مع تصاعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة واستمرار تدهور الوضع الإنساني، تتزايد حدة الانقسامات في ردود الفعل الدولية على نطاق واسع بين شمال العالم وجنوبه، بين الوقوف الكامل مع دولة الاحتلال وإدانة قتل المدنيين الإسرائيليين فقط، أو إدانة قتل جميع المدنيين.
وظهرت الانقسامات مباشرة بعد أحداث السابع من تشرين الأول الماضي، مع انقسام ردود الفعل الدولية بين الدول التي ركزت بالكامل على إدانة الهجوم الذي شنته كتائب "القسام" على مستوطنات غلاف غزة من ناحية، وتلك التي أشارت أيضاً إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كأساس لأي فعل في المنطقة.
بعد يومين من الهجوم، أصدرت الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا بيانا مشتركاً أكدت فيه "دعمها الثابت والموحد لدولة إسرائيل، وإدانتها القاطعة لحماس وارتكابها أعمالا إرهابية مروعة".
وبإيجاز، أشار بيان الدول الخمس إلى "التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني"، دون أي تفاصيل بشأن كيفية تحقيقها، أو ما الذي أخرجها عن مسارها.
من ناحية أخرى، أصدرت جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، بياناً في يوم الهجوم، دعت فيه إلى "وقف فوري للعنف وضبط النفس والسلام بين إسرائيل وفلسطين"، دون أن يذكر البيان اسم "حماس"، وفقاً لتقرير لوكالة الصحافة الفرنسية.
ورسمت مجلة "لو جراند كونتيننت" الفرنسية المتخصصة بالقضايا الجيوسياسية، خريطة الانقسامات في ردود الفعل إلى ثلاث فئات: الدول التي تدعم إسرائيل بقوة، والدول التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، وأخيراً، الدول التي تدعم "حماس".
ونقلت المجلة عن السفير الفرنسي السابق في سوريا، ميشيل دوكلو، قوله إن "هذه الأزمة تزيد بلا شك من الانقسامات، لأن هذا يعزز رواية الجنوب العالمي عن المعايير المزدوجة الغربية في شماله".
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمزق جنوب العالم عن شماله
وذكر تقرير وكالة الصحافة الفرنسية أنه "إذا كان الغزو الروسي لأوكرانيا كشف عن الانقسامات في المجتمع الدولي، فإن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأخير يمزقه، خاصة بين القوى الناشئة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي لا يشترك الكثير منها في التاريخ الأوروبي المركزي للقوى العالمية الكبرى".
وأشار إلى أن "الأزمة الأخيرة في الشرق الأوسط لا تؤدي إلى تمزيق شمال العالم وجنوبه فحسب، بل إنها تثير غضب بعض حلفاء واشنطن الأوروبيين الذين عملوا بجد منذ الغزو الروسي لأوكرانيا لبناء إجماع حول احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان العالمية ".
من جهتها، قالت مجلة "لو جراند كونتيننت" إنه "من منظور الجنوب العالمي، أدت المصالح الاقتصادية والجيوستراتيجية إلى الانقسامات حول الحرب الأوكرانية، أما الانقسام بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فهو مدفوع بأعباء عاطفية، وبالنسبة للدول التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، فإن صبرها بدأ ينفد".
وأوضحت المجلة أن "الأمر يتعلق أكثر بالغرب المنافق الذي لا يعطي الأولوية لمصالحه بقدر ما يعطي الأولوية لمشاعره الخاصة"، مضيفة أن "لدى الغرب مشاعر خاصة تجاه إسرائيل ومصالحها وألمها من الناحية العاطفية، فيما يُنظر إلى هذا في جنوب العالم على أنه عاطفة انتقائية وقواعد انتقائية للعبة".
