لا يختلف كثيرون على موهبة ياسر العظمة وفنه وحتى "استثنائية" ما قدمه من فن أقل ما يقال عنه أنه "محترم" وغير مبتذل ورسالي إلى حدود كثيرة وإن تخلله بعض الملل وحتى التهريج في أحايين أخرى.
في مقابل نقد لاذع كان يوجه للعظمة من احتكاره للبطولة المطلقة عبر ديكتاتورية الدور الدائم كممثل رئيسي في "مراياه" إضافة إلى كونه المنتج والكاتب والملحن والمغني أيضاً.
"المرايا ومقص الرقيب"
وبالفعل كان "مرايا" مشروعاً لافتاً حين بدأ عام 1982 وصولاً إلى عام 2011، وقدم عشرات القصص والحكايا بأسلوب كوميدي ناقد ساخر وجميل وتطرق للعديد من المواضيع السياسية والاجتماعية والعائلية مما وضع المسلسل على قمة المسلسلات الكوميدية العربية لثلاثة عقود، في الوقت الذي كانت فيه سوريا تحت حكم استبدادي شمولي لا يُسمح فيه لأي نقد من أي نوع من دون إذن مسبق.
وفي عددها الصادر بتاريخ 23 أيلول عام 2007، ذكرت صحيفة "البيان" الإماراتية في مقال بعنوان "من قدم الآخر..ياسر العظمة أم (مرايا)؟ جاء فيه أن "ياسر العظمة انتقد أوضاعاً محلية سورية وأخرى عربية، وعانت مراياه منذ عام 1982 حينما تقدمت لأول مرة من مقص الرقيب ومن تهديدات منع العرض وإيقاف التجربة، ولكنه لم يكن يأبه لهذا وقد حصل عدة مرات على دعم السلطة في تقديم ما يريد".
وأضافت الصحيفة أن "الرئيس حافظ الأسد قال له (لياسر العظمة) ذات مرة: (قل ما تريد ولا تخف من أحد وإذا كنت بحاجة للأفكار فأنا جاهز لأعطيك أفكاراً جديدة)، مما شكل للعظمة دعماً رفيعاً جعله يحمل عبئاً إضافياً ويقدم ما يريد ويوسع من هوامشه وعمليات بحثه المضنية للخروج بأفكار جديدة كل عام"، وفق تعبير الصحيفة.
أي أن ما كان يقدمه ياسر العظمة كان مقبولاً من الأسد الأب (ومن ثم الابن) في مرحلة تعد من بين الأشد انغلاقاً في سوريا، ولا يُسمح فيها بأي نوع من حريات الصحافة أو تشكيل الأحزاب إلى جانب امتلاء السجون بالمعارضين السياسيين من إسلاميين ويساريين وقوميين.
كيف سُمح للعظمة وغيره بالنقد؟
وفي تحليلها لظاهرة ياسر العظمة ودريد لحام وغيرهم (وهو ما ينطوي كذلك على كادر بقعة ضوء بمرحلة حكم بشار الأسد) من الممثلين البارزين الذين كانوا ينتقدون الوضع المعيشي في سوريا، وأوضاع الأمة العربية والتخلف والفشل الاقتصادي، قالت ليزا وادين أستاذة ورئيسة قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو في كتابها "السيطرة الغامضة - السياسة، الخطاب، والرموز في سوريا المعاصرة"، "ثمة من يرى في أعمال ياسر العظمة ودريد لحام نوعاً من 'التنفيس' الذي تشرف أجهزة النظام على ضبط وتيرته، وليس شكلاً من أشكال المقاومة المراوغة أو المقاومة الخفية على حالة التقديس التي توجه إلى حافظ الأسد".
وأضافت في الكتاب الذي نُشر لأول مرة عام 1999، وتُرجم للعربية عام 2009، أن هذه "الممارسات النقدية المسموح بها تعمل على إدامة السيطرة القمعية للنظام بدل تقويضها" في مراحل تعد شديدة الحساسية بالنسبة للنظام وحتى المعارضة السياسية التي انتهى بها الحال في السجون أو المنافي أو القبور.
