لم يلعب نظام بشار الأسد باعتباره جزءاً من "محور المقاومة" أي دور مباشر في الحرب الإسرائيلية المستمرة ضد قطاع غزة، على الصعيد العسكري أو حتى الخطابي كعادته، خلافاً لجميع التوقعات، في ظل محاولات باقي أعضاء المحور الذي أنشأته إيران "ركوب الموجة" بالمشاغلة وتنفيذ هجمات جانبية من دون الذهاب إلى حرب مفتوحة.
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، والتي دخلت شهرها السابع، يتعامل الأسد مع الحدث وكأنه خارج الجغرافيا والمعادلات، ويظهر كأنه يعيش في جزيرة معزولة تفصله عن أرض فلسطين المحتلة "قضية العرب الأولى" مياه وشواطئ بعيدة.
وفي ظل تطور الأحداث الساخنة في المنطقة وظهور معادلة تناوب الرد المتبادل بين إسرائيل وإيران من أراضيهما مباشرة، والمخاوف الدولية من تفجر الأوضاع إلى صراع إقليمي، وتصدر هذه التهديدات رأس الأجندة العالمية، يغيب الأسد عن المشهد، الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة عن أسباب هذا العزوف.
لا شك أن سوريا تحولت، خلال العقد الأخير، مسرحاً لحرب بالوكالة بين إسرائيل المدعومة أميركياً وإيران ووكلائها بالمنطقة للتنافس الإقليمي، وكان من المتوقع إذا اشتد الصراع بينهما أن تلتهب الساحة السورية لحرب طاحنة بين الطرفين.
ووفقاً للتقديرات الإسرائيلية تعد الجبهة مع سوريا خلال الحرب الحالية جبهة خامدة شبه هادئة، خلافاً للتوقعات، التي كانت تدرج سوريا على رأس قائمة أهداف الجيش الإسرائيلي في حال عمل "محور المقاومة والممانعة" الإيراني على تفعيل "وحدة الساحات".
وعدا هجمات وحوادث إطلاق نار محدودة وبسيطة انطلقت من داخل الأراضي السورية ضد إسرائيل نفذتها فصائل فلسطينية أو وكلاء إيران من الميليشيات الطائفية أبرزها "لواء الإمام الحسين" التي أطلقت مسيرة من الجنوب السوري باتجاه إيلات، يبدو نظام الأسد غير مكترث بالانضمام أو المشاركة.
ويبدو أن النظام ينأى بنفسه عن الحرب ويسعى لإرساء معادلة جديدة بعيداً عن "محور المقاومة"، للحفاظ على استقراره "الهش" ولا يرغب في تحويل سوريا إلى جبهة قتال أخرى ضد إسرائيل، نظراً لعجزه وفقدانه القدرة العسكرية التي استهلكها في إخماد الحراك الشعبي والمناطق الثائرة ضده طوال 13 عاماً، أو بسبب فقدانه صلاحية امتلاك قرار المشاركة من عدمه بعد هيمنة روسيا وإيران، والأخيرة ريما تكون هي من طلبت ذلك.
وقال الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله، بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة، "لا نستطيع أن نطلب المزيد من سوريا التي تواجه حرباً كونية منذ 12 عاماً وتخنقها العقوبات الأميركية"، وتبرير نصر الله للأسد يشير إلى توجه إيراني بعدم رغبة طهران بمشاركة سوريا.
الأرجح أن الأسد عاجز ولا يمتلك القدرة العسكرية على المشاركة وجيشه منهك ومهلهل، وهو الذي لم يرد طوال 11 عاماً على هجمات إسرائيل الروتينية والمتكررة والتي تطلق عليها اسم "المعركة بين الحروب"، وقبلها من الضربات التي شهدتها سوريا في العقد الأول من القرن الحالي والتي كان يقابلها النظام بعدم الرد واتباع استراتيجية الرد الكلامي "سيكون الرد في الوقت والزمان المناسبين".
ولكنه في هذه الحرب لم يحرص حتى على الظهور الخطابي وتكرار سردية المقاومة والدفاع عن فلسطين ورفع شعار "جبهة الصمود والتصدي" أو المجاهرة بالعداء لإسرائيل.
