في أول زيارة رئاسية للشرق الأوسط، التي جاءت بعد جفاء وفتور، قال الرئيس الأميركي جو بايدن، من جدة السعودية السبت الماضي، لن نغادر المنطقة ولن نترك فراغاً تملؤه روسيا والصين وإيران.
بعد أقل من يومين من مغادرة بايدن، تحط طائرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمس الثلاثاء، في الشرق الأوسط في أول زيارة خارجية، خارج دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، بعد غزوه لأوكرانيا.
عقد بوتين قمة ثلاثية مع نظيريه الإيراني والتركي، في طهران، كان الملف السوري حاضراً على رأس جدول الأعمال، وأقل حضوراً في قمة جدة.
وأكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، قبيل انعقادها إن القمة تسعى إلى تثبيت الهدف الأساسي لمبادرة أستانا، المتمثل بخفض التوتر في المناطق التي تشهد معارك في سوريا، إضافة لمناقشة العملية العسكرية التركية المحتملة.
وأضاف أن من أهداف القمة التعاون بين الدول الثلاث لتعزيز الأمن والاستقرار في سوريا، ومساعدة النازحين واللاجئين السوريين للعودة إلى أراضيهم.
سوريا ما بين قمتين ومعسكرين
اختتم بايدن زيارته لإسرائيل والسعودية، بعقد قمة جدة، هدفها تعزيز التكامل الأمني والاقتصادي لحلفاء واشنطن في المنطقة، الأمر الذي دفع الروس والإيرانيين لرد مماثل بعقد قمة لرعاة مسار أستانا الخاص بشأن سوريا.
تأتي زيارة بوتين إلى المنطقة بالتزامن مع زيارة نظيره الأميركي، وعقده قمة ثلاثية في طهران، الخصم الإقليمي للرياض، لتوسيع الصراع السياسي مع المعسكر المناهض (الغرب)، على خلفية الحرب في أوكرانيا.
ويريد بوتين أن يكون مسار أستانا جبهة مناهضة والبديل الشرقي لمسار جنيف الغربي، بما يخص تقرير مصير سوريا.
وتأتي القمتان في وقت يشتد صراع الظل بين معسكرين يعيد الأذهان إلى ما قبل انهيار جدار برلين.
أنهى سقوط الجدار في 1989 الحرب الباردة بين قطبين غربي ديمقراطي وشرقي اشتراكي، بينما تشكل الساحة السورية اليوم نقطة تتقاطع فيها الخطوط بين معسكرين متمايزين أيضاً، بين الغرب والشرق جغرافياً.
وبين واشنطن وحلفائها بالمنطقة وبين رحم الدول الاشتراكية روسيا والصين وفق الميزان الإيديولوجي، أما إقليمياً بين المحور الشيعي ودول الاعتدال العربي "السنية".
لم تحتل سوريا أولوية في أجندة القمتين، في ظل تراجع الاهتمام بالقضية السورية من قبل جميع الأطراف الإقليمية والدولية، في الآونة الأخيرة، على حساب قضايا ساخنة وأكثر تعقيداً، في مقدمتها الحرب الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية وأزمة الطاقة العالمية وتعثر مفاوضات النووي الإيراني.
مع ذلك، يلتقي الجمعان في سوريا، وفق مصالح متضاربة، الأمر الذي يجعل الساحة السورية حلبة صراع خفي، لا سيما وأن أبرز اللاعبين من المعسكرين لهم وجود أو نشاط عسكري في أراضيها.
وعلى الرغم من أن الحرب في أوكرانيا أدت إلى حالة من الاستقطاب والفزر العالمي، غير مسبوقة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. إلا أن قصة تمايز المعسكرين بدأت في سوريا.
في خريف 2015، لم يكن التدخل العسكري الروسي في سوريا مقلقاً لواشنطن لدرجة أن أوباما اكتفى بالإدانة، لكن التداعيات الاقتصادية للحرب الأوكرانية قلبت المعادلات السياسية ووضعتها في وضع التأهب ورص الصفوف.
مع ذلك لا تشير المعطيات إلى صدام قريب أو محتمل بين المعسكرين، ولكن أشبه بصراع ظل، الذي تمثل الساحة السورية الحلبة الأكثر اختماراً للتنافس عندما تحين المواجهة.
قمة طهران.. رعاة مسار أستانا
اختتمت مساء أمس الثلاثاء في العاصمة الإيرانية طهران أعمال القمة الثلاثية لرؤساء إيران وروسيا وتركيا، لمناقشة مسار أستانا بشأن سوريا.
على الرغم من حضور الملف السوري في قمة طهران أكثر من قمة جدة، إلا أنه لا جديد في سوريا يستدعي قمة بهذا التوقيت، فيما عدا تلويح أنقرة بعملية عسكرية شمالي سوريا.
تسعى طهران من استضافة القمة إلى تعزيز علاقاتها الاستراتيجية، القوية بالأصل، مع الكرملين في ظل احتمال بلورة تكتل عربي إسرائيلي بدعم أميركي في المنطقة لمواجهة التهديد الإيراني.