وعلى ذلك أكّدت ميريام كوك، الأكاديمية الأميركية في دراسات الشرق الأوسط والعالم العربي، في كتابها "سوريا الأخرى.. صناعة الفن المعارض" الصادر في تسعينيات القرن الماضي والذي تُرجم حديثاً للعربية، "من اهتمامات الاستبداد وأهدافه الضرورية السيطرة على الفن والعملية الفنية، وتحكّمه الكامل في المسارح والسينما والتلفزيون واتحادات الكتاب ونقابات الفنانين".
وأردفت كوك أن "النظام سعى لخلق تمثيلية مركبة معدة مسبقاً غايتها إنتاج فنانين وأدباء ببغاوات، وجمهور مكون من مسوخ بشرية لا تفكر ولا تنتقد، وبذلك تنعدم العلاقة التبادلية والحوار الغني بين الفن وجمهوره".
هل كان في سوريا فناً معارضاً؟
بالطبع كان في سوريا فناً معارضاً حقيقياً يسعى لتوعية السوريين ووضعهم أمام حقيقة ما يجري، لكن السوريين لم يروه ولم يسمعوا به إلا نذراً لأن النظام منع انتشاره في سوريا بشكل كامل، وتعرف السوريون على جزء منه بعد عقود إثر انطلاق الثورة السورية عام 2011 بعد انتشاره على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد وقفت ميريام كوك على العديد من المسرحيات التي مُنع عرضها لأنها قد تشير من حيث التشبيه إلى حافظ الأسد، مثل مسرحية "الغول" لممدوح عدوان، أو فلم الليل لمحمد ملص، أو فيلم طوفان في بلاد البعث لعمر أميرلاي وغيرها.
وفي إطار ذلك كان المسرحي السوري سعد الله ونوس يحذر من التنفيس الذي يسمح به النظام من خلال الأعمال والمسرحيات،
"لأنه يدعو المشاهدين إلى ترك همومهم على المقاعد قبل مغادرة المسرح، فمثل هذا التنفيس يجعل ما لا يطاق ضمن قدرة التحمل محتملاً. وهذا النوع من الانتقاد ساعد النظام على إبراز صورة براقة مزيفة للحرية والديمقراطية والمجتمع المدني، بينما كان يحاول أن يجعل المثقفين أدوات طيعة".
"أنت من الصمت آمن الزلل!"
لطالما كان الصمت معياراً حمّال أوجه وتبريرات واحتمالات، ولا يمكن أن يأخذ منه موقفاً نهائياً، لما يعتريه من ظلم أو تجنٍ، وباعتبار أن ياسر العظمة كان من أبرز النقاد للواقع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا قبل 2011، انتظر منه السوريون طويلاً موقفاً مماثلاً حين دعت الحاجة لمساندتهم في ثورة لأجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. لكن العظمة آثر الصمت رغم كل ما جرى من أحداث هي الأعنف بتاريخ المنطقة وليس سوريا فقط.
عام 2020 عاد ياسر العظمة ببعض المقاطع المصورة على موقع "يوتيوب" و"فيسبوك" ولكن لم يقترب كثيراً من الواقع المؤسف في سوريا وتحدث عن مواضيع متفرقة وبعض القصائد والأشعار الساخرة.
وفي عام 2021 قدم مسلسل السنونو الدرامي الكوميدي البعيد عن الواقع من تأليفه والذي لم يحظ بأي حضور لافت سوريا أو عربياً بل طالته سهام النقد بشكل كبير.
ومع عودته الجديدة عام 2023 على مواقع التواصل الاجتماعي قدم ياسر العظمة حلقتين الأولى، كانت رسالة شكر لزملائه الذين عملوا في سلسلة مرايا معبراً عن امتنانه لهم وعن دورهم البارز في نجاحه، وهي حلقة لطيفة يغلب عليها السجع اللغوي الذي يفضله العظمة بمعظم مراياه.
في الحلقة التالية كان الحديث عن لماذا يهاجر الشباب السوري خارج بلدهم؟ وبالإجابة عن ذلك؟ يبدو أن العظمة فضل الخروج عن صمته ورمادية موقفه عائداً إلى موقعه التاريخي، مهاجماً دون الرئيس أو الألقاب والمسميات.