في حين، ظهر بشار الأسد وزوجته وأبناؤه وهم يشاركون في موائد إفطار جماعي في الهواء الطلق بمدينة طرطوس الساحلية، في 7 نيسان/أبريل الجاري، أي بعد أيام من استهداف القنصلية الإيرانية في حي المزة وسط دمشق.
يحاول موقع "تلفزيون سوريا" في هذا التقرير رصد عزوف الأسد عن المشاركة، خلافا للتوقعات، وأسبابها والبحث عن الإجابات عبر قراءة المعطيات التي مرت خلال هذه الحرب، وهل هي سياسة جديدة متعمدة، وما هي الأسباب التي تمنعه من ذلك؟
فصل جديد في علاقة نظام الأسد بـ "محور المقاومة"
للوهلة الأولى، يبدو أن نظام الأسد غير مهتم أو معني بالانخراط بالحرب على حساب بقائه وهذا أحد الأسباب "الواقعية" من وجهة نظر براغماتية من قبل النظام، الذي "حرق البلد" للبقاء على الكرسي وأخرج سوريا من جميع المعادلات.
ويمكن حصر عدم تورط الأسد بالحرب بأسباب تتراوح بين العجز أو الإذعان لتهديدات إسرائيل أو الامتثال لتوجيهات إيرانية وربما عدم رغبة من روسيا المنشغلة بأوكرانيا ورفضها تعريض نفوذها في الشرق الأوسط للخطر.
وقد يكون عزوف الأسد نوع من إرساء معادلات جديدة تقوم على استمالة العرب أو التنحي جانباً أو الانحناء أمام العواصف الإقليمية بانتظار أي تسوية دولية في المنطقة تصب في مصلحته وترسخ حكمه.
وهنا يطرح التساؤل هل تخلى بشار الأسد عن فلسطين وإيديولوجية الحكم التي أسسها "الأسد الأب" بأن سوريا دولة مواجهة، ومن ثم انخراط الابن في "محور الممانعة" مطلع القرن الحالي لمناهضة أميركا وإسرائيل.
كما أن الإجابة تتطلب الأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الوضع الداخلي وارتهان النظام السوري لحليفيه روسيا وإيران، مع فقدانه للسيادة على الأرض أو امتلاك قرار الحرب والسلم في البلاد، فضلا عن التعقيدات الجيوسياسية في المنطقة.
بشار الأسد وحرب غزة.. أبرز المحطات والمعطيات
- رسائل التهديد الإسرائيلية
في الأيام الثلاثة الأولى للحرب على غزة أرسلت إسرائيل رسائل تهديد غير مباشرة عبر الوسيط الإماراتي إلى الأسد تحذره من أن التورط بالحرب سيعرض وجوده ودمشق للخطر.
ففي 10 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كشف موقع "أكسيوس" الأميركي، نقلاً عن مصدرين مطلعين على الجهود الدبلوماسية الإماراتية، أن أبو ظبي حذرت الأسد من التدخل في الحرب بين حماس وإسرائيل، أو السماح بشن هجمات على إسرائيل من الأراضي السورية.
كما تحدثت تقارير إعلامية عن أن باريس أيضاً نقلت رسائل مماثلة من إسرائيل عبر الإمارات إلى الأسد.
- الضربات الإسرائيلية
مع بدء الحرب الحالية ازدادت وتيرة الضربات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية في سوريا، ورفعت تل أبيب السقف بالاستهداف المتكرر لشخصيات قيادية بالحرس الثوري، رفيعة المستوى، وقصف مقارهم وسط أحياء مدينة دمشق الراقية والمكتظة، في ضربات أشد وأعنف من تلك التي اعتادت على تنفيذها في سوريا.
وشكل استهداف القنصلية الإيرانية، في مطلع الشهر الجاري، واغتيال الجنرال محمد رضا زاهدي نقطة تحول في قواعد الاشتباك بين تل أبيب وطهران، استوجب ردا من إيران التي نفذت هجوما لأول مرة من أراضيها باتجاه إسرائيل من دون أن توقع خسائر بشرية عدا إصابة طفلة فلسطينية من النقب.
فما هي أبرز الضربات الإسرائيلية في سوريا منذ بدء الحرب على غزة؟
- 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023 ، مقتل رضي موسوي أحد أقدم جنرالات الحرس الثوري في سوريا، بغارة إسرائيلية على منطقة السيدة زينب جنوبي دمشق.
