في آذار 2011 خرج السوريون إلى الشوارع للمطالبة بالكرامة ولإنهاء الفساد المستشري، فرد عليهم نظام بشار الأسد بوحشية، وسرعان ما انقلبت الاحتجاجات المدنية إلى حرب شاملة بقيت رحاها تدور طوال 11 عاماً. وخلال تلك الفترة الطويلة، زعمت الجهات الفاعلة الدولية أن لا مجال لحل عسكري بالنسبة لهذا النزاع. وحتى مع تغير ميزان القوة العسكرية على الأرض، تراجعت الجهود الرامية للتفاوض على تسوية سياسية، ولم تتمخض الوساطة التي ترأستها الأمم المتحدة بين نظام الأسد والمعارضة عن أي شيء طوال سنوات.
وبما أن ما يعرف بعملية جنيف قد تقوضت بفعل تعنت نظام الأسد وعرقلته لكل شيء، لذا فقد تحولت تلك العملية إلى شيء شبيه بدبلوماسية الزومبي، لأن ما يبقيها على قيد الحياة ليس التوقعات التي ترى بأنها يمكن أن تتمخض عن أي نتيجة، إنما غياب البدائل، ورفض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التخلي عن الإطار التفاوضي الوحيد الذي قبلت به جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي. ففي كل شهر، يقوم المبعوث الأممي الخاص لسوريا، الذي يشغل منصبه حالياً أحد الدبلوماسيين النرويجيين المخضرمين، وهو غير بيدرسن، بإطلاع مجلس الأمن على آخر المستجدات التي أصبحت مكررة كما هو متوقع لها، حيث يقول: لم نحقق أي تقدم، ولكن ما تزال الفرص أمامنا لنبحث فيها.
بيد أن التفاؤل الحذر الذي يبديه بيدرسن يستحق الثناء، ولكن مهما كانت طموحاته متواضعة، فلم تعد هنالك أي فرصة مهمة لإنقاذ عملية جنيف. فقد عبر المسؤولون الروس عن سخطهم لعدم قدرتهم على انتزاع موقف أنسب من قبل وكيلهم في دمشق. وفي الوقت ذاته، بدأت الدول الإقليمية بعملية تطبيع تدريجية، تقوم على إقامة علاقات دبلوماسية مع نظام الأسد وبدء الحوار معه حول تعزيز التجارة ودعم الاستثمار، الأمر الذي أضعف الدوافع التي كانت موجودة ربما في وقت من الأوقات والتي من شأنها أن تحث الأسد على التعامل بجدية مع عملية جنيف.
ورقة توت لشرعنة الوضع الراهن
لا شك أن محادثات جنيف تعرضت لخلافات مضنية منذ بدايتها، ففي شهر كانون الأول لعام 2015، أي بعد مرور شهرين على التدخل العسكري الروسي لإنقاذ الديكتاتور الأسد في سوريا، تبنى مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2254 الداعي لإقامة انتخابات نزيهة، ووضع دستور جديد، وإقامة حكم يشمل جميع الأطراف وبعيد عن الطائفية يتمتع بثقة الجميع. لقد كان هذا القرار وما يزال أهم أساس واعد بتسوية سياسية، بيد أن هذه التسوية ليست إلا ورقة توت تستر عورة الوضع الراهن عبر شرعنته.
وبما ينسجم مع روح هذا القرار، عمل ستيفان دي ميستورا، الذي شغل منصب بيدرسن قبله بين عامي 2014-2018 على نقل المحادثات البينية السورية نحو اتفاق شامل يعتمد على محاور أربعة وهي: حكومة انتقالية غير طائفية تتمتع بالثقة، ودستور للمستقبل، وانتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة، ودعم جهود مكافحة الإرهاب داخل سوريا.
وعلى الرغم من وجود تحفظات لديهم، وافق معارضو نظام الأسد على إطار العمل الذي قدمه دي ميستورا وشاركوا في المحادثات بنية طيبة، إلا أن الأسد لم يكن يهتم بأي جزء من أجزاء العملية السياسية، إذ وصف في إحدى المرات عضوية سوريا في الأمم المتحدة بأنها: "لعبة نلعبها". وعندما أصبح تأثير التدخل العسكري الروسي أشد وضوحاً، حول مفاوضو النظام تلك العملية إلى مهزلة، كما لم تتم ترجمة الدعم العسكري الروسي للأسد إلى نفوذ سياسي، إذ حتى عندما التزمت روسيا بإبقاء الأسد ونظامه، قامت باستثمار رأسمالها السياسي في عملية دبلوماسية تعتبرها مدخلاً لتسوية سياسية تحظى بقبول دولي والتي من شأنها أن تخفف العقوبات مع الحصول على التمويل اللازم لعملية إعادة الإعمار.
إلا أنه بالرغم من اعتماد الأسد على روسيا، بقي يتعامل مع عملية جنيف باستهتار ممنهج، حيث رفض الخوض فيها كعنصر فاعل، وفي ذلك درس يستفاد منه حول قدرة الوكلاء الضعفاء على مقاومة الضغوطات التي تأتيهم من قبل أولياء نعمتهم من أصحاب القوة والنفوذ.
بذل دي ميستورا كثيرا من الجهود، ولكن مع تحسن الوضع العسكري للنظام، لم يعد الأسد وداعموه الروس يهتمون بالتفاوض على القضايا الكبيرة التي تتصل بالانتقال السياسي والانتخابات المبكرة، ما جعل عملية جنيف تتقلص لتصبح مسألة إصلاحات دستورية. وحتى بعد حدوث ذلك، استغرق الأمر مرور سنة ونصف من الزمان بعد تشكيل "اللجنة الدستورية" قبل عودة المحادثات إلى مجراها، بعدما أصبح بيدرسن المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا.