ومع اهتمام العظمة بالشعر والتراث العربي، لابد أنه مر ببيتين من الشعر لجلال السيوطي قال فيهما:
"أنت من الصمت آمن الزّلـلِ
ومن كثير الكلام في وجلِ
لا تقل القـول ثـــم تتبعــه
ياليت ما كنت قلت لم أقلِ".
جرحُ المرايا
يعرف معظم السوريين تعريف الهجرة والتهجير، إذ يعيش أكثر من نصفهم على شكل لاجئين أو نازحين خارج سوريا أو في داخلها، والنصف الآخر على صلة بمن تهجر أو لجأ أو نزح أو سافر بشكل اعتيادي هارباً من الجيش أو الاعتقال أو الخوف أو الموت.
الاختلاف الجوهري في النظرة لتعريف الهجرة أو التهجير هو بين أبناء الثورة السورية ومن عاش تضحياتهم ويعرف عذاباتهم، ومن تسبب في ذلك بوضوح ودون مواربة، وبين موالي النظام السوري الذين يرون الأمر مؤامرة على البلاد لتدميرها بسبب مواقفها الثابتة وصراعها مع الإمبريالية وقوى الشر والشيطان الأكبر.
ولعل بين السوريين طرف ثالث أو أطراف رابعة وخامسة وعاشرة متشابهة بالعموميات وتختلف ببعض التفاصيل، لم تُرد أن يكون لها موقف خلال أكثر من عقد كامل، أبناء اللاموقف، جماعة "ما دخلنا"، الرماديون، المنتظرون للنتائج، الهامشيون، أصحاب المصالح المؤجلة، الصامتون إلى حين، الذين يرون في المسألة وجهة نظر أقرب ما تكون للمنتصر مع "رشة نقد".
وبالإجابة عن سؤال لماذا هاجر الشباب السوري؟ وترك البلد والياسمين والبحرة والقعدة على طرف النهر، والمشاوير، والشام القديمة، والتراب الحنون؟ بالطبع لم يكن الأمر متعلقاً أبداً بالكهرباء أو المازوت أو الأزمة الاقتصادية أو ما يسمى الحصار الاقتصادي كما أطلق عليه العظمة.
يعرف السوريون من هجرهم جيداً، يعرفون الكيماوي الذي خنق أبناءهم وأقاربهم، يعرفون "الإرهاب.. إرهاب الدولة"، يعرفون أسماء الشهداء، يعرفون عشرات آلاف المعتقلين الذي قتلوا تحت التعذيب واستبدلت أسماؤهم بأرقام، يعرفون بيوتهم المدمرة، يعرفون أسماء جلاديهم، يعرفون لماذا حرموا من رؤية أمهاتهم، يعرفون سبب ركوبهم قوارب الموت، يعرفون سبب موتهم من البرد في الخيام، يعرفون لماذا سوريا هي الأسوأ في كل التصنيفات والمؤشرات، أصغر طفل سوري يعرف كل شيء وقد يخبرك بها يوماً ما.
السوريون يا أستاذ ياسر يعرفون عدو السوريين جيداً، ويعرفون طبعاً من باع البلد وسمح للأصدقاء بالجلوس في "أحضاننا"، ويعرفون لماذا هؤلاء الأصدقاء لا يقدمون حبة قمح واحدة.
والأمر الأكثر استغراباً بعد كل ذلك الصمت أن ياسر العظمة قدم نقداً أتاحته الثورة السورية، أعلى سقفاً من مرايا نفسه، ولم يتجاوز فيه الفنان السوري القدير نقد أكثر الفنانين المحسوبين على النظام وحتى "الشبيحة" منهم، نقد ما يسمى بـ "سقف الوطن" الذي لا يقترب من رئيس النظام أو أركانه.
السوريون يا "أبو أنور" حزنوا من موقفك لأنهم اعتبروك يوماً ما مرآتهم هم، لا مرآة من هجرهم، صوتهم هم وأحد المعبرين عنهم، ولكنك أبيت إلا أن تجرح "المرايا" وتجرح شعبها.