- 20 كانون الثاني/ يناير 2024، مقتل 5 مستشارين عسكريين إيرانيين في هجوم إسرائيلي صاروخي على مبنى سكني في حي "فيلات غربية" في حي المزة غربي دمشق.
- 2 شباط/ فبراير 2024، مقتل مستشار بالحرس الثوري يدعى سعيد علي دادي في غارة إسرائيلية بدمشق.
- 26 آذار/ مارس 2024، مقتل ضابط إيراني برتبة عقيد بهجوم إسرائيلي في دير الزور شرقي سوريا.
- 29 آذار/مارس 2024، ضربات إسرائيلية تستهدف عدة مواقع بمدينة حلب شمال سوريا، وصفت بأنها "الأكثر دموية" أودت بحياة ما لا يقل عن 42 جنديا للنظام ومقاتلا من حزب الله.
- 1 نيسان/أبريل الجاري، استهداف القنصلية الإيرانية الذي أودى بحياة 7 من الحرس الثوري بينهم رضا زاهدي وقيادي آخر.
تجدر الإشارة إلى أن دفاعات النظام الجوية، روسية الصنع، لم تتصدَ للهجمات الإسرائيلية الأخيرة على الرغم من اقترابها بضعة كيلومترات من قصره، على عكس الضربات التي اعتادت إسرائيل على تنفيذها قبل حرب غزة، والتي كانت وكالة أنباء النظام "سانا" تعلن عنها وتورد في الخبر المقتضب "كليشيه" بأن "دفاعاتنا الجوية تصدت لصواريخ العدوان الإسرائيلي وأسقطت معظمها".
تعد سوريا في تعريفات الخطط العسكرية والأمنية في إسرائيل إحدى الجبهات التي تزداد خطورة على أمنها القومي، وتقع في مهام "الدائرة الثانية"، وهي واحد من 3 دوائر رسمية، الأولى هي الجبهات الداخلية مع الفصائل الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة، والثالثة هي إيران التي لا تشاطرها حدود جغرافية.
ويقصد بالدائرة أي غرفة علميات عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي، يتولى قيادتها ضابط رفيع المستوى من مهامه التخطيط لعمليات عسكرية حفاظاً على الأمن القومي.
وتمتلك إسرائيل مزايا في الجبهة السورية تتمثل في "حرية التحرك" واسعة نسبياً مقارنة مع لبنان، نتيجة التنسيق مع الروس، مما يجعل سوريا الساحة الأنسب لتوجيه ضربات أكبر ضد الأصول الإيرانية.
وتسعى تل أبيب لاستغلال هذه الميزة في تسديد ضربات موجعة ضد الحرس الثوري وحزب الله بهدف تقليص قدرات إيران العسكرية وإبعادها عن الحدود مع إسرائيل.
- شبه انعدام للمظاهرات المتضامنة مع غزة في دمشق
عدا مسيرات ووقفات تضامنية محدودة شهدتها العاصمة دمشق وخاصة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين دعماً لغزة، ولا تكاد تذكر مقارنة مع المظاهرات الحاشدة التي شهدتها مدن غربية وعربية.
وفي الوقت الذي تمتلئ فيه شوارع عمان وبغداد وصنعاء والرباط بالمتظاهرين أسبوعياً، وتشهد مدن عالمية مثل نيويورك ولندن اختناقات مرورية وتغلق فيها محطات الميترو، كانت شوارع دمشق تبدو شبه فارغة.
ويعود السبب في ذلك، وفقا لمعظم المطلعين على الشأن السوري، إلى عدم رغبة نظام الأسد لما لديه من "فوبيا المظاهرات" أولاً، وثانيا عدم الرغبة بالمشاركة بالصراع الإقليمي وتخليه عن مناصرة فلسطين بعد أن كان حاملاً للقضية ورافعاً لواءها ومزاوداً على العرب جميعاً.
- المشاركة بالقمة العربية والإسلامية الطارئة
في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، شارك الأسد في القمة العربية والإسلامية الطارئة التي استضافتها المملكة العربية السعودية في العاصمة الرياض، والتي أجمعت فيها 52 دولة على كسر حصار غزة وفرض إدخال قوافل المساعدات والغذاء والدواء والوقود إلى القطاع بشكل فوري.
