icon
التغطية الحية

بين الحصانة والعدالة.. كيف فتحت فرنسا الباب لمحاسبة الأسد على جرائم الكيماوي؟

2024.09.05 | 23:55 دمشق

بشار الأسد في مجلس الشعب السوري - المصدر: الإنترنت
بشار الأسد في مجلس الشعب السوري - المصدر: الإنترنت
The Atlantic Council - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

في 26 من حزيران، حكمت محكمة الاستئناف بباريس على بشار الأسد بسبب استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد مدنيين من أبناء شعبه في عام 2013 على الرغم من أن هذه الأفعال ارتكبت خلال توليه لمنصبه الرسمي كـ "رئيس للجمهورية العربية السورية"، وارتأت المحكمة بأن ذلك "لا يمكن أن يعتبر جزءاً من مهامه الرسمية بصفته رئيساً للدولة وبأن تلك الأفعال لا صلة تربطها بالسيادة المنوطة بتلك الوظائف بشكل طبيعي".

أتت تلك الهجمات الكيماوية التي أزهقت أرواح آلاف من الناس، ضمن حملة ممنهجة شنها نظام الأسد لاستعادة المناطق التي كانت بيد المعارضة، إلى جانب سعيه لمعاقبة المدنيين وترويعهم. ولقد دان المجتمع الدولي تلك الهجمات واستنكرها بشدة.

وعبر إصدار مذكرة اعتقال بحق بشار الأسد، اعترفت المحكمة الفرنسية بأن وجود رئيس في منصبه لا يمنحه حصانة "مطلقة" كما يعتقد كثيرون، لأن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد مدنيين يرقى لجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية ولا يجوز اعتبار ذلك تصرفاً رسمياً صادراً على "رئيس دولة". ثم إن "رئيس الدولة" لا يجوز له استغلال الامتيازات الممنوحة له بحكم منصبه، مثل نظام حماية الحصانة الشخصية للرئيس، بهدف الإفلات من المحاسبة.

لمحة عن الحصانة الشخصية وملف الدعوى

تعتبر الحصانة الشخصية مبدأ من مبادئ القانون العرفي الدولي والذي يتمتع بموجبه عادة مسؤولون رفيعون مثل رؤساء الدول ورؤساء الوزراء ووزراء الخارجية بحصانة من المحاكمة التي تقيمها دول أخرى بحقهم أثناء شغلهم لمنصبهم، بصرف النظر عما ارتكبوه من أفعال.

ولهذا يرى بعض الناس بأن الحصانة الشخصية حصانة مطلقة، ما يعني بأنه لا توجد استثناءات، حتى مع الحالات التي تمثل جرائم دولية أساسية مثل الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب أو الإبادة الجماعية أو التعذيب. لكن الواقع يقول بإن التكليف بارتكاب الجرائم التي أسلفنا الحديث عنها يتطلب عادة وجود الوسائل والآليات المرتبطة بوظائف الدولة ومهامها. لذا فإن مناقشة أمر الحصانة المطلقة الممنوحة لرئيس الدولة يعني حماية هؤلاء الأفراد الذين بوسعهم ارتكاب أفظع الجرائم.

يعتبر القرار الذي صدر في 26 حزيران الماضي أول حكم صادر عن محكمة يقضي بتجريد الرؤساء الذين مازالوا على رأس مناصبهم من الحصانة المطلقة.

وبما أن المحاكم الفرنسية أخذت ذلك بعين الاعتبار، وحتى تحارب فكرة الإفلات من العقاب بعد ارتكاب أخطر الجرائم، لابد من التصريح بأن المحاكم الفرنسية تتمتع بسلطة قضائية تشمل الجرائم الدولية الأساسية المرتكبة خارج الأراضي الفرنسية.

والحق يقال هنا إن فرنسا نقلت قانون روما الأساسي وعدداً من الاتفاقيات الدولية التي تحظر ارتكاب الجرائم الدولية الأساسية إلى قانونها الجنائي، وعلى رأس تلك الاتفاقيات اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984. ومن خلال قانون أصول المحاكمات الجنائية، بوسع المحاكم الفرنسية ممارسة سلطاتها القضائية الاعتبارية بصورة سلبية أو إيجابية، أي مع القضايا التي توجد فيها ضحية فرنسية أو جان فرنسي، إلى جانب تمتع تلك المحاكم بالولاية القضائية العالمية الشاملة لتحكم في قضايا تدور حول مجرم أجنبي يقيم عادة في فرنسا.

