في مرحلة مبكرة من حياتي، كنت مولعًا بالاستماع للمطرب العراقي ناظم الغزالي واقتناء أشرطة الكاسيت لأغانيه. لكن مدرس التربية الدينية الذي يخطب الجمعة بنا، كان يحرّم الاستماع للأغاني.
يومها، وجدتُ نفسي مُحاصَرًا بين خيارين: صوت ناظم الغزالي الشجي الذي يطرب أذني وتهتز له مشاعري، أو ديني. حاولتُ عبثًا، كطفلٍ يُحاول جمعَ المتناقضات، فاستمعتُ إلى الأغاني وأديتُ فروضي الدينية، مُتجاهلًا وخزاتِ الضمير التي تُؤرّقُني بين الحين والآخر. إلى أن جاء ذلك اليوم، الذي سأظلُّ أذكرهُ ما حييتُ.
بعد حضور صلاة الجماعة، تابعتُ اللعب مع أصدقائي إلى ساعة متأخرة من النهار، كما اعتدنا. ثم استسلمتُ لنوم عميق بعد العودة إلى المنزل.
لم يستمر نومي طويلًا. جثم ناظم الغزالي فوق رأسي، وقبض بيده الثخينتين على عنقي، وضغط بإصبعي الإبهام والسبابة حتى شعرت بأنّ روحي ستفارق جسدي. حاولت الإفلات من قبضته بكل ما أوتيت من قوة، لكن عبثًا. ثم استيقظت على ماء بارد رشّ على وجهي لإيقاظي فصرخاتي أفزعت من حولي.
في ذلك اليوم، جمعت أشرطة ناظم الغزالي. أشعلتُ فيها النار أمام منزلي بين أشجار الزيتون، راقبتها كيف تتحول إلى رماد، كان قلب ذلك الطفل يحترق معها، يحترق شغفه بالموسيقا والأنغام الشجية. فقد حُسم الصراع الداخلي أخيرًا، وانتصرت مشيخة التحريم.
بعد عدة سنوات، علمتُ أن حكم الغناء مثل حكم الشعر "كلامٌ فحَسَنُهُ حسنٌ وقبيحُه قبيحٌ"، فالأصل في الأمور الإباحة، فالغناء مباح ضمن ضوابط كنت ملتزمًا بها آنذاك.
ترند المراجل منفصل عن الواقع السياسي والاجتماعي انفصالًا تامًا إذ تتوحد الانتماءات الطائفية والحزبية والقبلية والسياسية تحت مظلة الفخر والعنجهية بلغة الدم
أتذكر ناظم الغزالي، المطرب المثقف، كلما تصفّحتُ مقاطع الفيديو القصيرة على إنستغرام أو التيك توك، لمتابعة آخر الترندات الغنائية، مستحضرًا إبداعه وذكاءه في كل لحن.
هذه الترندات تُذكرني أيضًا بعلي الديك وأغنيته "صايعين وضايعين" التي كان يُحشد لها نجوم الدراما العربية ليعملوا كومبارس على نغمات الديك، وأغنيته "سمرة وأنا الحاصودة" التي كنا مجبرين لسماعها في وسائل النقل العام وفي المطاعم الشعبية، وفي مقاصف الجامعة.
أتذكر محاولاتنا كطلاب إقناع سائقي حافلات النقل الداخلي بتغيير الأغنية، ولكن من دون جدوى. كانوا يتذرّعون بعدم وجود أشرطة أخرى، وعندما نعطيهم أشرطة لبعض المطربين، يرفضون تناولها وتشغيلها مصرحين على استحياء أن فعل ذلك قد يسبب لهم بعض المشكلات.
مطعم الفلافل في مجمع العرفي في دير الزور الذي يطل عليه منزلنا، كان يضع الأغنية منذ الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل، لدرجة أن أحد الزملاء كان يسأل عن حكم صلاته، إذ بدأها بقراءة سورة الفاتحة، وسرعان ما أدرك أنه يكرر كلمات أغنية "سمرا وأنا الحاصودة". فالأغنية بدأت تزوره في أحلامه.
تحدّث بعض زملائنا مع صاحب المطعم، ولثقته بهم، أخبرهم أن بعض أفراد الأمن يوزّعون شرائط التسجيل مجانًا ويطلبون منهم إعادة بثّها على فترات متكررة. ولا نَعلم تمامًا ما إذا كان ذلك توجّهًا مؤسساتيًّا آنذاك أم تصرفًا فرديًّا ناتجًا عن تعاطفهم مع ابن بلدهم "علي الديك".
وعلى غرار الديك ظهرت مغنية تيك توك، تقول في إحدى أغانيها الماجنة "تعا نتجوز بالسر؛ وأهلي وأهلك ما يدرون؛ ونأخذ بيت بعيد ونجيب بيبي زغيرون".
لكن المفاجأة أن المغنية التي تحرض الفتيات والشباب على الزواج من دون علم الأهل، كانت تقريبًا بلا أهل! ففي أحد البرامج التلفزيونية تحدثت عن نشأتها في ميتم، وكيف تمكنت من الهروب منه وهي في سن الرابعة عشرة.
