قد يبدو إعلان قوى "الأسايش" التابعة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) القيام بعملية أمنية تمتد من ريف الحسكة الجنوبي وصولاً إلى مدينة الشدادي وريفها، لمكافحة عصابات السطو والسلب المسلح التي تنشط في تلك المنطقة أمراً طبيعياً في سياق الحملات التي تشنها ضد خلايا تنظيم الدولة "داعش"، أو لملاحقة تجار المخدرات في مناطق سيطرتها.
إلا أن توقيت هذه الحملة ومشاركة قوات التحالف بدوريات على الأرض إلى جانب تقديم التغطية الجوية والاستخبارية للحملة الأمنية، وتزامن ذلك مع فرض "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) حصاراً على مناطق سيطرة النظام بمدينة الحسكة بعد يوم من حصار مشابه للأخير في مدينة القامشلي، كل هذه التحركات أثارت كثيراً من التساؤلات حول طبيعة هذه العملية وحقيقة المستهدفين منها.
يأتي ذلك في ظل ترويج القنوات الإعلامية المقربة من "قسد" لهذه الحملة على أنها إجراءات طبيعية لفرض الأمن والاستقرار في مناطق شمال شرقي سوريا، وهذا ما أكدته وكالة أخبار "ANHA" المقربة من "قسد" بأن قوى الأمن الداخلي "الأسايش" ألقت القبض على 54 متهماً في جرائم سطو وسرقة وقتل، جنوبي الحسكة.
بالمقابل، يربط كثير من المراقبين تحركات "قسد" بتصعيد التوتر الإقليمي ضد إيران والمليشيات التابعة لها في سوريا ولبنان، ومحاولة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الضغط على أذرع إيران الطائفية أو العشائرية في شمال شرقي سوريا وتحجيمها.
"خلايا إيران"
بالعودة إلى الحملة الأمنية التي أطلقتها "قسد" بالتعاون مع التحالف الدولي يوم الإثنين 8 أكتوبر الجاري، كشف مصدر خاص في "قسد" لموقع تلفزيون سوريا أن "الحملة الأمنية تأتي بهدف اعتقال أشخاص متهمين بالتعامل مع النظام وإيران بعد ورود معلومات عن أماكن تواجدهم ومخازن للأسلحة".
وأشار المصدر إلى أنه "بعد الهجوم الصاروخي الذي استهدف قاعدة التحالف الدولي بمدينة الشدادي جنوبي الحسكة، الأربعاء الماضي، قرر التحالف الدولي و"قسد" بدء عملية أمنية واسعة في ريف المدينة بحثاً عن العناصر المرتبطين بالميليشيات الإيرانية والنظام".
وبحسب المصدر، فقد اعتقلت "قسد" خلال الساعات الأولى من العملية أكثر من 60 شخصاً، وصادرت أسلحة رشاشة وعبوات ناسفة ومنصات إطلاق قذائف هاون.
وعن أسباب تجنب "قسد" وأذرعها الإعلامية الإعلان بشكل واضح أن المستهدفين هم "خلايا تابعة لإيران"، يوضح الباحث المختص بشؤون "قسد" لدى مركز جسور للدراسات أنس الشواخ أن أنشطة "قسد" ضد الميليشيات الإيرانية لن يتم الإعلان عنها وستتم تحت عدة أغطية سياسية وأمنية واجتماعية.
في التفاصيل، يشير الشواخ إلى أن ذلك يأتي لعدة اعتبارات منها أن "قسد" حريصة على عدم التصعيد مع الميليشيات الإيرانية خاصة في دير الزور، التي ما تزال "قسد" تفشل في تشكيل مجلسها العسكري، مما يخلق حالة من الفوضى الأمنية، وإمكانية القيام بعمليات أمنية ضدها في تلك المناطق.
النقطة الثانية -يكمل الشواخ- مرتبطة بكوادر وقيادات حزب العمال الكردستاني التي ترفض غالباً الدخول في عمل عسكري مباشر ضد إيران ومصالحها في سوريا، لاعتبارات عدة خارج سوريا وداخلها، إذ يوجد بين الطرفين غرف عمليات مشتركة في تل رفعت وبعض أحياء مدينة حلب، بين هذه المليشيات وقيادات حزب العمال الكردستاني وعلى رأسها ما يسمى "قوات تحرير عفرين".
