من جديد يعود ملف إعادة اللاجئين السوريين من لبنان إلى بلادهم، وذلك عقب الخطة المتعثرة التي تبناها سابقاً جهاز الأمن العام اللبناني لإعادتهم، وتوقفت بناءً على مجموعة مسارات أهمها عدم تفاعل اللاجئين معها بكونها عملية إعادة قسرية من دون ضمانات أمنية، كذلك فإن الضغط الذي مارسته مفوضية اللاجئين والدول الكبرى أوقف الاندفاعة اللبنانية التي تحمل في طياتها نوايا ابتزاز مالية وسياسية.
باسيل وابتزاز الجهات المانحة
لذا فإن تصعيد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل من مواقفه حول الوجود السوري في لبنان وذلك من على منبر المؤتمر الذي نظمه تياره في فندق "لو رويال" عن آثار النزوح السوري على لبنان بعنوان "لن نتخلّى عن أحد"، في حين لم يكن مفاجئاً مشاركة وزير الخارجية الهنغاري بيتر سيارتو، وهو صاحب نظرية "تطهير أوروبا من المهاجرين"، حيث يفتخر باسيل وسيارتو أنهما أصدقاء "تجمعهما نفس الهواجس والمنطلقات".
بدء المؤتمر الذي يعقده التيار الوطني الحر حول أزمة النزوح السوري تحت عنوان"لن نتخلى عن أحد" بكلمة لرئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل pic.twitter.com/dVd8VOmIzg
— التيار الوطني الحر - FPM (@tayyar_official) January 12, 2023
وسعى التيار في مؤتمره إلى إبراز أرقام متعلقة باللجوء السوري وذلك على لسان مسؤول رسمي وهو ممثل المديريّة العامّة للأمن العام المقدّم إيلي عون، والذي ربط نسب بعض الجرائم بأن غالبية المتهمين فيها من السوريين، منطلقاً من أرقام غير علمية تقول إن 75% من الموقوفين في جرائم السلب هم من الجنسية السورية.
كذلك ربط جرائم الإرهاب باللاجئ السوري عبر القول إن 46% من السجناء في المبنى "ب" في سجن رومية المُخصّص للموقوفين المتهمين بدعاوى الإرهاب سوريون أيضاً، في حين أن المؤشرات العلمية الحقيقية التي غاب عن منظمي المؤتمر الإشارة إليها أن مسؤولية انهيار الأمن الاجتماعي تتحمل مسؤوليته المنظومة السياسية والتي أدت سياساتها النقدية والاقتصادية إلى الإفلاس المالي.
كذلك فإن العديد من المتابعين يعتقد أن مواقف باسيل وفريقه السياسي ليست ذا قيمة سياسية انطلاقاً من أن وزراء التيار الذين تعاقبوا على وزارات خدماتية استفادت من الأموال والهبات المقدمة لمخيمات اللجوء، كذلك فضيحة النهب المنظم لأموال التعليم الآتية للطلاب السوريين في لبنان من خلال وزارة التربية في عهد الوزير إلياس بو صعب القيادي في تيار باسيل.
تمايز داخلي وانفتاح خارجي
بالتوازي فإن المواقف التصعيدية لباسيل في ملف اللجوء السوري، والتي عقد لأجلها مؤتمراً كبيراً هذه المرة، لا تنفصل عن مساعي الرجل للضغط في كل الاتجاهات في ظل أزمته مع رئيس حكومة تصريف الأعمال حول دستورية انعقاد الحكومة، والتوتر الحاصل بينه وبين حزب الله على خلفية الملفين الرئاسي والحكومي.
وثمة اعتقاد داخلي أن باسيل يحاول من خلال هذا المسار، المزايدة على باقي الأطراف المسيحية وتحديداً حزبي القوات اللبنانية والكتائب للقول إنه الوحيد الذي يتصدى لما أسماه "تغيير النسيج الديموغرافي وضرب الهويات الوطنية، واستغلال ضحايا لعبة الأمم على طاولة رسم الخرائط والمصالح العالمية"، وهذا الموقف يتزامن مع حملة إعلامية يخوضها التيار العوني لمحاصرة الوجود السوري ودفعه للعودة من دون ضمانات أمنية.
