لشدة تجذره في الأذهان والمشهد اليومي، لم يعد بالإمكان أن يتخيل القاطن شمال غربي سوريا مجيء يوم يستيقظ فيه ولا يجد فرق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) تطوف في المنطقة، تنجز مهاما يومية باتت ديدنها منذ سنوات، خدمة للناس هناك.
قبل أيام احتفت منظمة الدفاع المدني بعيدها الثامن، وجدد متطوعوها تصميمهم على مواصلة المضي في خوض غمار الصعاب.
فهم يوجدون بكل مكان يحيق به الخطر، فوق الأرض وتحت الماء، يبيتون لساعات في أكثر الأماكن عتمة وصعوبة، وتحت الأنقاض يقلبون الركام يسترقون السمع لأنفاس ما تزال تخرج من ناج قد يقضون لإخراجه ساعات طويلة، هم المسعفون والتوعويون، كل ذلك وأكثر رشحهم عام 2016 لجائزة نوبل للسلام.
لماذا يستمر مشروع الدفاع المدني؟
تعرضت عشرات المشاريع السورية المتعلقة بالجانب المجتمعي والخدمي، والتي ولدت بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011، لانتكاسات ومطبات وضعتها في طريق الفشل ودفعتها للاختفاء من المشهد مع مر الوقت.
لكن الدفاع المدني -أحد هذه المشاريع- يبدو أنه مايزال متماسكا بعد كل هذه السنوات، ما يدفع للسؤال عن سبب استمراريته خلافا لأقرانه.
في هذا السياق يقول مدير الدفاع المدني، رائد الصالح في حديث خاص لموقع تلفزيون سرويا، إنه لا يوجد كيان يعمل في الشأن السوري لم يتعرض لمطبات داخلية وخارجية، ومن بينها الدفاع المدني السوري، معتبرا أن بنيتهم تحمل سمة مؤسساتية والبنى التنظيمية فيها يحكمها نظام إداري صارم، وبيئة قانونية منبثقة من القانون السوري وسياسات أقرها المتطوعون أنفسهم عبر النظام الداخلي للمؤسسة.
إن الروح الجديدة داخل المؤسسة تدعم وبشكل كبير تطور أدواتها، وفق الصالح، الذي تابع "هناك هيئة عامة تمثل المتطوعين، أعضاؤها يتم انتخابهم سنوياً، هناك أيضاً مجلس إدارة يتم انتخاب أعضائه كل سنتين، وهناك سياسة توظيف تدعم تضمين الكفاءات والخبرات داخل وخارج المؤسسة، وبرامج تدريبية في مختلف المجالات لبناء القدرات للمتطوعين وكادر المؤسسة عموماً".
ولفت إلى أن مكاتبهم الدولية في بعض العواصم ساهمت أيضاً وبشكل كبير في استقرار وتنوع الدعم الموجه للخوذ البيضاء على نحو يتواءم مع استقرار المؤسسة وتموضعها.
نظرة في المشروع.. سير عمله وتمويله
بدأ الدفاع المدني عمله في نهاية عام 2012 وبداية 2013، في مدينة حلب، من خلال مجموعة من الشبان، كانوا يعملون بمهن مختلفة كالخياطة والحدادة والتجارة وغيرها، إلى حين الوصول لمرحلة خروج مناطق عن سيطرة النظام السوري عام 2012، وانعدام الخدمات الإسعافية والطبية المنظمة، حينها بدأ النظام باستخدام الطائرات والمدفعية، مستبيحا كل شيء، وهنا كان لابد من اللجوء إلى مرحلة التأسيس لمنظمة شاملة متكاملة تنظم عمل المتطوعين الذين كانوا قد شكلوا أنفسهم في عدة محافظات سورية، وبدؤوا بملاحقة أماكن سقوط صواريخ الأسد لاستخراج المدنيين من تحت الأنقاض.
