تكوّن مجتمع بلدة «السيدة زينب» وتياراته الدينية

يقع مرقد السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، على بعد قرابة 10 كيلومترات جنوبي دمشق. وقد تشكلت حوله منطقة سكنية تتوسع باطراد كانت موضوع رسالة الدكتوراه التي أعدتها أدث اندريا الك زانتو علي-ديب، عام 2012، في قسم الدراسات الدينية بجامعة تورنتو. وظهرت في عام 2018 بالعربية في بيروت بعنوان «على خُطى السيدة زينب: المذهب الشيعي الاثنا عشري في سوريا المعاصرة» بترجمة د. هناء خليف غني عن الإنكليزية، ضمن سلسلة أنثروبولوجيا الصادرة عن المركز الأكاديمي للأبحاث، وهو مركز عراقي في تورنتو بكندا.

بدأت الباحثة، التي تعمل حالياً أستاذاً مساعداً في الجامعة الأميركية في السليمانية بالعراق، دراستها واختتمتها بالإشارة إلى الربيع العربي، لأنها باشرت الكتابة قبيل أحداثه وأثناء اندلاعه، بعد أن أمضت سنوات من 2007 إلى 2010 في العمل الميداني لجمع البيانات. ولذلك تقول إنها تحولت من باحثة أنثروبولوجية إلى مؤرخة شاهدة على التغييرات التي عصفت بسوريا منذ عام 2011 وحتى انتهائها من الكتابة.

ترصد المؤلفة التباين بين هذه البلدة وبين العاصمة القريبة لها. فدمشق مدينة المواطنين السوريين فيما تمثل بلدة السيدة زينب موطن اللاجئين وطالبي اللجوء والسيّاح الدينيين. ودمشق مدينة سنّية معتدلة مستقرة حديثة مقابل هذه البلدة الشيعية المتشددة المتغيرة باستمرار.

تأسست بلدة السيدة زينب في عام 1948، كجزء من سلسلة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين جنوبي العاصمة دمشق. ويقع مخيم اللاجئين الفلسطينيين غرب المرقد. وقد شيّدت المنازل على المساحة نفسها التي شغلتها الخيمة بداية. وفي عام 1967 قدمت موجة أخرى من النازحين من مرتفعات الجولان أقاموا إلى الشمال من مخيم الست زينب. كان الفلسطينيون من السنّة، وكذلك معظم اللاجئين، مع أقلية درزية. إذ إن الشيعة الاثنا عشرية أقلية لا تتجاوز 3% من مجموع السكان في سوريا.

في مطلع سبعينات القرن العشرين استقرت الموجة الأولى من الشيعة الاثني عشريين، الفارين من القمع في العراق، إلى الشمال والشمال الشرقي من المرقد. أعقبتها موجة ثانية بعد أن طرد صدام حسين، الرئيس العراقي وقتئذ، قرابة أربعين ألف شيعي عراقي اتهمهم بالتبعية لإيران. وقد مدت السلطات السورية، المنافسة للبعث العراقي ورئيسه، يد العون لهؤلاء اللاجئين وضمنت لهم الحصول على التعليم والخدمات الصحية العامة حتى سنة 2006 عندما أصبح عدد اللاجئين العراقيين في البلاد يقدّر بمليونين بعد الحرب الأميركية هناك في سنة 2003 وما أعقبها من موجة لجوء صارت عبئاً مالياً لا يمكن تحمله. وقد فضّل اللاجئون الشيعة الإقامة في بلدة السيدة زينب وفي ناحية جرمانا بريف دمشق.

بالتدريج انتشرت المطاعم العراقية ومكاتب السفر إلى بغداد وسواها ومحلات بيع السلع والمقتنيات الدينية. وشرع المزارعون السابقون والسكان المحليون في تشييد الفنادق وتجهيز مجمّعات الشقق للإيجار للزوار القادمين من الخليج العربي وإيران وتجمعات الشيعة في العالم. واستقر التنافر بين الفلسطينيين والعراقيين، والتباين الإثني العراقي الإيراني. إذ كانت أكثرية السكان غير سوريين، باستثناء الجولانيين.