تسويق نفسه كمرجعية مسيحية تحمل لواء حماية الحضور المسيحي في لبنان والشرق، بعد أن تحولت صورته الخارجية خلال السنوات الماضية إلى "أداة حزب الله المسيحية"
كذلك يسعى باسيل إلى إعادة مخاطبة اليمين المتصاعد في أوروبا والعالم للحديث عن خطر يواجه آخر قلاع الحضور المسيحي في المشرق أولاً عبر الوجود الفلسطيني، وثانياً من خلال تصوير اللجوء السوري في لبنان على أنه مخطط لاقتلاع المسيحيين وتهجيرهم إلى الغرب.
وهذا الخطاب يجري تسعيره ومن ثم سيعمل باسيل على استغلال هذا الملف لإجراء جولة أوروبية لنقاش ورقة عمل يحضرها تياره، بهدف إعادة تسويق نفسه كمرجعية مسيحية تحمل لواء حماية الحضور المسيحي في لبنان والشرق، بعد أن تحولت صورته الخارجية خلال السنوات الماضية إلى "أداة حزب الله المسيحية"، وهذا المسار أدى إلى عزله على كل المستويات الدولية وتحديداً في أوروبا.
علاقة مستجدة مع أنقرة
بالمقابل كان لافتاً مشاركة وفد رسمي تركي في مؤتمر التيار المخصص للحديث عن الوجود السوري، حيث حضر ممثل وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو والمدير العام للهجرة في تركيا فهري توركار أوبا مع وفد استشاري ودبلوماسي تركي، حيث دعا الضيف التركي المجتمع الدولي إلى "أن تكون هناك مشاطرة عادلة لهذا الحمل، وعلى البلدان المتطورة أن تفتح أبوابها أمام هؤلاء النازحين ووضع السياسات لكي نواجه النزوح غير الشرعي".
وهذه المشاركة التركية طرحت تساؤلات عن ماهية العلاقة المستجدة بين باسيل والقيادة التركية، والتي كان يتهمها باسيل خلال السنوات الماضية بالعبث بالأمن اللبناني والتوغل السياسي في شمالي لبنان لأهداف توسعية.
من أجواء المؤتمر الذي بعقده التيار الوطني الحر حول ملف النزوح السوري، كلمة لمعالي وزير الخارجية التركي ممثّلًا بالسيد فهري تركي أوبا نائب المدير العام للهجرة#لن_نتخلى_عن_احد
— التيار الوطني الحر - FPM (@tayyar_official) January 12, 2023
#no_one_left_behind pic.twitter.com/TOmlTBtltw
وتتقاطع المعلومات عن أن الاتصالات بين باسيل والمسؤولين الأتراك بدأت منذ سنة وشهرين، وهذه العلاقة دشنها باسيل بلقاء سابق مع وزير الخارجية التركي في آخر زيارة له لبيروت، حيث أبلغه رغبة ذاتية وسياسية بضرورة نشوء علاقة تربط تياره بالحزب الحاكم في أنقرة للاستفادة من التجربة التركية في ملفي التنمية واللاجئين.
كذلك فإن باسيل كان قد عرض سابقاً على ضيفه التركي أن يساهم في أي حوار سوري - تركي مستقبلي، لكن المسؤول التركي تساءل حينئذ عن حقيقة العلاقة بين عهد عون وباسيل مع النظام في سوريا وخاصة أن النظام السوري أرسل إشارات تشير إلى حالة البرودة مع عون لأسباب متعلقة بطبيعة التنسيق وتنصل عون وباسيل من زيارة دمشق ولقاء الأسد.
