات في مدارس مقاطعة بريمن، خاصة في المراحل الثانوية، إلى اتباع دورات تربوية تخصصية في جامعات المقاطعة، لمعالجة العديد من المشكلات التي تحدث بين الطلاب خلال الحياة اليومية في المدارس. ومن أهم هذه المشكلات، تلك التي تعلّم الطلاب كيف يكونون هادئين في حال تعرضوا للشتم أو الإهانة أو حتى الضرب.
يستخدمون خلال عملية التدريب قاعة صف خالية من المقاعد، وغالباً ما يكون المحتوى متنوع الشكل والمضمون، وينتهي كل مقطع منه بحوار واستماع لكل التعليقات التي يقدّمها الطلاب. في معنى ما، هنا ما يشبه العلاج النفسي الاجتماعي عن طريق المسرح، حيث التبصير والنصيحة والمشورة تكون غير مباشرة.
يتعلم الطلبة كيف يحمون أنفسهم من التنمر والشتيمة والإهانة أو حتى الضرب، وكيف يصغون لبعضهم البعض. العلاج يبدأ حين يقتنع من يتعرض للشتيمة ألا يرد بشتيمة أخرى على من شتمه، دون أن يتنازل عن حقه. فهناك طرائق تربوية أخرى غير أن نحصّل حقّنا بأيدينا.
ما يتعلمه الطلاب المراهقون هنا يصلح بالتأكيد لعالم الراشدين، لم لا؟ وهذا العالم ممتلئ بالجنون والعدوانية والانقسام والتشرذم. وفيه ما يكفي من العدوانية ليدمّر ذاته ضمن متوالية لا نهائية.
الإيجابي هو حرص عدد لا يستهان به من السوريين على توضيح الأمر فكرياً بعيداً عن الشتم والتخوين والإقصاء.
الشتائم السورية في عالم التواصل الاجتماعي
القصد من كل هذه المقدمة هو نحن السوريين الذين يشتمون بعضهم البعض في وسائل التواصل الاجتماعي، ويخوّنون بعضهم بعضاً، وأغلبيتهم يعيش خارج سوريا، فمن يعيش بالداخل عموماً ليس لديه كهرباء وإنترنت كافٍ ليتفرغ لرفاهية صرف الوقت بإرسال الشتائم لمن يخالفه الرأي.
هل تريدون أمثلة؟ ما أكثرها. المؤكد أنّ أغلبيتكم تابع مجريات التراشق الكلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في قضية كتاب سامر بكور وعنوانه الإشكالي: "التغريبة السورية: (الحرب الأهلية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011-2020)"، وما أنا شبه متأكد منه أن أغلبية المشاركين في هذا القتال اللغوي السوري لم يقرؤوا كتاب بكور.
قبل كل شيء، أرى أن هناك ما هو إيجابي في هذه الحالات، خاصة أن الأمر يخص اللحظة السورية الراهنة وتوصيف الانفجار السوري الذي بدأ في منتصف آذار عام 2011. الإيجابي هو حرص عدد لا يستهان به من السوريين على توضيح الأمر فكرياً بعيداً عن الشتم والتخوين والإقصاء. وقد قرأت العديد من المضامين الراقية التي تناقش الفكرة.
السلبي في الأمر هو انقياد أعداد هائلة من البشر مع الترند دون تفكير وتدقيق، وغالباً ما تتحول بعض الحسابات في الفيسبوك إلى مطبخ عمليات لنشر الكراهية والتحريض على كل من يخالفهم الرأي. ويتحول للأسف أصدقاء فلان إلى أتباع يرددون ما يريده صاحب الحساب.
استخدمت المثال السابق لأقول بأنه يمكننا أن نستفيد من العلاج التربوي الذي بدأت به كلامي، ويمكن لنا أن نتحاور في أي فكرة دون شخصنة الخلاف وتحويله لخلاف شخصي. فالكارثة المستمرة منذ سنوات أفرزت الكثير من الأسئلة وفيها الكثير من التحولات، وتغير العالم من حولنا كثيراً، ولم يعد ناجعاً طرح تصورات مثالية فانتازية كحلول للحالة السورية.
دعونا نتفق على أن الكراهية والعنصرية ليستا وجهتي نظر. ما عدا ذلك، يمكن لنا كسوريين أن نتحاور في كل شيء. فالعالم من حولنا غير عادل، ومن يبحث عن عدالة مثالية لن يصل لأي شيء، وهذا لا يعني أن نستسلم سياسياً، إنما علينا تغيير أدوات الخطاب ومفرداته نحو لغة أكثر عقلانية وسياسية. فتعقيدات المشهد السوري صارت واضحة للجميع، ومن يتوقع حلاً سياسياً أسطورياً وسريعاً يكون واهماً.
يمكننا أن نختلف دون أن نحول الاختلاف إلى خندق قتالي لتخوين بعضنا بعضاً، ودون أن نسهم في قتل الآخر معنوياً لاختلافنا معه.
هل بيننا عقلاء؟
نعم، بيننا الكثير من العقلاء والحكماء والمفكرين والسياسيين والمتوازنين، ولدينا الكثير مما يمكن الاتفاق عليه، ويمكن أن نعمل جميعاً على أفكار مشتركة لاستعادة سوريا. ويكفي أن نتذكر مرة أخرى نظرية الراحل الدكتور يوسف سلامة، الخاصة بالحل السوري.
ومن الأمثلة التي يمكن لنا الاستفادة منها والاستناد عليها لنعرف كمية الاختلاف السياسي في المشهد السياسي الألماني مثلاً، فألمانيا التي دفعت ثمناً باهظاً بسبب النازية السياسية التي تسببت للعالم ولأوروبا بحرب عالمية، هذه ألمانيا للأسف ما زال قسم من شعبها يحنّ لهذه اللحظة السياسية المخزية، ويرى بعضهم في حزب البديل حلاً. ولذلك، هناك بينهم 16 بالمئة يصوّتون لحزب البديل في عموم ألمانيا. ومع ذلك، يتابع الألمان حياتهم ويصرون على السلمية في التعبير عن مختلف وجهات نظرهم السياسية، فيتظاهرون سلمياً ويكتبون سلمياً، إلخ.
إذاً، يمكننا أن نختلف دون أن نحول الاختلاف إلى خندق قتالي لتخوين بعضنا بعضاً، ودون أن نسهم في قتل الآخر معنوياً لاختلافنا معه. فهذا هو نحن بكل ألواننا وأمراضنا وإيجابياتنا وسلبياتنا. هذا هو نحن بكل تركيبتنا الطائفية والسياسية والعرقية والمذهبية والقومية والثقافية، ولكي نتابع الحوار، لابد أن نتفق على هذه البديهيات السياسية والحياتية.
انفعلنا كثيراً وخسرنا، اتهم بعضنا بعضاً، وخسرنا، خوّنا الآخر وخسرنا الكثير من البشر والزمن.
الحل هو تفكيك هذا العدوان السوري السوري، وتفريغه بطريقة صحيحة.. والبحث عن مشتركات وجسور تجمع الناس. يمكن أن يتحول الصراخ إلى فعل إذا حولنا الصراخ إلى تعبير سلمي غير عدواني، وإذا حولنا انفعالاتنا إلى طاقات إيجابية ووجدنا لها مسارات تفريغ سلمية، فهذه سوريا الجريحة هي بالنهاية تتألف من بشر مكسورين ومهزومين ينتظرون. ومن هزمهم ليس فقط النظام الأسدي، إنما أيضاً كل تطرف سياسي وغير سياسي. فهل نتفق على ذلك؟ ربما!