لم يخف بشار الأسد سعادته بالمشاركة في القمة الطارئة وأثارت صور له تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي الاستهجان وهو ينفجر ضحكاً في الرياض في وقت من المفترض أنه ذهب لمناقشة مأساة غزة.
وتجدر الإشارة إلى أن الأسد يحرص على العودة إلى الحاضنة العربية وتعزيز العلاقات مع المحيط وقد يكون هذا السبب الذي يدفعه إلى انتهاج سياسة فيها نوع من التوازن بالابتعاد نسبياً عن محور إيران لاستمالة الدول العربية طمعاً بمزيد من الاستقرار لحكمه وجلب أموال العرب لإعادة الإعمار وإعادة تأهيله في المنطقة.
ومن اللافت، أن الموقف اللين من قبل نظام الأسد يأتي خلافاً لما فعله في حرب تموز 2006 والتي كان يديرها من الخلف، ووصفه القادة العرب بأنهم "أنصاف رجال".
وخاصة أن مشاركة بشار الأسد، قبل أشهر معدودة من الحرب، في القمة العربية التي انعقدت بمدينة جدة السعودية، في 19 أيار/مايو 2023، هي التي أسدلت الستار على "قطيعة" دامت عقداً من الزمن بين النظام والدول العربية.
"فلسطين هي القضية.. الحديث عن غزة منفردة يضيع البوصلة"!#الأسد يتبجح أمام الحضور في "قمة #الرياض"ويلقي محاضرة في شروط الحرب والسلم مع إسرائيل#تلفزيون_سوريا #نيو_ميديا_سوريا #حرب_غزة #غزة_تُباد pic.twitter.com/YMTz7jSS1H
— تلفزيون سوريا (@syr_television) November 11, 2023
- عدم المشاركة في "يوم القدس"
لم يشارك بشار الأسد في احتفالات "يوم القدس" الإيراني، وكان الوحيد من بين قادة "محور المقاومة" الذي لم يسجل خطاباً إحياء لهذه الذكرى، في الوقت الذي تحدث فيه كل من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، وزعيم الحوثيين في اليمن عبد الملك الحوثي، وممثل للمقاومة الإسلامية في العراق.
كما لم تشهد مخيمات الفلسطينيين بدمشق (مخيم اليرموك) أي مظهر من مظاهر الاحتفاء بهذا اليوم الذي تُرفع فيه عادة صور لخامنئي ونصر الله كما جرت العادة سابقاً.
يذكر أن "يوم القدس العالمي" هو مناسبة إيرانية سنوية، اقترحها لأول مرة المرشد الأعلى السابق الخميني في عام 1979، ويصادف يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، والتي تعرف باسم "الجمعة اليتيمة" أو جمعة الوداع"، وشهدت مدن إيرانية ويمنية مسيرات احتفالاً بهذه المناسبة.
الوضع الداخلي.. الأسد عاجز
على الرغم من الاستقرار النسبي و"الهش" الذي يحظى به نظام الأسد في السنوات الأخيرة إلا أنه يواجه عدداً من التحديات ليس علاقة لها بالحرب في قطاع غزة، وإنما بوضعه الداخلي على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي والأمني.
ما يزال أكثر من ثلث البلاد خارج سيطرته في ظل عجزه العسكري وانهيار جيشه فضلاً عن الارتهان لداعميه الروس والإيرانيين الذين حموا نظامه من السقوط، مما جعله خارج المعادلات العسكرية.
مع ذلك، لم تنقطع الهجمات التي تشنها قوات الأسد وروسيا في شمال غرب سوريا، بالتزامن مع استمرار القصف الإسرائيلي على غزة وعلى أهداف إيرانية داخل سوريا، كما أن تهديدات "داعش" لم تنقطع في مجمل سوريا.
فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية حيث يعيش أكثر من 90 بالمئة من سكان سوريا تحت الفقر، وخاصة في مناطق سيطرته، وفق بيانات من منظمات أممية.
في حين، لا تزال المظاهرات السلمية المناهضة لحكمه مستمرة في محافظة السويداء منذ أكثر من 9 أشهر.