وشهد تاريخ 25 تشرين الأول عام 2014، الاجتماع التأسيسي الأول في مدينة أضنة التركية، وحضره نحو 70 من قادة فرق الدفاع المدني في المناطق المحررة بسوريا، ووضعوا ميثاقا للمبادئ الخاصة بالمنظمة، واتفقوا على تأسيس مظلة وطنية لخدمة السوريين، سموها الدفاع المدني السوري.
ونسبة للخوذ التي يرتديها المتطوعون في أثناء عمليات البحث والإنقاذ اكتسبت المنظمة مطلع عام 2015، لقب "الخوذ البيضاء" واليوم باتوا بالآلاف بينهم مئات المتطوعات، ويمشون وفق مدونة سلوك عنوانها العريض "حياديون، غير منحازين، لكل السوريين".
ومن عوامل تجذرهم في الوعي الجمعي لسكان شمال غربي سوريا، أن مهمة إزالة كل أنواع الخطر عن هؤلاء الناس منوطة بالدفاع المدني، فمن تأمين الإسعافات الأولية وصولا إلى نزع الذخائر المحرمة دوليا، كل ذلك يتكفل به هؤلاء المتطوعون، الذين سقط منهم مئات القتلى خلال أعمالهم الشاقة والخطرة، كما دفنوا بأيديهم العشرات من أهلهم وأبنائهم فهم في نهاية الأمر يتعرضون لما يتعرض له كل من هو خارج سيطرة بشار الأسد وروسيا وإيران في سوريا.
لا يخفي الدفاع المدني مصادر تمويله وهو يقول في معظم تصريحاته وبياناته إنه يتلقى تمويلا من قطر وبريطانيا وأميركا وهولندا والدنمارك وألمانيا، وأما التمويل من قبل المؤسسات الإغاثية، فهو يتلقى تمويلا من مؤسسات إنسانية وإغاثية مختلفة، منها الهلال الأحمر التركي، وهيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، ومن مؤسسة قطر الخيرية، ومؤسسات خيرية تعمل في كندا وأوروبا، كما جمع تبرعات عبر الإنترنت ومن الحملات الشعبية.
لا يمانع الدفاع المدني من تلقي التمويل من أي دولة أو جهة، لكن من دون أي إملاءات أو شروط سياسية أو عسكرية، وهنا يؤكد الصالح لموقع تلفزيون سوريا، أن الدعم المالي لمنظمات المجتمع المدني السوري قد تأثر سلباً بطبيعة الحال والسياق الدولي وحجم المتغيرات في الخريطة السياسية الدولية كـ أزمة كورونا والحرب التي تخوضها روسيا ضد أوكرانيا التي لها بالطبع تبعات اقتصادية.
أما إذا كنا نتحدث عن إملاءات على الخوذ البيضاء، من قبل الداعمين فهذا الأمر غير موجود، يضيف الصالح، ويتابع مؤكدا أن رؤى مؤسستهم ومبادئها ورسالتها هي ثابتة ومواقفها علنية وواضحة وفي كثير من الأحيان هي مختلفة حتى عن رسائل حكومات الدول الداعمة، "نحن نعبر عن إرادة أفراد مؤسستنا ورسائل أهلنا في سوريا"، وفق قوله.
وتطرق إلى ما يُعتقد أنه عملية تطبيع تقوم بها بعض الدول العربية مع نظام الأسد وكيف أثرت على الملف السوري، قائلا "لا أعتقد أن هناك عملية تطبيع فما قام به نظام الأسد هو ليس خلافا سياسيا مع بعض الدول، وليس أزمة دبلوماسية تسببت بقطيعة دولية، فنظام الأسد فاقد للشرعية، وهو نظام مافيوي ارتكب جرائم إرهابية اتجاه المواطنين في سوريا ويمارس الإرهاب الدولي ضد الدول المجاورة، وما يجري يمكن تسميته تعويم لنظام الأسد بمعنى محاولات من بعض الدول لإنعاش جسم ميت وتقديم منافذ اقتصادية لإبقائه".