***
الأغاني المبتذلة موجودة بكل اللهجات، ولا يزال عالقًا بذاكرتي سلوك سائقي النقل العام وتعاملهم مع حواجز "تنظيم الدولة" في الرقة في بداية سيطرتها. أتذكر سائقًا كان يضع أغنية مبتذلة (وردة وردة ع القطن تعالي) وعند الاقتراب من الحاجز يضغط جهاز التحكم ليبدأ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يتلو آيات محكمات من القرآن الكريم، ليعود إلى الأغنية المبتذلة بعد تجاوز الحاجز.
للأسف لا توجد إحصائيات، لكن أعتقد، من خلال مشاهدات عديدة لحوادث أليمة، أن الأغاني الرائجة مؤثرة جدًا على وعي الشباب. يتزامن ذلك مع انخفاض معدلات التعليم "في الوضع السوري" وانتشار حمى الثراء السريع عبر بوابة الشهرة ووسائل التواصل.
في إحدى حلقات برنامج الليل المفتوح 1996 انتقدت الممثلة اللبنانية مادلين طبر ظاهرة دخول شباب صغار عالم الشهرة: "أنا أعارض ظهور الشباب الصغار، الذين تقل أعمارهم عن الثامنة عشرة، وهم يغنون. أرى أن الفتاة في هذا السن يجب أن ترتدي الجينز وتلعب، وأن تتحدث بأمور تلائم مرحلتها العمرية. لقد كنت سابقًا أعارض سهرات جورج وسوف عندما كان صغيرًا ويغني. كان يحزنني أنه في هذا البرد يجلس في الملاهي الليلية ويغني".
مشكلة دخول الفنانين مجال الشهرة في سن صغيرة كانت تحتكرها شركات الإنتاج قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ظهور مشاهير السوشيال ميديا الجدد، تتكرر المشكلات نفسها، وغالبًا ما تكون هذه الشرائح أداة طيعة في يد السلطة بسبب افتقارها للوعي الكافي والخبرة اللازمة وهو أمر طبيعي نظرًا لصغر سنهم.
***
على صعيد آخر، يبرز ما يُعرف بـ الترند الأخضر (أي أنه لا يخفت)؛ إنه ترند المراجل، الذي ينتشر بين بعض أفراد القبائل بهدف بث الحمية القبلية وتأجيج العصبية. إذ نسمع أغاني تحرض على العنف والكراهية وتمجد سفك الدماء وإثارة الفتن.
تتميز أغاني المراجل بلغتها العنيفة. كلمات تقطر دمًا وتحرض على حمل السلاح واستخدامه ضد الآخرين، كما في أغنية "كلمن يشيل سلاحو، الناس العالت بينا ورانا نجرها.. نغرقهم كلهم ببحور من الدم". في أغنية أخرى نجد لغة مليئة بالتهديد والوعيد مع مزيج من الصور الوحشية "احنا نقطع الروس احنا ندقّ عظام.. وين العايل واحنا قباله بنص ديوانو نجر عقاله.. اليندك بينا يحضر الجادر.. مكتوبة النعوة ومطبوعة".
كما تذكّرنا كلمات بعض الأغاني بأفلام نهاية العالم -بحسب الرؤية الهوليودية- إذ يتحكم الزومبي بمصير البشرية: "ياهو الي جاب معدلنا.. انكص لسانه، وما نستنه.. نكسر خشمه، نشلع عيونه...".
أهازيج أخرى تحتوي على مشاهد تقشعر لها الأبدان "احنا الجاي يدور يناطحنا، يرجع لهلو ببطانية، طبت سجيل نطبلهم، نحرق آخرهم وأولهم، القبلك عادونا اسألهم، صفوا بقبور البرية.. احنا اليدحمنا بنص بيتو، نقطعلو راسو بردنيتو، هم نمشي ما ندفع ديتو، عيب علينا ندفع ديه".
وتكرار صور القتل والحرق والدمار مع تعظيم الذات وتحقير الآخر "ما نرحمكم من نغتاض.. شردناكم باستعراض"، "ونشرب من الدم الأحمر.. كَنّه فناجين الدلال"، "أنا الساحق جماجمكم.. أنا العنوان الأبرز". والقائمة تطول.
ترند المراجل منفصل عن الواقع السياسي والاجتماعي انفصالًا تامًا، إذ تتوحد الانتماءات الطائفية والحزبية والقبلية والسياسية تحت مظلة الفخر والعنجهية بلغة الدم. إذ يشارك بعض صناع المحتوى هذه الأغاني من دون تمييز بين مصادرها أو توجهاتها، سواء كانت تتبع للحشد الشيعي أو من أناشيد داعش، أو لمطربين مستقلين طالما أنها تؤجج مشاعر الجمهور المتعطش للفخر بأمجاد خلبية.
***
هذه الترندات تهدد أجيالًا، وإنقاذها مسؤولية الدول. لكن في غياب الدولة الراشدة، تبرز الحاجة لتضافر جهود منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والبحثية لتقدير حجم تأثيرها على وعي الشباب، وفهم الأسباب الكامنة وراء انتشارها بهذه السرعة. فهذه الترندات ليست مجرد ترفيه، بل هي انعكاس لواقع اجتماعي وثقافي بالغ التعقيد.
ربما نجوت في طفولتي من خنق ناظم الغزالي في حلمي، أما اليوم، فهناك جيل كامل يختنق في يقظته بـ ترندات الدم والفجور و"المرجلة"، فتغتال حلمه وتزرع بذور العنف والكراهية في نفوس أفراده.