جميع تلك الأسباب تجعل الأسد غير قادر على فتح جبهة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي لم يحدث منذ حرب 1973، ولذلك يفضل الابتعاد عن أي صراع إقليمي.
وذلك على الرغم من أن الحرب في غزة تشكل فرصة له لإعادة انتاج سرديته برفع شعار القضية الفلسطينية لزيادة شعبيته ولصرف الانتباه عن جرائمه وانتهاكاته بحق السوريين والمنطقة التي أغرقها بـ "الكبتاغون".
الاختلاف الإيديولوجي مع حماس
يكمن أحد الأسباب أيضاً، في العلاقة غير المستقرة بين النظام السوري وحركة حماس، التي لم تستأنف علاقاتها رسميا مع الأسد إلا في تشرين الأول/أكتوبر 2022، بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على "القطيعة" على خلفية القمع الوحشي الذي انتهجه الأسد ضد الشعب السوري.
وتزامنت المصالحة التي دفعت بها إيران وحزب الله، مع ظهور ما يعرف اليوم بـ "وحدة الساحات" التي روّج لها محور الممانعة رداً على حركات التطبيع من قبل دول عربية في اتفاقيات إبراهيم في عام 2019 و2020.
وتوجت المصالحة بزيادة وفد حماس إلى دمشق، قبل عام من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وذلك في ظل تغييرات شهدتها قيادة حماس بتولي إسماعيل هنية القيادة السياسية للحركة في الخارج بدلاً عن خالد مشعل الذي انتقد الأسد.
ويرجع مراقبون وخبراء سبب عدم الاستقرار في العلاقة بين دمشق وحماس إلى الاختلاف الايديولوجي، فحماس تنتمي في جذورها الأيديولوجية إلى حركة "الإخوان المسلمين" إحدى أبرز مكونات الإسلام السياسي السني.
غير أن هذه المصالحة لم تدم، وبعد أقل من عام على اتفاق الطرفين تجديد العلاقات بينهما، اتهم النظام السوري، في آب/أغسطس 2023، حماس بالنفاق والغدر، وأكد بشار الأسد أن العلاقات لن تعود إلى الحالة التي كانت عليها قبل 2011.
الوصاية الإيرانية
مرت العلاقة بين نظام الأسد وإيران بمرحلة تحول كبيرة خلال العقد الأخير، من حليف استراتيجي إلى "الوصاية المطلقة" على النظام في دمشق في ظل تغلغل الحرس الثوري ونشر الميليشيات الطائفية في مناطق عدة وواسعة من سوريا.
أسس "الأسد الأب" علاقة متينة مع طهران منذ صعود الخميني إلى الحكم في طهران عام 1979، تمثلت في وقوف سوريا إلى جانب إيران في حربها ضد الشقيقة العراق ودعم الفصائل الشيعية في لبنان، كما حافظ على نوع من التوازن الإقليمي بين إيران والدول العربية التي تخشى الخطر الإيراني.
لكن بعد اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد وتدخل الحرس الثوري لقمع الحراك الشعبي بوحشية، وقلب المعادلة لصالح الأسد الذي بات مرتهناً بالكامل لإيران وروسيا، لدرجة لم تعد طهران تراه حليفها الاستراتيجي وإنما مجرد تابع تحت الوصاية الإيرانية.
أمام هذا الواقع، قد يكون السبب في عزوف بشار الأسد الفاقد للسيادة هو التكتيك أو الطلب من إيران التي لا تريد تعريض نفوذها "غير المسبوق" والواسع في سوريا للخطر، في ظل تنافسها مع روسيا للاستحواذ على البلاد ومقدراتها.
ويبدو أن إيران غير مستعدة للتضحية بأصولها المتجذرة في سوريا لصالح حركة "حماس" والفصائل الفلسطينية، وهي أسست الساحة السورية كممر لنقل السلاح إلى وكيلها القوي في لبنان وقاعدة لوجستية إقليمية في المنطقة العربية.
وكان القرار الإيراني واضحاً من بداية حرب غزة في الحفاظ على وقواعد الاشتباك المضبوطة مع إسرائيل ولم تنخرط بشكل فعلي وحقيقي لصالح قطاع غزة أو حتى ضد هجمات الجيش الإسرائيلي ضد قادة الحرس الثوري بدمشق إلا بعد استهداف قنصليته قبل أسابيع.