كيف يقرأ مكانه في مستقبل سوريا؟
طرح موقع تلفزيون سوريا على مدير الدفاع المدني، رائد الصالح تساؤلا عن مشاريع أو خطط حاضرة في هذه المنظمة في حال تم التوصل لحل في سوريا وفق قرارات الأمم المتحدة، ما إذا كانوا جاهزين لهذه اللحظة.
وفي رده، أكد الصالح امتلاكهم عدة سيناريوهات وخططا استراتيجية قد تكون واقعية في المرحلة المُقبلة، لكن هذا مرتبط بوجود مسارات محددة تدعم مشروع التغيير والتحول الديمقراطي في سوريا، وبالتالي جاهزيتنا للانخراط بأي حل في سوريا يجب أن يكون مترجما إلى تطبيقات 2254 أو 2118، وفق قوله.
وشدد أنه بالنسبة لهم فإن كان لا يدعم بوضوح عملية الانتقال السياسي وفق خطة مرحلة انتقالية بضمانات دولية، خطوات حقيقية نحو العدالة والمحاسبة، عملية سياسية تدعم التحول الديمقراطي فلن يكون الدفاع المدني السوري جزءا منها.
واعتبر أن سوريا التي يحتلها الأسد لن يكون فيها أي مستقبل لأحد بالتأكيد، موضحا أنهم ليسوا طرفا سياسيا ليسهموا بوضع الحل أو رسمه أو الانخراط فيه بالمعنى الفعلي، مشيرا إلى الفراغ السياسي القائم قد يكون أضاف إلى عملهم السمة السياسية، "لكن هذا الدور نمارسه ضمن إطار تفاعلنا الإنساني في القضية السورية، ومن منطلق وجودنا ككيان ينتمي للمجتمع المدني السوري".
في سهام الروس والنظام السوري.. نظرة قانونية
لا يشفع للدفاع المدني أنه كان مرشحا بقوة لنيل جائزة نوبل للسلام لعام 2016، التي خسرها حينئذ، أمام الرئيس الكولومبي خوان سانتوس.
وطوال السنوات الثمانية الماضية، لم يكل النظام وروسيا وإيران من الهجوم على هذه المنظمة الإنسانية ولم يكتفِ بالهجوم اللفظي ونشر الشائعات والأكاذيب عنها، بل تجاوز ذلك إلى حد قصف مقارها وعرباتها في أثناء عمليات الإنقاذ، وهذه الأفعال غير شرعية ولا تتوافق مع قواعد القانون الدولي الإنساني، المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقيها الإضافيين لعام 1977.
الدفاع المدني الحاضر في المشهد السوري
يتضمن الشعار التعريفي بمنظمة الدفاع المدني عبارة "غير منحازين"، ولعل المتابع لعملها يعرف تماما أنه لم يسجل أحد بحقهم منذ تأسيسه أي انحياز لجهة أمنية أو عسكرية أو سياسية شمال غربي سوريا بل يعمل خدمة للناس، ومتطوعوه لا يشغلهم ضجيج الخلافات الفصائلية عن أداء واجباتهم، ولا توقفهم صواريخ روسيا وقذائف النظام السوري وقناصات الميليشيات الإيرانية عن إطفاء حريق أو إخراج عالق من غياهب الأنقاض والآبار والبحيرات أو إسعاف مصاب وتفكيك لغم، كما لم تكبلهم الأوبئة وتجبروا على وباء كورونا منذ البداية وأعدوا العدة حتى كانوا من أوائل من ساهم بالتعافي المبكر من هذا الوباء، وعليه فإن المراقب وحتى القاطن شمال غربي سوريا وحيث وجد الدفاع المدني يصعب عليه تصور المشهد السوري من دون هذه المنظمة الحيوية.