تصريحات وانسحاب من اللجنة
ومنذ تشكيلها، التقى أعضاء اللجنة الدستورية ست مرات في جنيف دون تحقيق أي تقدم يذكر. ومنذ بدايتها، نجح وفد النظام في حرف المحادثات عن مسارها والمماطلة فيها وتقويضها. إلا أن روسيا حاولت بين الفينة والأخرى أن تضغط على الأسد حتى يتعامل مع تلك العملية بجدية أكبر، غير أن كل محاولاتها باءت بالفشل.
بيد أن تعنت الأسد آتى أكله، كما سبق أن حدث في الماضي مرات كثيرة. إذ مؤخراً، أصبح من الواضح أن موسكو تبدو وكأنها قد تخلت عن عملية جنيف برمتها. فخلال الشهر الماضي، صرح مبعوث الرئاسة الروسية إلى سوريا ألكساندر لافرينتيف بالآتي: "إن سعى أحدهم لهدف كتابة دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس، وحاول من خلال ذلك تغيير السلطة في دمشق، فإن هذا الطريق لن يفضي إلى شيء". وبعد هذا التصريح بمدة قصيرة، أعلن إبراهيم الجباوي أحد الأعضاء الخمسين الممثلين لكتلة المعارضة في اللجنة الدستورية انسحابه منها في مقابلة متلفزة. ثم صرح فيما بعد بأن تصريح المبعوث الروسي: "أكد قناعاتي الموجودة لدي بالأصل، وساعدني على الانسحاب"، وأضاف أنه بات يعتبر اللجنة الدستورية اليوم بلا أي قيمة.
إن الأمر الواضح والمؤلم بالنسبة للتصريحات الروسية وتصريحات النظام في سوريا هو الاعتقاد بأنه لم تعد هنالك أية حاجة لعملية جنيف بوصفها مقدمة للتطبيع بالنسبة لنظام الأسد. بيد أن انفتاح العواصم العربية على دمشق لن يضفي شرعية على الأسد، كما لن يخفف ذلك من وطأة العقوبات عليه ولن يأتي بالدعم الغربي لعملية إعادة إعمار سوريا. ولكن مع التقدم البطيء في عملية التطبيع ومضيها قدماً، وفي حال عودة سوريا لشغل عضويتها الكاملة في الجامعة العربية، عندها قد يكون نظام الأسد قد قطع شوطاً في مجال تقبله على الصعيد الدولي، وفي لومه على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها. وعندها يمكن لروسيا أن تتنفس الصعداء عندما تدرك أنها لن تترأس الدور الساعي لدعم نظام منبوذ وغير مستقر إلى حد بعيد.
دور الأمم المتحدة بعد إنهاء عملية جنيف
إن كانت عملية السلام تمثل على الدوام تمريناً لممارسة قوة الأمل بمرور التجارب، فإنها اليوم قد تقلصت لتصبح مجرد قشرة جوفاء، وشكلاً من أشكال دبلوماسية الزومبي التي تحتاج لمن يخرجها من حالتها التعيسة. إلا أن إنهاء تلك العملية لا يعني بأن الأمم المتحدة ستتحول إلى مجرد متفرج بالنسبة للجهود الساعية للرد على العنف الذي يرتكب بحق جميع المدنيين على يد نظام الأسد. إذ ينبغي للأمم المتحدة من موقعها أن تستثمر أكثر في عمل الآليات التي أوجدتها للسعي وراء محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا، ونخص بالذكر هنا الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي وضعتها الجمعية العمومية لهذا الغرض. كما ينبغي على الأمم المتحدة أن تنظر بشكل جدي في مسألة تشكيل آلية إضافية تركز على مصير الآلاف من المعتقلين والمفقودين، الذين اختفى معظمهم على يد النظام، وبعضهم على يد الجماعات المسلحة المتطرفة.
دور المعارضة بعد إنهاء عملية جنيف
إن إنهاء عملية جنيف قد يسمح للمعارضة السورية بتوجيه اهتمامها لبناء المؤسسات وتحسين الحوكمة ضمن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وإن تحويل تركيزها بهذا الشكل سيساعد على تحسين شرعية المعارضة بين أوساط الداعمين الدوليين، والأهم من ذلك تحسين صورتها في عيون الشعب السوري الذي أصبح ساخطاً بعدما هده الفقر، والذي تدعي المعارضة أنها تمثله.
دور الغرب بعد إنهاء عملية جنيف
ومن جهتها، يتعين على كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الفاعلين الدوليين مواصلة دعم القرار 2254 والإبقاء على سياسات العقوبات الحالية، والعمل بفاعلية أكبر لمنع التطبيع مع نظام الأسد، وتشجيع العمليات القضائية بموجب مبدأ الولاية القضائية الشاملة، ودعم السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ومساعدتهم على حكم أنفسهم بشكل مستدام أكثر.
ولذلك، فإن ما ستفعله عملية جنيف في حال انتهائها هو تغيير مشهد الدبلوماسية في سوريا، ومن شأن هذه الخطوة أن تستبعد إطار العمل الذي تحول إلى عقبة لا تؤدي إلا لنتائج عكسية لهذه العملية. كما أن إنهاء عملية جنيف يمكن أن يطرح وسيلة بديلة أمام الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الأخرى وذلك لرسم شكل النتيجة التي تمخض عنها النزاع السوري، إلى جانب توفير قدر من العدالة لضحايا النظام، والمساهمة بترسيخ استقرار الشعب السوري وأمنه على مدى أطول .
المصدر: بروكينغز