في حين يريد بوتين، الذي يعاني من العزلة الغربية، مواجهة العقوبات التي يصفها بأنها حرب اقتصادية على بلاده عبر إيصال رسالة للغرب مفادها بأن روسيا حاضرة بالساحة الدولية.
يتابع المجتمع الدولي عن كثب زيارة بوتين لطهران، الحليفان النفطيان، بعد أن هز الغزو الروسي لأوكرانيا سوق النفط العالمية.
قال مستشار بوتين للسياسة الخارجية يوري أوشكوف، قبل القمة، إن إيران "شريك مهم لروسيا"
وأشار أوشكوف إلى وجود علاقة ثقة بين بوتين والمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وهو اللقاء الخامس بينهما.
وفي الملف السوري، يريد بوتين أن يكون مسار أستانا مظلة دولية بديلة عن استئثار الغرب بمسار الحل السياسي في سوريا.
أولى هذه الخطوات تمثلت برفض نظام الأسد المشاركة في جولة جديدة مجدولة مسبقاُ للجنة الدستورية، إضافة لمطالب روسية بنقل الاجتماعات من جنيف إلى مكان آخر.
كما تتحدث تقارير عن رغبة موسكو بإنشاء مسار أستانا في ملفي اليمن وأفغانستان.
قمة جدة.. الاهتمام الأميركي بالمنطقة
جاءت قمة جدة، الأميركية العربية، لتعزيز أهمية المنطقة في السياسة الأميركية، تحت عنوان "شرق أوسط أكثر تكاملاً" أمنياً واقتصادياً، لمواجهة مصادر الإرهاب وفي مقدمتها التهديدات الإيرانية.
يريد بايدن من إعادة الاهتمام الأميركي للشرق الأوسط التصدي لأزمة الطاقة العالمية، ومنع حلفائه الأوروبيين من الاعتماد على الإمدادات الروسية.
ومن المتوقع أن تؤدي زيارة بايدن للسعودية إلى زيادة الرياض إنتاجها النفطي من أجل خفض أسعار النفط العالمية.
كما جاءت الزيارة على خلفية التخوف الأميركي من قيام إيران بتزويد روسيا بعدة مئات من الطائرات من دون طيار لصالح الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي تنفيه طهران.
ومن الدوافع الأميركية أيضاً، لعقد قمة جدة فشل المفاوضات غير المباشرة في فيينا مع الجانب الإيراني للعودة إلى الاتفاق النووي.
وأحد أبرز الملفات التي حملها بايدن إلى الشرق الأوسط بلورة تحالف أمني بين إسرائيل ودول عربية، باسم "ميد" (MEAD: Middle East Air Defense)، بهدف دمج إسرائيل إقليمياً تحت شعار مواجهة الخطر الإيراني المشترك.
يشار إلى أن هذا الحالف قائم فعلياً عندما نقل البنتاغون إسرائيل من قيادة القوات في أوروبا إلى القيادة المركزية (CENTCOM) في الشرق الأوسط، مطلع 2021،
وفي الملف السوري أعاد المشاركون في قمة جدة تأكيدهم التبني بقرار جنيف 2254 كمرجعية للحل سياسي، في حين طرح العاهل الأردني قضية تهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود مع سوريا.
قمة تحالف وقمة مصالح
في الوقت الذي سارت فيه قمة جدة نحو بناء تحالف، غير مسبوق، بين حلفاء واشنطن بالمنطقة، والاحتفاء بعودة الدور الأميركي، غلبت المصالح على طابع قمة طهران لرعاة أستانا، لا سيما وأن الدول الثلاث منخرطة مع أطراف الصراع في سوريا، ولكن ليس في جبهة واحدة.
روسيا وإيران تدعمان الأسد بينما تقف تركيا مع قوات من المعارضة.
من جهة، موسكو وطهران تسعيان لكسر العزلة المفروضة عليهما من العقوبات الغربية عبر استغلال أزمة الطاقة العالمية، ومواجهة التحديات الغربية في أوكرانيا والنووي الإيراني.
في حين تركيا التي تقف في الوسط بين المعسكرين، تأتي مشاركتها في قمة طهران لمناقشة مخاوف أنقرة من نفوذ "حزب العمال الكردستاني" في شمال شرقي سوريا.
ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من علاقاتهما الوطيدة، تتعارض مصالح إيران وروسيا في بعض القضايا، مثل التنافس على بيع النفط للأسواق في الصين.
وبحسب وكالة "رويترز"، أدى توجه روسيا لتصريف نفطها بعد العقوبات الغربية إلى الصين إلى انخفاض كبير في صادرات النفط الإيراني إلى الصين، التي تشكل مصدر دخل رئيسي لطهران منذ أن أعاد ترامب فرض العقوبات على طهران في 2018.
وفي هذا السياق، ذكرت الوكالة أن صادرات النفط الخام الإيراني إلى الصين تراجعت بشكل حاد، في أيار/مايو، لأن بكين تفضل شراء البراميل الروسية بسعر مخفض.