وقال مدير برنامج الجنوب العالمي في معهد "كوينسي للحكم المسؤول" في واشنطن، سارانج شيدور، إن "الأمر لا يعني أن الجنوب العالمي متحد بالكامل وله موقف واحد، وهذا غير مرجح في هذه الظروف، لكن السؤال هو، هل هناك ما يكفي من البلدان في الجنوب العالمي التي تحفزها هذه القضية لتكوين لاعبين مهمين؟ وهل هم على استعداد للرد والإعلان عن آرائهم؟ الجواب على كلا السؤالين هو نعم".
ووفق سيدور، فإن طبيعة الرد ستعتمد على التطورات في قطاع غزة، فإذا استمر تدهور الوضع الإنساني في القطاع المحاصر، يمكن لبعض دول الجنوب أن تضغط من أجل إجراء تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة إذا استمر الجمود في مجلس الأمن المكوّن من 15 عضواً".
الولايات المتحدة: "الوسيط الصادق" منكسراً
كان مفترضاً أن تكون زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن إلى الشرق الأوسط بمثابة إشارة إلى عودة واشنطن إلى منطقة جيوسياسية حساسة بعد ابتعاد لسنوات، وتأكيداً لتمتعها بنفوذ على جميع اللاعبين الإقليميين.
إلا أنه مع نزول الرئيس الأميركي سلم الطائرة في مطار بن غوريون بتل أبيب، وارتمائه في أحضان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بدا "الوسط الصادق" المعروف في الشرق الأوسط "منكسراً أكثر منه صادقاً"، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.
بحلول ذلك الوقت، كان قادة الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية ألغوا اجتماعاً مقرراً مع الرئيس الأميركي، الذي قالت الوكالة إنه قطع 9 آلاف كيلومتراً للتحدث مع طرف واحد فقط، بشكل خاص في عالم متغير من القوى الناشئة وتراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، ما جعل الولايات المتحدة تبدو أكثر انحيازاً من أي وقت مضى، عندما كانت تواجه أزمة في العقد السابع من عمرها.
وذكر محرر الشؤون الدولية في الوكالة الفرنسية، فيليب تورل، إنه "عندما يتم هذا النوع من الزيارات، هناك شيئان ضروريان، المحادثات والثقة"، مشيراً إلى أن االهجوم على مستشفى المعمداني في غزة "هز كلاهما بشدة"، وذلك "قوّض بشكل خطير قدرة الرئيس الأميركي على إظهار نفسه كوسيط في هذه الأزمة".
نغمة أميركية أخرى في الأمم المتحدة
بعد وقت قصير من بدء جيش الاحتلال الإسرائيلي قصف قطاع غزة الأسبوع الماضي، ذكر تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" وموقع "هافينغتون بوست" أن وزارة الخارجية الأميركية وجهت توجيهات تحذر الدبلوماسيين الأميركيين من استخدام ثلاث عبارات محددة: "وقف التصعيد / وقف إطلاق النار"، و"إنهاء العنف / سفك الدماء"، و"استعادة الهدوء".
وفي الوقت نفسه، عدلت واشنطن التزامها بـ "حق الرد" لإسرائيل، ورفعته خلال الأيام القليلة الماضية إلى "واجب الرد".
وفي حين كان بايدن يقول للصحفيين في تل أبيب إنه أقنع إسرائيل بالسماح بدخول مساعدات إنسانية محدودة إلى غزة، كانت الولايات المتحدة "تعزف نغمة مختلفة" في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، ففي خطوة مفاجئة استخدمت واشنطن حق النقض "الفيتو" ضد قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار لتمكين وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة المحاصر.
ودان القرار، الذي قدمته البرازيل، العنف ضد جميع المدنيين، بما في ذلك "الهجمات الإرهابية الشنيعة التي تشنها حماس".
وصوتت 12 دولة من أعضاء مجلس الأمن لصالح القرار، وامتنعت روسيا والمملكة المتحدة عن التصويت، واستخدمت الولايات المتحدة، حق النقض وانتقدت القرار لأنه لم يذكر أي شيء عن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".
