في صورة لم تنتشر كثيرا عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ظهرت في السويداء وفي ساحة الكرامة تحديدا سيدة من الساحل السوري لجأت إلى السويداء مؤخرا لتتظاهر رفقة متظاهري الساحة ضد النظام، اللافت أن السيدة دعت أهالي الساحل الذين يخشون التعبير عن مواقفهم الرافضة أو المعادية للنظام للقدوم إلى السويداء للتظاهر فيها بحرية..
وبقدر ما يثير هذا الموقف النادر الإعجاب فهو يثير الشجون، إذ لا يستطيع ملايين من السوريين التعبير عن مشاعرهم وآرائهم رغم تفجّر ثورة صرفت من عمر كل واحد منهم عقدا ويزيد... وبعد حرب دمرت البلاد وهجرت نصف السكان.
هو بحق موقف يدعو للتأمل والأمل.. فلنتخيل أن عدداً من نساء وشباب الساحل لبّوا النداء وانتقلوا إلى السويداء للانضمام إلى هذه السيدة الساحلية، وإلى جمهور المتظاهرين في ساحة الكرامة، ألن يكون هذا المشهد حدثا ونقطة تحول في مشهد الانتفاضة الشعبية السورية المتصاعدة لناحية تغذيتها بعامل إضافي يزيدها قوة وعمقا وتنوعا؟ ليس لأنها انتفاضة راحت تظهر جانبا مغيبا من ثورة السوريين ألا وهو مشاركة النساء فيها، لكن أيضا لأنها ستشهد لأول مرة مشاركة جماعية علنية مشتهاة من أحرار الساحل، هم الذين اقتصرت مشاركتهم في الثورة على ظهور فردي شجاع عبر اليوتيوب أو عبر لافتات معارضة للنظام كتبها أفراد مجهولون راحت تنتشر عبر وسائط التواصل في الأسابيع الأخيرة.
تجاهل وتطويق للحراك الثوري النسائي
ونحن نتحدث عن الإضافة التي يقدمها حراك الجنوب السوري للثورة، لن ننسى الذكرى الأولى للثورة الإيرانية التي تفجرت في مثل هذه الأيام من شهر أيلول سبتمبر، والتي فجرها مقتل شابة إيرانية كردية على يد شرطي إيراني.
الذكرى التي تمر بصمت ويتم تجاهلها قصدا، ليس فقط في عواصم العالم الديمقراطي، حيث التعتيم الإعلامي الممنهج بذكاء، بل حتى في عواصم البلاد العربية التي تقدم نفسها خصما للنظام الإيراني، فخطر هذه الثورة على الأنظمة العربية يأتي من كونها ثورة نساء فجرها عنف ذكوري ومذهبية سياسية عمياء، وهو أمر تشترك به الأنظمة العربية مع النظام الإيراني، كذلك فخطر هذه الثورة الإيرانية يأتي من احتمال تغييرها معالم الشرق الأوسط لو نجحت بإسقاط نظام الولي الفقيه في إيران.. هذا النظام المذهبي الذي راح يتشدد في تطبيق قوانينه الجائرة بحق النساء ويضيف إليها قوانين جديدة تمعن في خنق وتقييد حركة النساء بقصد شل حركتهن وقدرتهن على الاعتراض السياسي السلمي.
وللأسف كان للمعارضة الثورية السورية نصيب في تجاهل الثورة الإيرانية هو الأكثر قوة وبلاغة، رغم أن نظام الولي الفقيه عدو الشعبين السوري والإيراني، وهذا التجاهل مبني على سابقة في تجاهل مشاركة المرأة السورية في فعاليات الثورة السورية منذ انطلاقتها، إذ جرت محاولات منظّمة وعفوية، فردية وجماعية ولأسباب اجتماعية أو دينية أو مزاجية، لتطويق مشاركة المرأة في المظاهرات السلمية.
