يمكن القول إن البصل اليوم يخط مرحلة جديدة في تاريخه بسوريا، وهو الذي اعتادت الجدات على زراعته في حدائقهن وإضافته لجميع الموائد على اعتبار أن لا نكهة لطعام من دونه إن كان مطبوخاً أو نيئاً، أخضر أو يابساً.
اليوم وبعد سنوات من تربعه في جميع البيوت السورية على رأس قائمة المواد الغذائية بدأ يختفي شيئاً فشيئاً، لينتقل إلى مرحلة أخرى يتوّج فيها ملكاً على الخضراوات بعدما أصبح أغلاهم سعراً وأكثرهم صعوبة في الحصول عليه. فما الأسباب التي غيرت مساره المتواضع ليصبح واحداً من المستحيلات السورية؟
"حبة واحدة تكفي"
السوريات أصبحن محترفات في خلق البدائل عن كل مادة تغيب عن الأسواق أو يرتفع سعرها، لكن عجزهن بدأ يظهر حين انقطاع البصل وغلائه، كيف يمكن لمادة مثل البصل أن تستبدل خاصة وأنهن اعتمدن بعد غلاء اللحوم على الأكلات المطبوخة بالزيت والتي يعتبر البصل أحد أساساتها، بعضهن لا تصدق أن البصل أصبح غالياً لهذا الحد، تجدهن يُعدن الكلام وعلامات الاستغراب نفسها عند أي حديث عنه، البصل الذي كان من أرخص المواد الغذائية الموجودة في كل بيت دون أن يكلف أحداً عناء التفكير به أصبح فجأة مفقوداً!
في محل الخضراوات تتجاذب النساء أطراف الحديث عن البصل وحاله، تقول إحداهن للأخرى: "بإمكانك الحصول عليه من السورية للتجارة بـ 6 آلاف للكيلو الواحد، ودون بطاقة فقط اذهبي وستحصلين عليه، لتجيبها الأخرى بأنها لن تقف بالطابور من أجل البصل فالحياة كلها "لا تساوي قشرة المذكور".
يبدو أن الخيارات مازالت تتضاءل أمام السوريين، بعض العائلات ليست قادرة على الطبخ وتناول وجبة مختلفة كل يوم والبصل زاد من المشكلة، فمن كان يطبخ في بعض أيام الأسبوع، بدأ يقنن في ذلك، فعلى ماذا يعتمد هذا الشعب في غذائه بعد أن فقدت جميع المواد المغذية والضرورية من طعامه وأصبحت صعبة المنال.
ينصح أبو محمد، وهو صاحب محل خضراوات في العاصمة دمشق، زبائنه بشراء حبات البصل الصغيرة، يقول: "ما من داع لشراء البصل الكبير سعره أغلى ولا يمكنك تقسيمه لأكثر من طبخة واحدة، البصل الصغير أوفر والحبة تكفي لطبخة كل يوم".
في الوقت الذي تتجمع فيه طوابير السوريين لشراء البصل على أبواب السورية للتجارة، لن تجد في محال الخضراوات بصلاً صالحاً للشراء، فالكميات الموجودة قليلة وسيئة، ويمكن أن يصل سعر البصلة الواحدة لألفي ليرة، وقد تضطر لأن تجوب المدينة في بعض الأيام بحثاً عن البصل هذا بالنسبة للذين لا يزالون يشترونه بينما آخرون يفضلون سلق الطعام على أن يدفعوا رواتبهم مقابل البصل.
البصل بـ "الحبة"
يعتمد معظم السوريين اليوم على الأكلات الخفيفة والتي تعد تكلفتها أرخص من تلك التي تحتوي على اللحوم وهي أكلات في معظمها تعتمد على البصل والزيت والخضراوات بشكل عام، وإذا استثنينا العائلات، والتي غالباً لا تمتلك دخلاً شهرياً يكفيها لشراء حاجتها من البصل، سنجد أن هناك فئة كبيرة وهي فئة الشابات والشبان الذين يعيشون وحدهم ولا يمتلكون بطاقة ذكية ويضطرون لشراء جميع المواد من السوق العادية بأسعار أعلى بكثير.
تقول "رغد"، وهي طالبة جامعية تعيش مع أختها: "بعد غلاء البصل أصبح الأمر أكثر صعوبة، البارحة مثلا قررت أن أشتري البصل والكوسا، اشتريت ست حبات من الكوسا بأربعة آلاف ليرة وثلاث حبات بصل ففوجئت بالسعر وقد وصل لخمسة آلاف تقريباً، واضطررت أن أتخلى عن حبة ليصبح المجموع سبعة آلاف وخمسمئة كي أستطيع شراء الخبز".
لا يمكن تحمل كلفة وجبة الغداء اليومية بالنسبة لكثيرين حيث تقول رغد إنها تخصص يومياً عشرة آلاف ليرة للغداء وغالباً لا تستطيع الحصول عليه وتلجأ لبدائل أقل كلفة، وينسحب هذا الحال على كثير من طلاب الجامعات والموظفين والعائلات الذين يقفون عاجزين أمام أبنائهم لا يستطيعون تدبر معيشتهم وطعامهم، ففي الوقت الذي لا يصل فيه دخل هؤلاء لمئة ألف ليرة، يصل سعر مادة البصل وحدها لستة عشر ألف ليرة وليس لديهم أي خيارات أقل كلفة لتحضير طعامهم.
"الضحك من المأساة"
اللافت في ظل هذه الأزمة، وكما هو الحال دائماً منذ سنوات، تحويل السوريين لأي مأساة إلى مادة مضحكة.
اعتاد السوريون خلال السنوات الماضية الهرب من واقعهم في تحويل أي مشكلة وعجز يواجهونه إلى كوميديا ونكات تجتاح مواقع التواصل في محاولة لتخفيف حجم الضغوط التي يعيشونها، فالبعض يقول إنه بات محتاراً فيما إن خاطبه أحد ما بـ (ما بتسوى عندي قشرة بصلة) هل مدحه أم ذمه؟
وفي مكان آخر أُدرج البصل في قائمة العملات الأجنبية، مرفقين نشرات يومية عن سعر صرف البصل في السوق السوداء وما إن كان عيار 21 (بصل أبيض) أم 24 (بصل أحمر).
ويبقى الواقع أسوأ مما يمكن وصفه، يقول سوريون التقاهم موقع تلفزيون سوريا إن هذه الكوميديا هي محاولة بائسة للتحمل، تحمل ما لا يمكن تحمله في هذه البلاد، ويؤكدون أن العجز طاول الجميع، ما من أحد ناج من أزمة البصل ومما سبقها من أزمات، وأن البيوت السورية تتحول شيئاً فشيئاً لبيوت خالية من مقومات الحياة، مع غياب أي حلول في الأفق.
يقول سامي (مستعار) الشعب السوري يعيش على الانتظار، انتظار الكهرباء والماء ورسائل البطاقة الذكية وانخفاض الأسعار، هناك من يتجول سائلاً كل يوم عن أسعار المواد دون القدرة على شراء شيء، هذه الأزمات الصغيرة المتتالية تتحول لكارثة معيشية لا يبدو أنها ستنتهي في وقت قريب.