رغبة في الخروج من العزلة.. تودد باسيل لتركيا
وبحسب المعلومات فإن باسيل زار أنقرة منذ مدة، بهدف تطوير العلاقة بين الجانبين، حيث التقى مسؤولين دبلوماسيين وأمنيين في البلاد، ودار نقاش عن أهمية الدور الذي قد تلعبه أنقرة مع أطراف إقليمية لخروج لبنان من النفق المظلم، كذلك فإن باسيل أكد للمسؤولين الأتراك أنه يجري إعادة تقييم لاتفاق "مار مخايل" مع حزب الله، وأنه بطور إعادة ترتيب علاقاته الداخلية مع كل الأطراف بمن فيهم "المكون السني" الذي يعيش حالة فراغ سياسي.
وشرح باسيل أسباب الهجمة الممنهجة التي استهدفت تركيا في لبنان في مراحل سابقة، مبرراً ذلك على أنها هواجس كان يعيشها فريقه السياسي خلال مرحلة الحراك الشعبي الذي استهدفه مباشرة، وتبين فيما بعد على أنها مبالغات استفادت منها دول إقليمية لحسابات الصراع حينئذ مع تركيا وقطر، وهذه الحسابات وفقاً لما يقوله باسيل، ساهمت فيها أجهزة أمنية لبنانية كانت تزود الحكومة والرئاسة بها.
ومن هنا يشير مرجع سياسي مطلع أنه وفي إطار سياسة الأبواب المفتوحة التي تنتهجها أنقرة منذ مدة، استقبل الأتراك باسيل والذي تحدث عن استثمارات لرجال الأعمال المسيحيين في تركيا والتي تعزز العلاقة وترفعها إلى مستويات رفيعة يمكن التعويل عليها مستقبلاً.
لكن المسؤولين في أنقرة صارحوا باسيل أن الملف اللبناني برمته ليس على الخريطة التركية وهي تتحرك في لبنان في إطارات تنموية وإغاثية بهدف مساعدة العناصر الأمنية اللبنانية، انطلاقاً من قاعدة تركية تقول إن استقرار دول المحيط يخدم الأمن القومي لتركيا.
وأشار المسؤولون أن حضورهم في لبنان يرتكز على دعم صمود اللبنانيين ومساعدتهم قدر الإمكان، وأنهم كانوا قد عرضوا على المسؤولين في الحكومة مساهمة تركيا في إحياء قطاعات حيوية في البلاد، كفكرة إعادة إنشاء وتشغيل سكة القطار الساحلي الموصول بسوريا ومن ثم وصله بالجغرافيا التركية عقب انتهاء الأزمة في سوريا.
بالإضافة إلى مشاريع في قطاعات الكهرباء وإنشاء معامل التغذية الكهربائية، ومساعدة لبنان في أزمة والنفايات الصلبة وحرائق الغابات، لكن المسؤولين اللبنانيين لم يعيروها اهتماماً لحسابات طائفية وسياسية.
كذلك كان الموقف التركي واضحاً مع باسيل لناحية التعاطي مع كل الأطراف اللبنانية بنظرة واحدة، من دون الدخول في زواريب السياسة وتشعباتها حتى مع أقرب المقربين لأنقرة على المستوى الأيديولوجي والسياسي.
وأشار المسؤولون الأتراك إلى أن مقاربة ملف اللاجئين في تركيا، تختلف جذرياً عن المقاربة اليمينية اللبنانية، لذا فإن موقف الموفد التركي لمؤتمر باسيل أمس كان واضحاً أن أي حل في ملف اللجوء يقتضي التزام النظام السوري بصيغة الورقة الدولية بإنشاء مناطق آمنة ريثما تضع الحرب أوزارها.
ويعتقد المصدر السياسي اللبناني أن سياسة باسيل للخروج من عزلته غير واقعية لمجموعة أسباب، أهمها حاجته الفعلية لحزب الله كفريق قوي يمسك بالملف اللبناني وحيثياته، كذلك فإن خطاب باسيل القائم على العنصرية الطائفية لا يمكن أن يساعده في اجتذاب التحالفات في ساحات أخرى، على الرغم من فتحه لثغرة في جدار علاقاته الخارجية، وتحديداً مع السعودية أخيراً والتي تحاور باسيل بعيداً عن الإعلام والأعين السياسية.