تستعرض الكاتبة الحوزات (المدارس الدينية) التي بلغ عددها عشرين في عام 2009. الحوزة الزينبية، التي أسسها السيد حسن الشيرازي في السبعينات، هي أولى حوزات البلدة وأكبرها. فيما أسست حوزة الإمام الخميني في مطلع الثمانينات، وتعد من أبرز الحوزات بسبب ارتباطها بالمرشد الإيراني علي خامنئي. فيما يبرز الصدريون العراقيون كجماعة كبيرة ثالثة.

ترتبط كل شبكة مؤسسية عائلية بمرجع تقليد وتضم حوزات وحسينيات (قاعات مخصصة لإقامة مجالس العزاء) ومشاف. ومن هنا يصبح الكلام عن بلدة السيدة زينب حديثاً عن الدين والاقتصاد والسياسة والبناء الاجتماعي، وعن رجال المذهب الشيعي وحوزاتهم وحسينياتهم، وعن الممارسات الطقوسية المتعارف عليها كالتطبير (الإدماء) واللطم. يحتدم الجدل حول هذه الممارسات في ذكرى كربلاء في شهر محرّم الهجري، كالضرب بالجنازير، بين تبني الشيرازيين وبين إدانة خامنئي و«حزب الله» اللبناني، متّبعين فتوى مرجعهم الخميني.

أسهمت الأموال الإيرانية في تجديد المرقد وتوسيعه. وبينما توفر السلطة السورية الأمن يلعب رأس المال الشيعي الأجنبي دوره في تحسين الظروف الاقتصادية للبلدة

أسهمت الأموال الإيرانية في تجديد المرقد وتوسيعه. وبينما توفر السلطة السورية الأمن يلعب رأس المال الشيعي الأجنبي دوره في تحسين الظروف الاقتصادية للبلدة. لا تتولى وزارة الأوقاف الرسمية إدارة المرقد مباشرة، بل تركت ذلك لعائلة المرتضى التي تولته منذ القرن الرابع عشر الميلادي. ولكن في عام 2007 حددت السلطات السورية المنطقة التي تُمارس فيها الطقوس العاشورائية بالشارع الرئيسي في البلدة فقط، وهو ما لم يستمر طويلاً.

تعرض المؤلفة أنواع التعليم والمواد الدراسية التي تتلقاها الطالبات في الحوزات المختلفة وأنظمتها والتسهيلات التي تقدمها لطلابها في الإقامة والتطبيب والمعيشة. وتشرح كيف تسهم مجالس العزاء والشعائر الطقوسية في البث العاطفي الذي يؤثر في المستمعين، ولا سيما النساء اللاتي يستحضرن السيدة فاطمة الزهراء وابنتها زينب الكبرى بشكل مكثف. وتلقي الضوء على فعالية الطب الروحاني والتداوي بالأعشاب والرقية الشرعية وإبطال السحر واستحضار الجن وكتابة الحجب والاستخارة وتفسير الأحلام. وفي هذه الأبواب كلها يحفل الكتاب بالتفاصيل والملاحظات الحاذقة التي لا يتسع المجال لاستعراضها هنا.

في الخاتمة تعود المؤلفة إلى الإطار السياسي العام فترى أن الإطاحة بصدام حسين أسهمت في حدوث صحوة شيعية جعلت أتباع هذا المذهب هم الأقوى سياسياً في العراق، مما عزّز من نفوذ إيران في المنطقة ودعم الشيعة في لبنان عندما خاض حزب الله حرب تموز ضد إسرائيل في عام 2006، والتي أسهمت في زيادة شعبيته. لكن، وبخلاف نظرة سائدة، ترى المؤلفة أن هذه الموجة أخذت تنحسر مع انطلاق شرارة الربيع العربي، رغم بقاء الهيمنة.