كان موقف النساء السوريات في غير مكان من ريف دمشق على سبيل المثال أنهن رفضن تلك المحاولات وأصررن على المشاركة في الحالة الشعبية الثورية الجارفة، فأثبتن وجودهن في مظاهرات عديدة، أثبتن للمجتمع المحافظ أن المرأة السورية لا يعيبها ولا يعيقها شيء عن النضال السلمي... لكن مع تقدم الحراك ومع تنامي مواجهته بعنف مفرط وحشي من عصابات الشبيحة والمخابرات السورية والحرس الثوري الإيراني تراجعت النساء السوريات إلى حد كبير عن مشاركتهن في المظاهرات، وهنا يمكن تسجيل نقطة لصالح إصرار النساء المحافظات على المشاركة في حدث لا سابق له في تاريخ سوريا، وكذا تسجل نقطة لصالح المجتمع السوري في قسمه المحافظ، وهي أنه مهما كانت القوانين الاجتماعية صارمة فإنها تتراجع في الأحداث المصيرية، والملاحظة الأهم وهي نقطة تكشف زيف وكذب النظام الذي يدعي العلمانية والدفاع عن حقوق النساء، إذ لم يوفر هذا النظام النساء المتظاهرات ولا العاملات في الدعم الطبي من فائض العنف الذي واجه به الحراك السلمي منذ آذار 2011 بإطلاق الرصاص الحي والاعتقال والسحل في الشوارع، وهي أسباب مباشرة منعت حراك النساء السوريات، وهو ما يدحض دعايات وشعارات نظام العصابة الأسدية الذي حاول بإصرار وطوال عقود تقديم نفسه كنظام علماني كما أسلفنا..
نموذج مضاد من ساحة الكرامة
وفي العودة إلى حراك السويداء وفي مشهدية لم تعد نادرة من ساحة الكرامة وسط السويداء، ومن ساحات الكرامة في قرى ريف السويداء سنتابع حضورا لافتا للنساء يتسع يوما بعد يوم، ليس في الحضور العددي فحسب، وإنما أيضا في الحضور السياسي والوطني لجهة شخصيات نسائية مؤثرة ولجهة خطاب متوازن متنوع لا يقتصر على السياسي فحسب.. الأمر الذي يقدم نموذجا مضادا عن نموذج محاصرة النساء ومنعهن من التعبير ومشاركة السياسيين..
فها هي سيدة أربعينية تقف في ساحة الكرامة لتخبرنا بطلاقة وحرقة قلب وبفرح أيضا أنها لأول مرة في حياتها تشعر أنها تعيش في وطنها، ولتخبرنا عن سوريا الأسد تلك التي رحلت إلى غير رجعة، سوريا بيت الأسد تلك التي كانت تقتل السوريين بالرصاص أو بالقهر.
وفي الجمعة الثالثة طالعتنا عشرات الصفحات الشخصية عبر فيسبوك بصورة لسيدة من السويداء تحمل بيديها الاثنتين صينية امتلأت بأنواع من الفاكهة في تعبير عن حالة الضيافة والكرم التي اشتهرت بها السويداء منذ مئات السنين، وتداول بعضهم معلومات عن السيدة التي لجأ ابنها منذ سنوات إلى أوروبا هربا من التجنيد في جيش النظام، حال هذه السيدة حال آلاف السيدات الأمهات في السويداء اللواتي أجبر أولادهن على الهرب من سوريا كيلا يتم الزج بهم في جيش الأسد وسوقهم لقتل إخوتهم المدنيين..
وأخيرا تجتمع سيدات لا يقل عددهن عن عشرين امرأة يرتدين اللباس الأبيض عند نصب تذكاري وسط المدينة- السويداء يضعن أيديهن اليمنى على أفواههن لبرهة في إشارة إلى حالة صمت وخوف الشعب السوري المزمنتين، ثم يرددن بأعلى أصواتهن عبارة "ارفع صوتك" كدعوة للشعب السوري في مناطق النظام وكذلك خارجها في مناطق سلطات الأمر الواقع لرفع صوته والتخلص من خوفه.
تخبرنا تجربة كل من سوريا وإيران أن الثورة للجميع، أو يفترض بها أن تكون كذلك، ليست الثورة للرجال فحسب بل للنساء أيضا.. ولقد آن الأوان حقا لإعادة التفكير في موروثات وبديهيات تجانب الحق والعقل والدين، تميز بين النساء والرجال وتفتئت على النساء حقوقهن الطبيعية التي منحها الله لهن، وتحاول سلطات متعددة في الشرق والغرب سلبهن إياها بطرق عديدة بعضها فج وواضح وبعضها خبيث ولا مرئي..