وفي الأول من آذار 2021، رفع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير وناجون من الهجمات الكيماوية التي استهدفت الغوطة الشرقية عام 2013 دعوى أمام المحاكم الفرنسية، ففتح تحقيق قضائي بالملف في نيسان 2021، ثم انضمت ثلاث منظمات غير حكومية لملف الدعوى بصفتها جهات مدنية، وتألفت تلك المنظمات من مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح، والأرشيف السوري/الذاكرة السورية، والمدافعون عن الحقوق المدنية.

وفي 14 تشرين الثاني 2023، وبناء على أدلة موسعة، أصدر قضاة تحقيق فرنسيون مذكرات اعتقال بحق أربعة أشخاص اعتبروا أنهم من أهم المسؤولين عن تلك الهجمات، ووجهت لهؤلاء تهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. وشملت مذكرات الاعتقال الأسد وثلاثة مسؤولين سوريين رفيعي المستوى، لتكون تلك هي المرة الأولى التي تقوم فيها سلطة قضائية أجنبية بإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس دولة ما يزال في منصبه.

وفي 22 كانون الأول 2023، وعلى الرغم من اعترافه بالدور الذي لعبه الأسد في الهجمات الكيماوية، تقدم المدعي العام الفرنسي بطلب لإلغاء مذكرة التوقيف بحجة أن إصدار هذه المذكرة تطرح مشكلة قانونية أساسية تتصل بحالة الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول، وبأنه لابد لمحكمة عليا أن تفصل في هذه القضية.

في 15 أيار من هذا العام، أقامت محكمة الاستئناف بباريس جلسة استماع لحجج المدعي العام ولمرافعات المحامين الذين يمثلون الطرف المدني وذلك حول شرعية مذكرة الاعتقال التي صدرت بحق الأسد ضمن سياق الحصانة التي يتمتع بها رئيس الدولة. وفي 26 حزيران، أصدرت المحكمة حكمها التاريخي القاضي بتبني مذكرة الاعتقال بحق "الرئيس السوري"، إذ لأول مرة في التاريخ أصدرت محكمة حكماً يقضي برفع حماية الحصانة المطلقة عن رئيس ما يزال في منصبه.

ولكن بعد يومين على ذلك، أي في 28 حزيران، طعن مكتب المدعي العام بالقرار بحجة أنه من الضروري أن تدرس أعلى محكمة في النظام القضائي الموقف الذي اتخذته غرفة التحقيقات لدى محكمة الاستئناف بباريس فيما يتصل بقضية الحصانة الشخصية لرئيس مايزال في منصبه تجاه جرائم من هذا النوع.

ولذلك سيعرض قرار محكمة الاستئناف على أعلى محكمة بفرنسا أي محكمة النقض، حيث ستتمخض الأمور عن نتيجتين لصالح ضحايا هجمات الأسد الكيماوية، إذ ستحكم المحكمة إما بأنه من حق الرئيس السوري بالتمتع بحصانة شخصية مع إلغاء مذكرة التوقيف الصادرة بحقه، وهذا ما سيسمح للأسد بالتهرب من المحاسبة، أو ستتبنى القرار السابق مع إصدار قرار تاريخي يؤكد بأن حصانة رئيس الدولة ليست بمطلقة مع تأمين السبيل للمحاسبة على الجرائم الدولية التي ارتكبها الأسد.

وفي كلتا الحالتين، يمكن أن تقام محاكمة جنائية في فرنسا بحضور من صدرت بحقهم لوائح اتهام أو بغيابهم، ويبقى السؤال هنا هل ستوجه الاتهامات للأسد، بيد أن هذا الأمر يعتمد على فكرة تبني مذكرة التوقيف أو إلغائها.

لماذا رفعت محكمة الاستئناف الحصانة عن الأسد؟

أقرت محكمة الاستئناف بباريس وجود بضعة حدود على الحصانة الشخصية بسبب طبيعة الجرائم وسلوك رئيس الدولة.

وتبين للمحكمة بأن الغرض من الحصانة الشخصية هو ممارسة مهام تمثيلية على المستوى الدولي، بيد أن استخدام رئيس دولة لأسلحة كيماوية ضد شعبه لا يندرج ضمن المهام الاعتيادية، ولهذا فإن عدم تصرف الأسد كرئيس للدولة يعفيه من التمتع بميزة الحصانة الشخصية.

