ملخص:
- تواجه هيئة تحرير الشام عددًا من التحديات، بما في ذلك اكتشاف شبكة من العملاء، وبرود العلاقة مع تركيا، والسخط المحلي، ومحاولة روسيا إبعادها عن مناطق جنوب طريق M4.
- قد تؤثر هذه التحديات على فاعلية الهيئة محلياً وصورتها خارجياً، وربما تشكل تهديداً حقيقياً لمستقبلها.
- تسعى الهيئة لضمان بقائها وإدامة سيطرتها من خلال اعتماد استراتيجية ثلاثية تجمع بين محاولات تحصيل شرعية محلية، ومقبولة إقليمياً ودولياً، وبناء قوة عسكرية.
"نحن اليوم في العصر الذهبي للثورة، الثورة في أفضل أحوالها، ومنذ عام 2012 لم تصل الثورة بجميع مقوماتها وركائزها إلى ما وصلت إليه اليوم". لم يقدم قائد "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني، شرحاً وتفصيلاً لهذه الكلمات التي ألقاها خلال مؤتمر أقيم بإدلب في شهر أيار الماضي، ولم يشر إلى آلية التقييم التي استند إليها لتوصيف واقع الثورة، في الوقت الذي تواجه فيه الهيئة تحديات تهدد فاعليتها وربما تؤثر على مستقبلها.
بعد ست سنوات ونصف على تشكيل هيئة تحرير الشام، تغيرت الكثير من الظروف، ويرى مراقبون أن تركيز الهيئة انحسر في الثلث الأخير من هذه المدة ليشمل الاقتصاد والإدارة المدنية، والسعي لتحصيل شرعية محلية، ورفع اسمها من على قوائم الإرهاب، مع عدم وجود مؤشرات على تبدل خرائط السيطرة العسكرية الثابتة منذ 5 آذار 2020 عقب سيطرة روسيا والنظام السوري على مساحات كبيرة من مناطق نفوذ المعارضة السورية في إدلب وحماة وحلب.
في ظل هذه المتغيرات، تواجه "تحرير الشام" في الوقت الحالي أربعة تحديات، تشمل العلاقة مع "الحليف المفترض" للثورة، والسخط المحلي من أداء الهيئة، والواقع الداخلي لتحرير الشام مع اعتقال العشرات من أفرادها بتهم العمالة لـ"جهات معادية"، إضافة لإصرار روسيا على إبعاد الهيئة وبقية الفصائل من مناطق جنوب طريق M4، بالتالي الوصول إلى محيط مركز مدينة إدلب، فكيف يمكن لهذه التحديات أن تؤثر على فاعلية الهيئة محلياً وصورتها خارجياً، وهل من الممكن أن يشكّل ما سبق تهديداً حقيقياً لمستقبلها؟
تحدي "العملاء"
التحدي الأكبر الذي يواجه "هيئة تحرير الشام" حالياً يتمثل باكتشاف شبكة من العملاء والجواسيس داخل الهيئة، لصالح وكالة المخابرات الأميركية CIA، وروسيا والنظام السوري، واعتقال ما يزيد عن 300 شخص من ضمنهم قادة وعناصر ومدنيين بهذه التهمة.
أخطر ما في الأمر بالنسبة للهيئة في هذا الملف، كان بتسليم مسؤول الموارد البشرية في الجناح العسكري لهيئة تحرير الشام نسخاً كاملة عن سجلات العسكريين في الهيئة مع صور بطاقاتهم العسكرية لوكالة المخابرات المركزية الأميركية CIAوتقديم المسؤول عن كاميرات المراقبة وخطوط الإنترنت في خطوط التماس مع قوات النظام، معلومات كاملة للنظام السوري وروسيا عن نقاط الحراسة في خطوط التماس.
برود العلاقة مع تركيا
شهدت العلاقة بين تركيا و"هيئة تحرير الشام" نوعاً من البرود خلال الأسابيع الماضية، وانعكس ذلك على فاعلية الهيئة ضمن مناطق نفوذ الجيش الوطني السوري، إذ ترفض أنقرة أي دور للهيئة في المنطقة، وتعارض وجودها العلني أو محاولاتها لنقل تجربتها الإدارية في إدلب وتطبيقها شمالي حلب.
ومن مؤشرات توتر العلاقة بين الطرفين، فرض تركيا والولايات المتحدة عقوبات على "عمر الشيخ" الملقب بـ "أبو أحمد زكور"، أو كما عرف في الأوساط باسمه الحقيقي "جهاد عيسى الشيخ"، الذي يعد من أبرز القياديين في "هيئة تحرير الشام"، وأهم أدواتها لاختراق فصائل الجيش الوطني.
وهناك عدة ملفات قد تزيد حدة التوتر بين تركيا والهيئة، منها ما يتعلق بما كشفته مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا عن استضافة هيئة تحرير الشام خلال الأشهر الماضية لعدة وفود قادمة من الحسكة، وهم عبارة عن قيادات أمنية في "قوات سوريا الديمقراطية/ قسد" بالإضافة إلى تجار متعاونين معها، لتأمين مصالح اقتصادية وبحث ملفات سياسية.