الانتقام من "انتفاضة العشائر"
تنتشر منذ سنوات العديد من التقارير التي تفيد بمساعي تقودها إيران للعب بالورقة العشائرية ضد الولايات المتحدة الأميركية، في سبيل الضغط عليها ودفعها للخروج من المناطق التي تنتشر فيها في شمال وشرقي سوريا.
ومن أبرز هذه التشكيلات العشائرية ما يسمى "سرايا البو شعبان" والقوات التي يقودها الشيخ نواف البشير، إضافة إلى ما يسمى "قوات القبائل والعشائر العربية" التي أعلن عن تشكيلها الشيخ إبراهيم الهفل في سبتمبر 2023 في أثناء الاشتباكات التي اندلعت بين قبيلة العكيدات وقوات "قسد" بريف دير الزور الشرقي، أُطلق عليها وقتها "انتفاضة العشائر".
وعن دور إيران وحزب الله في تشكيل وتوجيه هذه التشكيلات، أفاد مصدر أمني خاص لوكالة "نورث برس" أن الحرس الثوري الإيراني شكل في شهر نيسان الماضي مجموعات صغيرة في كل المناطق بريف دير الزور غربي نهر الفرات، مهمتها التسلل إلى مناطق شرقي الفرات وضرب مقرات التحالف و"قسد".
وأضاف المصدر أن "قيادات من الثوري الإيراني، على رأسهم الحاج عسكر والحاج مهدي، عقدوا اجتماعاً أمنياً ضم قيادات حزب الله اللبناني بريف دير الزور الشرقي، ومجموعة من القيادات المحلية لما يسمى أبناء العشائر المنضوين تحت راية فصائل تتبع لإيران شكلت مؤخراً تحت مسمى حركة أبناء الجزيرة والفرات".
بناءً على ذلك، تبدو تحركات "قسد" الأخيرة المدعومة من التحالف الدولي منسجمة مع حالة الضغط الإقليمي على إيران وأذرعها في المنطقة، خاصة بعد تصاعد الهجمات التي تقوم بها الميليشيات (العراقية والسورية) التابعة لإيران ضد قواعد التحالف الدولي في شمال شرقي سوريا.
من جانبها، ترى الباحثة صبا عبد اللطيف أن وجود خلايا تابعة لإيران وللنظام، أو حتى تابعة لـ"داعش"، هي الحجج الشائعة والمتبناة من قبل "قسد" لشرعنة وتوسيع وجودها في المنطقة، فلولا ادعائها وجود هذه الخلايا لفقدت سبب وجودها، أو على الأقل جزء كبير من الدعم الذي تحصل عليه.
تضيف الباحثة بالشأن الإيراني بمركز عمران للدراسات، في حديثها مع موقع تلفزيون سوريا، أن "قسد" تبنت فكرة "خلايا داعش" لشرعنة عملياتها العسكرية والأمنية ضد "انتفاضة العشائر"، وعند هروب فصائل العشائر إلى الضفة الأخرى من الفرات، تغيرت السردية لتصبح تحركات "قسد" الأمنية تحت حجة ملاحقة "خلايا إيران".
وبحسب "عبد اللطيف"، فإن قبول مسلحي العشائر بتلقي الدعم من بعض الميليشيات التابعة لإيران أدى إلى نجاح سردية "قسد"، التي من الممكن أن تستغل انشغال إيران الإقليمي للتخلص من هذه التشكيلات العشائرية المسلحة.
مكاسب أخرى لـ"قسد"
إضافة إلى سعي "قسد" لاستغلال الانشغال الإيراني لتحقيق ضغط مكافئ على الميليشيات الإيرانية، رداً على دعمها للانتفاضة العشائرية التي قام بها إبراهيم الهفل في دير الزور، يرى كثير من المتابعين لتحركات "قسد" أنها تطمح بشكل غير علني للاستثمار في الانشغال الإقليمي وحالة الضغط على إيران وميليشياتها.
