شهدت الحقبة السياسية مؤخراً على الساحة العربية انقلاباً على صعيد صياغة المفاهيم، بلغت ذروتها في السنة المنصرمة، وتركت أثراً لافتاً على تفاصيل كثيرة وقضايا كبرى في حياة الإنسان العربي.
يعرّف تطبيع العلاقات السياسية اصطلاحاً بأنه «جعل العلاقات طبيعية» بعد فترة من التوتر أو القطيعة لأي سبب كان، حيث تعود العلاقة طبيعية وكأن لم يكن هناك خلاف أو قطيعة سابقة.
غير أن فكرة التطبيع المطبقة بالنسبة إلى علاقات الدول العربية التي انتهجت تلك السياسة مع الكيان الإسرائيلي، لا تختلف عن مفهوم المصالحة أو بما يمكن وصفه بطريقة أكثر فجاجة لا يتعدى فرض طباع وسياسات وأهداف دولة على دولة أخرى.
يؤثر التطبيع الذي نعنيه في هذه الحالة عادة في الأمور الثقافية والاجتماعية كما يمكن أن يوحي بحالة من الإخضاع تمارسه دولة تجاه دولة أخرى، في حين يمكن أن يتشكل التطبيع تدريجياً في حال كان السلام قائماً، ويصبح اندماج الثقافتين نتيجة طبيعية ومن دون إجبار أو تعجل من الحكومات.
ما نقصده هنا لا يتعلق بالتطبيع في صورته العادية، مثلما يحصل في حال انقطاع علاقة بين دولتين غير متحاربتين أو غير مختلفتين اختلافاً جذرياً بخصوص قضية مصيرية معينة دفعت الشعوب في سبيلها أثماناً باهظة، إذ لو لم يكن الحال كذلك فقد كان من الممكن حدوث هذا الأمر من دون حصول حالة إجبار وفرض.
ما يحصل في حالة تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي هو محاولة فرض ثقافة شعب على شعب آخر
إن حالة تقبل الآخر واحترام اختلافنا معه يعد حالة حضارية وثقافية ومدنية تصل إليها الشعوب بفعل تراكم الثقافات، غير أن ما يحصل في حالة تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي هو محاولة فرض ثقافة شعب على شعب آخر وإظهار طرف منتصر بخصوص صراع أزلي وتاريخي، ومن أجل ذلك فقد يختار الحكام سياسة معينة تبعاً لاستراتيجياتهم وأهدافهم البعيدة، ثم يفرصونها على شعوبهم متغاضين بذلك عن تجاوز القضية التي جعلتها الشعوب العربية بوصلة لها عبر عقود طويلة.
فالتطبيع في معناه الاصطلاحي سياسياً قد لا يُراد منه عودة العلاقات الطبيعية بين الدولتين بقدر ما يرمي إلى ردم الهوة بين الشعوب العربية والكيان الإسرائيلي، ومحاولة تجاهل القضية الأساسية في علاقاتنا مع الدولة الناشئة على أرض مغتصَبة، وهو بذلك لا يمهد لانسجام الشعوب وكسر حاجز الجليد بينهم فحسب.
يحاول المؤيدون لفكرة التطبيع إظهار أن المشكلة لا تتعدى خلاف العقائد الدينية والتقاليد، في حين تؤدي سياساتهم المتبعة إلى تحييد القضية الأساسية وتغيير المصطلحات، الأمر الذي يؤدي إلى كتابة تاريخ جديد لا يميز فيه القارئ فيما بعد بين العدو والصديق.
لا يمكن الفصل في هذه الحالة بين التطبيع السياسي والاجتماعي، عدا أن الوقائع تظهر وجود إعلان ضمني بجواز أحقية اغتصاب الأراضي والاعتراف بشرعية وجود كيان مغتصب على أرض ليست عائدة له، حتى لو كلف ذلك إبادة شعب كامل وتهجيره، كما قد يذهب بنا أبعد من ذلك إلى وجود اصطفاف وموافقة للحجج الوهمية والقومية لتكوين دولة الكيان المفترضة.