وكما هو معروف، فإن التواصل مع "قسد" من قبل فصائل المعارضة أو التنسيق معها، يعد أمراً مرفوضاً بشدة بالنسبة لتركيا، ما يفتح التوقعات على تعرض الهيئة لضغوطات تركية خلال الفترة المقبلة، مع توجه تركي أكثر صرامة تجاه ملاحقة أي نفوذ مخفي للهيئة في شمالي حلب تفادياً لسيناريوهات غير محسوبة.
المظاهرات وتحدي "حزب التحرير"
من التحديات التي تواجهها الهيئة أيضاً، استمرار المظاهرات المناهضة لها في عدة مدن وبلدات في أرياف إدلب وحلب، منذ نحو ثلاثة أشهر، ورغم أن الهيئة تقول إن المظاهرات مدفوعة من "حزب التحرير"، إلا أنها بطبيعة الحال تؤثر على الهيئة وتحدث تصدعات في الصورة المثالية التي تحاول رسمها في مخيلة الدول عن الفكر الجديد للهيئة، كون الأخيرة أثبتت من خلال الاعتقالات وقمع المظاهرات، أن نسبة الحريات متدنية في محافظة إدلب.
في سياق آخر، تواجه الهيئة حرجاً نتيجة فشلها حتى الآن في حملتها ضد "حزب التحرير"، رغم اعتقال الكثير من المنتسبين له، ومع مرور نحو 65 يوماً على إطلاق الحملة، تشير الأحداث إلى فشل الهيئة حتى الآن في اجتثاث الحزب، حيث كانت تستأصل أي مجموعة معادية لها خلال أيام قليلة.
وكان لطول فترة الحملة ومحاولات حزب التحرير المراوغة وكسب التعاطف الشعبي، دوراً في فقد "تحرير الشام" انضباطها المعتاد في الحملات الأمنية السابقة، ومع ظهور معضلة ملف "العمالة" يتوقع أن تصعد الهيئة حملتها على الحزب لتفكيكه في مناطق سيطرتها، وهذا ما يمهد له الإعلام البديل التابع لها.
الأطماع الروسية في إدلب
ما تزال "هيئة تحرير الشام" بالدرجة الأولى تحت ضغوط تجدد العمليات العسكرية، خاصة مع استمرار الأطماع الروسية للسيطرة على مناطق جنوب طريق (حلب - اللاذقية) المعروف بـ M4، وقد أكد رئيس وفد المعارضة إلى أستانا أحمد طعمة قبل أيام، أن التصعيد الروسي الأخير على إدلب يرتبط برفض المعارضة لفتح طريق "M4".
في وقت سابق أكدت مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا، أن تحرير الشام متخوفة من نتائج الاجتماعات الأمنية والعسكرية التي تعقدها تركيا مع كل من روسيا وإيران بحضور النظام السوري، خاصة بعد إعلان أنقرة في 5 من أيار الماضي عن وجود مخطط لإنشاء مركز تنسيق ميداني بالاشتراك مع النظام شمالي سوريا.
المصادر المقربة من تحرير الشام أفادت بأن الهيئة عقدت اجتماعاً بعد تصريحات أنقرة بهذا الخصوص، وتحدثت عن مخاوفها من تفاهمات محتملة ضمن المسار الرباعي الذي يضم تركيا إلى جانب ضامني أستانا والنظام السوري، مضمونها مكافحة جميع التنظيمات الإرهابية في شمال شرقي، وشمال غربي سوريا، وهذا ما يشكل تحدياً للهيئة للحفاظ على مناطق نفوذها.
كيف ستؤثر التحديات على فاعلية الهيئة؟
فيما يخص ملف اكتشاف "العملاء" داخل الهيئة، يعتقد الباحث المتخصص بدراسة الحركات الإسلامية وتحولات السلفية الجهادية عزام القصير، أن الأمر يشكل ضربة كبيرة لهيئة تحرير الشام، خاصة أنها كانت تبث دعاية قائمة على أنها الأكثر انضباطاً من بين الفصائل، والأكثر بعداً عن الاختراق.
وقال القصير في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إن الأمر بالغ الخطورة بالنسبة للهيئة، لأن معظم العملاء ضمن جهاز الأمن العام، بالتالي إذا كان الجهاز مخترقاً، يعني أن الهيئة بشكل عام كذلك مخترقة.
وإذا ما استمر الأمر بالتداعي، قد تشكل آثار القضية ضربة لسلطة أبو محمد الجولاني، كون ذلك خلق حالة من الشك داخل صفوف التنظيم، وحتى تتعافى الهيئة فهي بحاجة لوقت طويل، لأنها كانت تروج لنفسها أنها تقود مشروع دولة، وهذا التحدي يعيق بالتأكيد أي محاولة لإقامة مشروع ثابت أو هيئة حكم مدني.