في هذا السياق، يوضح الباحث أنس الشواخ أن تحركات "قسد" تهدف لتحقيق مكاسب داخلية تتمثل بسعيها إلى زيادة حصتها في المنطقة التي يسيطر عليها النظام في مدينة الحسكة ومحيط مدينة القامشلي الذي تنتشر فيه قوات النظام. وهذا ما يفسر تركيز "قسد" على نشاط المليشيات الإيرانية في الحسكة من دون دير الزور، التي هي أقرب لمواجهة الميليشيات الإيرانية.
أما العامل الخارجي فيتعلق بتأمين محيط تمركز قوات التحالف في الحسكة، وخاصة بمنطقة الشدادي، إذ قامت "قسد" بعمليات مشابهة لمطاردة الخلايا المرتبطة بالنظام أو الميليشيات الإيرانية التي تستهدف قوات التحالف في هذه المنطقة، وبهذه الخطوة -يوضح الشواخ- أن "قسد" ترفع رصيدها وأهميتها لدى الولايات المتحدة، التي تدعمها بالقيام بهذه العمليات.
وكان السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأميركية بات رايدر أوضح في شهر أيار الماضي، في مؤتمر صحفي حول نشاط إيران وميليشياتها في تلك المناطق، أن الطريقة التي تدير بها إيران أعمالها هي تدريب المجموعات الوكيلة والتأثير عليها، في إطار سياستها الخارجية الهادفة لطرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، مؤكداً أن تلك المساعي هي مسار تواصل الولايات المتحدة مراقبته.
ما موقف إيران من تحركات "قسد"؟
الملاحظ في كل الاشتباكات التي كان يشهدها ريف دير الزور الشرقي بين "قسد" وقوات عشائرية مدعومة من إيران، أن الأخيرة هي من كانت تبدأ بمهاجمة مقرات "قسد"، والتي كان آخرها في شهر آب الماضي بقيادة هاشم السطام قائد ما يسمى "أسود العكيدات"، والتي أسفرت عن عدد من القتلى والجرحى في صفوف "قسد".
إلا أن تصاعد الضغط بين الميليشيات الإيرانية بشكل عام و"قسد" مرتبط بالوضع العسكري والإقليمي العام للمليشيات الإيرانية في سوريا ولبنان على وجه الخصوص. ففي حال استمر الضغط على هذه المليشيات في المنطقة، فيتوقع أن تقوم "قسد" بزيادة تحركها ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا، مستغلة في ذلك غطاء قوات التحالف الدولي، وذلك بحسب الباحث أنس الشواخ.
عند السؤال عن موقف الميليشيات الإيرانية من هذا التصعيد المحتمل، يوضح الشواخ أنه من الممكن أن تستهدف هذه الميليشيات قوات "قسد" بمناطق غربي الفرات، مثل منطقة تل رفعت، إضافة إلى المناطق التي يسيطر عليها حزب "الاتحاد الديمقراطي" في حيي الأشرفية والشيخ مقصود بمدينة حلب.
ويكمل الشواخ حديثه قائلاً إنه قد تقوم قوات النظام والميليشيات الإيرانية بحصار هذه المناطق أو تقليص وجود وحدات حماية الشعب، أو ما تسمى بـ"قوات تحرير عفرين" المرتبطة بتنظيم حزب العمال الكردستاني في مناطق تل رفعت شمالي حلب.
إلا أن الباحثة بالشأن الإيراني، صبا عبد اللطيف، ترى أن الضغط الإقليمي على إيران لا يجعلها حالياً في موضع التفكير أو الاهتمام بـ"انتفاضة العشائر" أو بالفصائل المحلية، لأنها تسعى حالياً للحفاظ على ما تبقى من قادة ميليشياتها، الذين هم العصب الذي يحرك هذه الميليشيات المحلية.
يُذكر أن آخر اشتباكات حصلت بين "قسد" والميليشيات الإيرانية بين ضفتي نهر الفرات كانت في 29 أيلول/سبتمبر الماضي، وجاءت عقب استهداف طيران حربي مجهول مواقع للميليشيات الإيرانية في مدينة دير الزور وريف مدينة البوكمال قرب الحدود السورية – العراقية، ما أدى إلى مقتل 15 عنصراً من الميليشيات الإيرانية، بينهم قيادي.