وعدا الرد الإيراني، في 13 نيسان/أبريل الجاري، على إسرائيل لم تتخل طهران عما تسميه "صبرها الاستراتيجي" منعاً للذهاب إلى حرب مفتوحة وشاملة مع إسرائيل بعد تشكيل محور مرن من مجموعة من الوكلاء الذين يتمتعون باستقلالية نسبية بالتحرك في لبنان سوريا والعراق واليمن.
وتعلم إيران أن الحرب الشاملة مع إسرائيل لن تخدم مصالحها في ظل الدعم الأميركي والغربي للأخيرة، وخاصة أنها تدرك بأن حليفتها روسيا المنشغلة في أوكرانيا لن تدخل إلى جانبها، كما أن الصين غير مستعدة لذلك.
بناء على ذلك، اتخذت إيران منذ الأسابيع الأولى للحرب الحالية سياسة "ركوب الموجة" وخاصة بعد تأكيد حماس بأن "طوفان الأقصى" كان بقرار وتوقيت فلسطيني من دون التنسيق مع أي أحد مع الحلفاء.
وعليه حاولت طهران الحفاظ على "شعرة معاوية" بين أطماعها التوسعية في الدول العربية وشعار "طريق القدس" الذي يمر من حلب وتعز وبيروت، عبر شن وكلائها هجمات محدودة ضد المصالح الإسرائيلية في الجليل الأعلى والبحر والأحمر.
وكانت إيران تخشى، منذ بداية الحرب، تجاوز "الخطوط الحمراء" ولم تظهر أي علامات على أنها تنوي المشاركة بشكل فعال ومباشر في الحرب ضد إسرائيل.
روسيا تريد إعادة ترتيب الأوراق
لا يمكن استبعاد روسيا عند النظر إلى العلاقة بين نظام الأسد وإيران، ولا تزال اليد العليا لقاعدة حميميم الروسية في الساحل السوري في قرارات النظام العسكرية وجيشه في سوريا.
بدروها، تخشى موسكو التفريط بنفوذها وهيمنتها على سوريا بالدخول في الصراع الإقليمي، أولاً لأنها مرتبطة بعلاقات تنسيق مع إسرائيل أرساها بوتين ونتنياهو في 2018 وكانت موسكو الضامن لعودة جيش الأسد إلى منطقة الجنوب.
وثانياً، انشغال الروس بالقتال المستمر ضد جارتها أوكرانيا، منذ 24 شباط/فبراير 2022، الأمر الذي تحول إلى حرب مفتوحة وصراع مديد مع الغرب الذي يرمي بثقله دعما للأوكرانيين.
وثالثاً، لا بد من أخذ بعين الاعتبار التنافس الروسي الإيراني للهيمنة على سوريا، على الرغم من تنامي التحالف بين طهران وموسكو في الحرب الأوكرانية، وتطلعات موسكو لإعادة هيكلة جيش النظام وإعادة بناء عقيدته القتالية من جيش عقائدي" إلى جيش محترف.
في هذا السياق، ومع اشتداد التصعيد بين إسرائيل وإيران، أجرى نظام الأسد تغييرات داخل القيادات العسكرية في جيشه، على ما يبدو بأنها كانت بطلب روسي.
وفي 22 نيسان/أبريل الجاري، ظهر علي مملوك مستشار رئيس النظام السوري بشار الأسد لشؤون الأمن الوطني، في العاصمة الروسية موسكو، في زيارة مفاجئة في الوقت الذي يتصاعد فيه حدة التوتر في المنطقة.
وذكرت وسائل إعلام روسية، أنّ سكرتير مجلس الأمن الروسي نيقولاي باتروشيف بحث مع علي مملوك في العاصمة الروسية موسكو الوضع في الشرق الأوسط.
التقى مملوك، خلال زيارته لروسيا، بنظرائه من البحرين وسلطنة عمان والعراق على هامش "الاجتماع الدولي الـ12 لمسؤولي القضايا الأمنية رفيعي المستوى" المنعقد برعاية مجلس الأمن الروسي في سان بطرسبورغ الروسية.