من جهته رأى الباحث في شؤون الجماعات الجهادية، رائد الحامد، أن أفراد الخلية يفترض أنهم تواصلوا مع قوات التحالف بشكل مباشر، وهذا مرفوض في جميع التنظيمات أو الدول، علماً أن للهيئة تنسيق بشكل ما مع التحالف سواء مباشرة أو من خلال طرف ثالث للدلالة على قيادات حراس الدين أو تنظيم الدولة، بالتالي ليس من المنطقي بالنسبة للهيئة أن تعمل خلايا أو مجموعات أو أفراد ينسقون عملهم مع التحالف ضمن مناطق نفوذها دون علم أو دراية الجهاز الأمني التابع لها.
واستبعد الباحث في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن يكون لكشف هذه الخلايا أي تداعيات على مستقبل الهيئة، باستثناء ما يحمله الملف من رسائل سلبية موجهة لعناصر الهيئة والسكان الذين يخضعون لسلطتها او حتى للفصائل الأخرى في إدلب.
أما فيما يتعلق ببرودة العلاقة بين تركيا والهيئة، وتواصل الأخيرة مع "قسد"، يقول الكاتب والسياسي السوري باسل معراوي، إن الاتصالات رفيعة المستوى إذا ما تمّت بين التنظيمين، فهي بالتأكيد تعكس رغبة الفريقين بتنسيق جهودهما مرحلياً ومصلحياً، حيث يشعر الطرفان أنهما سيكونا ضحية أي تعاون تركي مع نظام الأسد برعاية روسية إيرانية، بمعنى انتقال المسار الرباعي من حيز المناقشات والتفاهمات إلى حيز التطبيق، ما يهدد الجانبين بالتفكك ضمن سياق المقايضة بين أطراف الطاولة الرباعية.
وذكر الكاتب في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن الهيئة شعرت بأنها قد تكون الضحية لأي تقارب تركي مع النظام فأخذت بالابتعاد رويداً رويداً عن التنسيق الكامل مع الأتراك وخرق التهدئة من قبلها بتسخين خطوط التماس لإبراز نفسها كلاعب أساسي بأي تفاهمات، ومن هنا يمكن تفسير الضغط التركي على عصب الهيئة المالي (أبو أحمد زكور) والتلويح التركي للهيئة بقدرتها على إزعاجها، مضيفاً أن إصرار الأتراك على المسار الرباعي يعني المزيد من التوتر مع الهيئة، وعندما "نرى بدء حدوث عمليات تصفية لبعض أمراء الهيئة فعندها نعلم أن الصراع سيخرج للعلن بينهما".
ضغوطات تربك الهيئة
ويعتقد معراوي أن الضغوطات الداخلية من السكان على الهيئة والضغوط الاقتصادية، والخارجية من الأتراك، ستؤثر على الهيئة وتربكها كثيراً، لكنه لا يتوقع استمرار التوتر بين الهيئة وتركيا، بالتالي استمرار العلاقة السابقة بينهما إلى حين بروز متغيرات جديدة على المشهد السوري.
وفي محور آخر يخص الضغط الشعبي تجاه الهيئة، قال الباحث عزام القصير: "يجب أن نتعامل بحذر مع تلك التحركات الشعبية وألا نبالغ بقراءة أهميتها وخطورتها، وأما تحركات حزب التحرير، فالحزب معروف بموقفه المناهض للدور التركي في الشمال السوري، وبالتالي فإن استهداف مناصريه يمكن فهمه كرسالة حسن نية ترسلها الهيئة باتجاه تركيا، وأعتقد أن في استمرار خروج مظاهرات نسائية ومظاهرات طيارة في معاقل حزب التحرير في الشمال فائدة دعائية للهيئة، خاصةً وأنّ الحزب أضعف من أن يشكل تهديدا حقيقيا لسلطة الأمر الواقع التي تفرضها جماعة الجولاني".
ومن المهم الإشارة في الختام، إلى أن نقطة القوة الرئيسية داخل الهيئة تتمثل بوجود علاقة أيدلوجية ومصلحية متبادلة بين الأفراد عصبها الاقتصاد، وطالما أن الهيئة ما زالت تتمتع باستقلال مالي عبر الواردات بمختلف أشكالها، فإنها ستكون قادرة على ضبط المشهد داخل التنظيم والمؤسسات التابعة لها على الأقل.
ضمان البقاء عبر استراتيجية ثلاثية
وتسعى الهيئة لضمان بقائها وإدامة سيطرتها، عبر اعتماد استراتيجية ثلاثية تجمع بين محاولات تحصيل شرعية محلية، ومقبولية إقليمية ودولية، وبناء قوة عسكرية، إذ يؤكد الباحث عزام القصير أن هناك توجّه نحو مزيد من المركزية الإدارية، وهو ما يساعد الهيئة في ضبط الساحة المحلية وتوزيع الصلاحيات والامتيازات وشراء الولاءات، لخلق فئة مجتمعية لها مصلحة ببقاء الهيئة.
تتزامن هذه الجهود مع مساع لقادة الهيئة عبر خطابهم ونهجهم البراغماتي لإقناع مؤيديهم ومناهضيهم معاً بأن الهيئة هي أفضل الخيارات المتاحة، وأنها الوحيدة القادرة عملياً على ضبط الوضع المحلي وتسيير شؤون السكان، إضافة إلى كونها مرنة ولديها قراءة واقعية للوضع السياسي وممكناته.