وعلاوة على ذلك فإن حظر استخدام الأسلحة الكيماوية بالنسبة للمحكمة يعتبر جزءاً من القانون العرفي الدولي باعتبار ذلك قاعدة ملزمة، كما أن الجرائم الدولية التي تقع ضمن نطاق التحقيق لا يجوز أن تعتبر جزءاً من المهام الرسمية لرئيس الدولة، وبالنتيجة تعتبر تلك الأمور منفصلة عن السيادة التي ترتبط بتلك الوظائف بشكل طبيعي.

وفي تعليلها لذلك، عادت المحكمة إلى سبب وجود الحصانة الشخصية، وأكدت أن الغرض منها ليس حماية الرئيس بعد ارتكابه لأفعال لا يجوز حمايته إثر ارتكابها.

وعبر الاستشهاد بعدد من قرارات مجلس الأمن الدولي المتصلة بيوغوسلافيا ورواندا وسيراليون، أكدت المحكمة بأن المجتمع الدولي يتبنى قيم الإنسانية ويقدمها على الحصانة الشخصية، كما أكدت بأن الحصانة لا تعني الافلات من العقوبة، وبالنسبة للقضية الحالية المعنية بسوريا، فإن مجلس الأمن الدولي دعا لمحاكمة المسؤولين عن الهجمات الكيماوية من دون أن يشير إلى أي حصانة يمكن أن تقف في وجه المحاكمة، وبذلك أقرت المحكمة بأن فكرة محاربة حالة الإفلات من العقاب يمكن تغليبها على الحصانة الشخصية.

وخلُصت المحكمة أيضاً إلى أنه يبدو وبكل جلاء بأن سوريا لن تحاكم بشار الأسد على هذه الجرائم، كما أنها لن تسقط الحصانة الشخصية عن رئيسها، وبما أنه لا توجد محاكم دولية تتمتع بولاية قضائية في سوريا، وبما أن سوريا ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، لذا لابد من القول بإن مذكرة التوقيف التي صدرت بحق بشار الأسد لا تشوبها أي شائبة تؤدي إلى بطلانها.

وفي ذلك إشارة إلى قضية مذكرة التوقيف الصادرة عن محكمة العدل الدولية في عام 2002، والتي تؤكد بأن "الحصانة التي يتمتع بها الشخص بموجب القانون الدولي لا تمثل حالة منع للمحاكمة الجنائية في ظروف معينة" إذ في هذا القرار، أعلنت محكمة العدل الدولية بأن الحصانة الشخصية لا تعني الإفلات من العقاب بشكل مطلق، بما أنه يجوز محاكمة مسؤول رفيع أمام محاكم بلده، ومحاكمته في محكمة أجنبية إذا كانت الدولة التي يمثلها قد أسقطت حصانتها عنه، كما يمكن محاكمته بعد انتهاء فترته في السلطة، ويمكن لمحكمة دولية محاكمته أيضاً. وهنا لابد من التذكير بأن المحاكم الدولية لا تعترف بحصانة رئيس الدولة كما تفعل المحاكم الوطنية.

ولكن بالنسبة للقضية الحالية، فإن السلطات القضائية السورية لم تتخذ أي خطوات من أجل المحاكمة، والأسد لن يتخلى عن الحصانة الشخصية، كما أن مدة ولايته الرئاسية غير واضحة، فقد بقي في منصبه لمدة 24 سنة، ولا توجد محكمة دولية مختصة في هذا الشأن، بما أن سوريا لم تصادق على نظام روما الأساسي، وباءت كل المحاولات الساعية لإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية بالفشل بفضل حق النقض. وبما أن ملف الهجمات الكيماوية لم يحقق كل تلك الشروط، فقد ضمنت محكمة الاستئناف بباريس عبر إسقاط الحصانة عن الأسد، عدم مساواة حالة الحصانة بحالة الإفلات من العقاب، ومهدت السبيل أمام الضحايا للسعي وراء الحقيقة والعدالة.

يمثل قرار محكمة الاستئناف خطوة مهمة على طريق ضمان عدم حماية حصانة رئيس الدولة أي رئيس من المحاكمة على أشد الجرائم الدولية خطراً، ويدلل التأكيد على إصدار مذكرة التوقيف إلى أنه لا يجوز لرؤساء دول ما يزالون في مناصبهم ارتكاب جرائم دولية والإفلات من المحاسبة. وسيكون القرار القادم الذي ستصدره أعلى محكمة في فرنسا حاسماً لأنه سيؤدي إما لتبني وتأييد هذا الحكم التاريخي أو إلغائه، وما يترتب على ذلك من تبعات عميقة الأثر بالنسبة للقانون الدولي ولملف لمحاسبة وللضحايا الذين شهدوا أفظع الجرائم وأشنعها.

 

المصدر: The Atlantic Council