أما عسكرياً، ففي الأسبوع الأول من هذا الشهر، أي بعد أيام من استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية بدمشق واغتيال رضا زاهدي، تحدثت حسابات وصفحات إخبارية موالية للنظام عن تعيين اللواء "سهيل الحسن" الملقب بـ "النمر" قائداً للقوات الخاصة وتعيين اللواء صالح عبد الله خلفاً له في قيادة "الفرقة 25" المدعومة من روسيا.
ويعتبر سهيل الحسن من الشخصيات العسكرية الأقرب إلى الروس، حصل على تدريب في روسيا وساهم في إرسال "المرتزقة" لقوات "فاغنر" لخوض الحرب ضد أوكرانيا.
وفي عام 2017 أثنى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيا على الحسن عندما زار سوريا، وقلده في العام التالي وسام "الشجاعة" الروسي بمناسبة عيد النصر.
وبحسب التقارير، فإن تعيين الحسن، المعروف بأنه رجل روسيا داخل قوات النظام، كان بديلا للعميد مضر محمد حيد، الذي تصف مصادر في المعارضة السورية بأنه مقرب من إيران.
وتشكل "القوات الخاصة" إلى جانب ألوية الحرس الجمهوري من "الفرقة الرابعة" التي يقودها شقيق رأس النظام ماهر الأسد والمعروف بارتباطاته وقربه من إيران، قوات النخبة في سوريا المنوط بها حماية العاصمة.
كما أن تعيين سهيل الحسن يعكس استمرار رجحان كفة الروس داخل جيش الأسد على حساب إيران، وخاصة أنه يأتي بعد إيام من هجوم القنصلية.
وفي هذا التوقيت الحرج الذي تمر به إيران ونفوذها في سوريا، تساءل رئيس تحرير صحيفة "الجمهورية الإسلامية"، التي أسسها علي خامنئي عام 1979، لماذا "لا تمنع روسيا، التي تسيطر على المجال الجوي السوري، الضربات الجوية على أهداف إيرانية في سوريا؟".
وبدأت تظهر تساؤلات داخل الأوساط الإيرانية، لماذا لا تمنع أنظمة الدفاع الجوي الروسية في سوريا المتقدمة الضربات الإسرائيلية ضد إيران؟
وذهبت تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي في إيران إلى حد اتهام روسيا ونظام الأسد بالخيانة والتلميح بأن اغتيال رضا زاهدي ربما كان نتيجة معلومات استخباراتية حصلت عليها إسرائيل بمساعدة متعاونين روس وسوريين.
وكان من اللافت، أن موسكو تحاول لعب دور في الصراع المتجدد في الشرق الأوسط، ولكن من دون الدخول في الحرب أو السماح للأسد أو لإيران باستخدام سوريا جبهة قتال ضد إسرائيل.
وتتخذ موسكو موقفاً رافضاً للحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة وحاولت إلى جانب الصين تقديم مشاريع قرار في مجلس الأمن لوقف الحرب، الأمر الذي انعكس على توتر علاقاتها مع تل أبيب.
ومنذ بداية الحرب في قطاع غزة، أظهرت روسيا تغييراً واضحاً في علاقاتها مع إسرائيل، رغم التنسيق الأمني بينهما في سوريا، والذي انتكس في ظل دعم تل أبيب المتنامي لكييف والتماهي مع الموقف الغربي في الحرب شرق أوروبا.
على أرض الميدان، عززت روسيا، خلال الحرب، من وجودها في الجولان السوري، وأقامت نقاط مراقبة في المنطقة الحدودية تحت ذريعة مراقبة قوات النظام باعتبارها الضامن لعودة الأخير إلى المنطقة لمناكفة إسرائيل سياسيا وإبعاد إيران عن مشروع استنساخ تجربة "حزب الله 2" في الجنوب السوري.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، في 18 كانون الثاني/يناير 2024، بدء تسيير دوريات جوية عسكرية على طول خط فض الاشتباك بين سوريا وهضبة الجولان.
مع ذلك، وعلى الرغم من عدم مشاركتها تبقى سوريا صاحبة دور مهم في محور المقاومة نظراً لموقعها الاستراتيجي، فإيران التي أحكمت السيطرة عليها خلال العقد الأخير ونشرت قواتها عبر امتداد البلاد ليس من السهل أن تتخلى عن سوريا التي باتت مرتكزاً مهما للنفوذ الإيراني في المنطقة.