تبدع الحكومات في صياغة الاتفاقيات وتحضير مبرراتها وتقحم الشعب في خضم خططها من دون أن تتبين قابليته لذلك، مدعية صناعة السلام والحرص على تفاهم الشعوب، لكنهم بذلك يتناسون أنهم يدهسون أحلام شعوب أخرى متضررة ويشعلون فتيل الشقاق بين الشعوب ذات الرؤية والتوجه المشترك في رفض الاحتلال.
لقد بدأت الدول والحكومات تصرح بما لم تكن تتجرأ على المجاهرة به فيما مضى خوفاً من فقدان تلميع صورتها، وتغيرت المفاهيم بشكل صارخ ومفجع، فأصبح اقتسام الأراضي في سوريا مثلاً بشكل غير مشروع يمكن تغطيته بحجة الدفاع عن حقوق فئات معينة، كما أصبح إقدام الدول على التطبيع مع الدول الغازية وجهة نظر ودعوة إلى السلام، وأصبح ما كان محرماً في السابق مفخرة كبيرة ومدعاة للتباهي بوهم أن تلك الدول هي صانعة السلام.
السلام لا يمكن أن ينمو فوق جثث الناس المظلومين والمقهورين سواء من حكوماتهم أو من حكومات الدول التي كانوا يعدّونها معادية إلى وقت قريب
ليست المشكلة في البحث عن طرق لإحلال السلام، فالسلام بتعريفه المنطقي يجب أن يكون بين دول متكافئة بالقوة، أما أن يحدث بين دولة غازية وأخرى مغتصَبة فذلك لا يمكن وصفه إلا بالخنوع، المشكلة الحقيقية تكمن في أن السلام لا يمكن أن ينمو فوق جثث الناس المظلومين والمقهورين سواء من حكوماتهم أو من حكومات الدول التي كانوا يعدّونها معادية إلى وقت قريب قبل أن تتغير السياسات.
لقد استغلت الحكومات وقوع الشعوب في فخ اللهاث لضمان رغبة البقاء والكفر في كثير من القضايا بسبب صعوبة الحياة ومشقات العيش المتجددة، إذ بدأت تتبدى صعوبة المرحلة في معاناتنا الحالية والمستقبلية من وجود اضطراب قيمي وسيطرة حالة من اليأس العام أصبحت فيها حياة بعض الشعوب على المحك، ما أدى إلى فقدان الثقة بين الشعوب العربية بعضها بالبعض الآخر، وشكل حالة من اللا جدوى في الاستمرار في الدفاع عن القضية أمام عبثية الاحتمالات المختلفة.
ربما آن الأوان لمحاولة الخروج من تلك الهوة على أن نبدأ بمراجعة قيمنا وشعاراتنا، وتحديد النقطة التي فقدنا فيها البوصلة، والعمل على تشكيل رؤية جديدة أكثر فاعلية، نتخلص فيها من اللامبالاة القيمية تجاه أكثر القضايا حساسية لدى الشعوب العربية.
يبدو أن العصر الحالي هو عصر تحول المفاهيم واختلالها، إذ أصبح الأبيض والأسود لونين متداخلين واختلطت فيها مواصفات العدو والصديق، غير أننا فيما لو أردنا إحلال السلام في بلادنا فعلينا ألا ندعم السياسات التي تتجاوز آلام الشعوب وتسحق أحلامها وتغض النظر عن أحقية قضاياها، إضافة إلى أنه ومن باب أولى على السلطات الحاكمة العمل على تطبيق حقوق الإنسان وحماية الطفل وإلغاء التنمر والعنصرية ووقف الحروب والجريمة بكل أشكالها المادية والمعنوية، وإحلال عالم ينتفي فيه التفاخر بالفوقية والطبقية والبحث عن حلول لإلغاء أزمة الفقر.