وعقب استخدام حق النقض، اتهم سفير الصين لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، الولايات المتحدة بأنها جعلت أعضاء مجلس الأمن يعتقدون بإمكانية تبني القرار، حيث لم تعرب عن معارضتها خلال المفاوضات، واصفاً التصويت بأنه "أمر لا يصدق".
كما أصدرت البرازيل، العضو المؤسس في كتلة "بريكس" للاقتصادات الناشئة والتي تتولى حالياً الرئاسة الدورية لمجلس الأمن وهي صاحبة مشروع القرار، بيانا غاضباً، أعربت فيه عن أسفها لعرقلة واشنطن التصويت.
الاتحاد الأوروبي: انقسامات تخرج إلى العلن
وفي تحول واضح عن موقفها منذ هجوم "حماس"، انشقت فرنسا عن حلفائها الغربيين في مجلس الأمن، عندما صوتت لصالح مشروع القرار البرازيلي، وأعربت عن أسفها لفشل مجلس الأمن في اعتماده.
على الجانب الآخر، أثار القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، ومنع الوقود والمياه والأدوية والإمدادات الغذائية، انقسامات في الشراكة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي كانت في الغالب محصورة داخل أبواب مغلقة، لكنها اندلعت علناً بعد ذلك.
وذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" أنه في قمة طارئة لزعماء الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء الماضي، حذر العديد من القادة من أن "الفشل في دعم حقوق الفلسطينيين في غزة يخاطر بتعريض الدول الغربية لتهمة النفاق".
وواجهت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ردود فعل عنيفة من زعماء ومشرعي الاتحاد الأوروبي، لعدم مطالبتها إسرائيل صراحة باحترام القانون الدولي في حربها على غزة، خلال زيارتها إلى إسرائيل الأسبوع الماضي.
How dare @vonderleyen declare "Europe stands with Israel"?
— Clare Daly (@ClareDalyMEP) October 17, 2023
She does not speak for me.
She does not speak for Ireland.
She does not speak for the citizens of Europe.
We stand for peace, international law and justice for the people of #Palestine.
It's time for her to go. pic.twitter.com/odyvwluPPh
وذكر مدير برنامج الجنوب العالمي في معهد "كوينسي للحكم المسؤول" في واشنطن، إن الأوربيين "يشعرون بالقلق من أن يُنظر إليهم على أنهم لا يدافعون عن القانون الدولي، ويُنظر إلى تضامن أورسولا فون دير لاين غير المشروط مع إسرائيل على أنه أحادي الجانب ويؤدي إلى فقدان قوتها الناعمة في الجنوب العالمي.
وأوضح شيدور أن الاتحاد الأوروبي "يعتمد على القوة الناعمة أكثر من الولايات المتحدة، التي تعتمد في كثير من الأحيان بشكل أكبر على القوة الصارمة، على الرغم من أن ذلك يؤدي بشكل متزايد إلى نتائج عكسية".
المساعدات الأوروبية والأميركية: "ثمن الضمير"
وعلى الرغم من زيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التمويل الإنساني للفلسطينيين منذ بدء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، وصف الصحفي والكاتب الفرنسي في صحيفة "لوموند"، جيل باريس، المساعدات التي تقدمها بروكسل وواشنطن للفلسطينيين بأنها "ثمن ضميرهم المذنب بشأن اختفاء احتمال إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل".
وعلى الرغم من أن دول الاتحاد الأوروبية منقسمة منذ فترة طويلة بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أن المناقشات تجري خلف أبواب مغلقة، وإذا قرر الاتحاد الأوروبي نقل المناقشة إلى المسرح العام والسياسي، فمن الممكن أن يتلقى مساعدة كبيرة من الجنوب العالمي.
وتمتلك الولايات المتحدة المعدات العسكرية اللازمة للتغلب على الخلافات مع حلفائها الأوروبيين بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكنها لن تكتسب أصدقاء في منافسة القوة الناعمة، في حين روسيا والصين مستعدتان وقادرتان على احتلال مكانها في الجنوب العالمي، الذي بدأ في الظهور لتغيير النظام العالمي القادم.