انكسار الربيع العربي والعدمية الطاغية

2024.11.06 | 07:01 دمشق

516666
+A
حجم الخط
-A

ما إن بدأت أولى تباشير الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا حتى اشتعلت آمال الشباب ببدء قطار التغيير في سوريا، الذي ظن الناظر إليه أنه ما إن ينطلق حتى تتساقط أحجار الدومينو في العالم العربي، ويبدأ تاريخ جديد، في متنه الحرية والعدالة والديمقراطية وفي هامشه الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، كما حلم بها الشباب لسنوات طوال.

وسرعان ما نزل الشباب إلى الميادين والساحات واكتظت بهم النوادي والمقاهي، يتظاهرون ويتابعون ويحلمون بكيفية تهاوي الديكتاتورية التي حكمت وأسست لحكم لا يزول. اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالأخبار والفيديوهات والصور التي تنقل الحدث لحظة بلحظة، في فوران وغليان وبهجة غير مسبوقة. كانت تلك الأحلام والتطلعات منسجمة مع سرعة تهاوي ثلاث أنظمة عربية خلال أسابيع.

لم تدم هذه الآمال الوردية طويلاً، فسرعان ما اغتيلت تلك الأحلام وأتت الثورات المضادة على كل أخضر ويابس من هذا الربيع الذي لم تكد براعمه تتفتح. ولنا أن نتخيل الخيبات التي أعقبت هذا الارتداد، وبما أن الخيبة تتناسب طردياً مع حجم الآمال المتخيلة، فقد كانت خيبة الشباب العربي في ذروتها. تعددت تلك الخيبات بدءاً من الأنظمة التي تحالفت لوأد هذا الربيع في مهده، مروراً بممثلي تلك الثورات الذين لم يكونوا على مستوى الحدث، وكان بعضهم ينافس الأنظمة الفاسدة في الإضرار بالثورة التي مثلها، انتهاءً بخيبة الشباب في الشطر الأكبر من الطبقة المثقفة التي تصف نفسها بالنخبة، والتي تعرّى عجزها عن مواكبة الجموع الثائرة والارتقاء إلى مستوى تضحياتهم وتطلعاتهم.

هذا الحد من العدمية السياسية وربما القيمية الذي بلغه شطر واسع من شباب اليوم، يمكن وصفه بأنه ارتياب عميق متجذر في النفس تجاه قيم الحياة وجوهرها، تلك القيم التي تبقي الإنسان فاعلاً إيجابياً في معركة البقاء وفي ساحة الصراع بين الخير والشر، متمسكاً بالقيم المعيارية والجمالية للحياة.

لم تكن الخيبة والخسارة التي مني بها جيل الشباب من الخسارات التي يمكن تعويضها أو تلافي آثارها، فالشطر الأكبر منهم هُجّر من بيته ومدينته وفقد محيطه الاجتماعي وبيئته الحاضنة، وتفككت أسرته وصار رقماً هشاً تتقاذفه المعابر والحدود ومدن اللجوء، محروماً من فرص العمل المستقرة ويعيش إحساساً عميقاً بالغربة بل بالضياع. صار كل ما حصّله من دراسة في بلده الأم غير ذي قيمة، وعليه أن يبدأ من جديد في بلد يستقبله على مضض وربما لن يسمح له بعد سنوات بالبقاء فيه. حاضر بائس ومستقبل قاتم، كل هذا راكم لدى شريحة واسعة من الشباب مشاعر سلبية تتمحور حول طغيان الخيبة وفقدان الأمل والإحساس بالاستلاب وضياع البوصلة، والغضب المستمر والشعور بالإذلال والإحباط واللاجدوى وعبثية الحياة.

كل ما سبق يشكّل البيئة المثلى لشخص انعزالي يرفض الانخراط بالشأن العام وينكفئ إلى عالمه الداخلي واهتماماته الشخصية، خاصة أن شطراً كبيراً ممن هاجروا بات همهم الأوحد الحفاظ على توازنهم النفسي لتلبية الاحتياجات الأساسية التي بالكاد يحصلون عليها في وظيفة متاحة هنا أو هناك.

أما الشباب الذين لم تسمح لهم ظروفهم بمغادرة البلاد، فمعاناتهم أشد وطأة وخيباتهم أكبر. ربما تتمركز أحلامهم حول بقائهم أحياء بعيداً عن القتل والاعتقال والعوز المادي، مع افتقار حياتهم لكثير من مقومات الحياة العادية في حدودها الدنيا، وكثيراً ما تضطرهم قسوة الظروف وفساد البيئة إلى الجنوح نحو الجريمة أو احتراف الفساد كمهرب أو سبيل وحيد للبقاء.

لسنوات طويلة، عاش هؤلاء الشباب حلم الديمقراطية الوردي بنموذجه الأوروبي، لكن التجربة المريرة التي خبروها وهم يشهدون كيف تنصلت الأنظمة الغربية "حارسة حقوق الإنسان" من مسؤوليتها الأخلاقية في وقف المذبحة السورية المستمرة، وكيف أُهملت أرواح أطفال الغوطة والحولة والبيضا وغيرهم كثير، وكيف ميّعت قضية الشعب السوري في أروقة الأمم المتحدة بين قلق وحذر واستنكار وشجب وإدانة، وسلال ومربعات وأولويات مختلقة؛ كل ذلك أفقد هذا الشباب إيمانه بأي قيمة يمكن أن يتحدث بها سياسي أو مفكر أو إعلامي. أصبح حالهم أشبه بحال الشباب الأوروبي الحانق الذي تمرد مطلع القرن العشرين ورفع شعاره "أبصق عليكِ يا أوروبا". هذا الحد من العدمية السياسية وربما القيمية الذي بلغه شطر واسع من شباب اليوم، يمكن وصفه بأنه ارتياب عميق متجذر في النفس تجاه قيم الحياة وجوهرها، تلك القيم التي تبقي الإنسان فاعلاً إيجابياً في معركة البقاء وفي ساحة الصراع بين الخير والشر، متمسكاً بالقيم المعيارية والجمالية للحياة. كل هذا يدفع في أحد أوجهه للتغني بالماضي ووصفه "بالزمن الجميل" الذي كان أهله دائمي الشكوى والتبرم منه، كمن ينظر إلى صورة فلاح يحرث الحقل وقد اختلط عرقه بتراب الأرض، فيجدها غاية في الجمال الطبيعي، بينما كان صاحب الصورة يعاني الأمرين.

هذا الوضع مشابه لحال الشباب في بداية الربيع العربي، الذي انتهت فيه الجولة الأولى بهزيمة الشعب وانكسار آلهة الرعب الحاكمة، لكن الحياة جولات، ولا سبيل لإيقاف نهر الحياة الهادر.

لدينا اليوم شباب يشعرون بالاشمئزاز من الأفكار التي آمنوا بها في زمن سابق، بل يشعرون بفداحة الخسارة والغدر والخيانة التي تعرضوا لها من أصحاب تلك الأفكار والاتجاهات، وحل محل كل ما هو قيّم من الماضي يأس وارتباك وضياع هوية وعدمية راسخة كالجبال في نفوسهم.

يرفضون أي اتجاه فكري أو سياسي، وربما وجد بعضهم خلاصه في مناخ ديني منغلق لا يعنى بشؤون الحياة، مع إيمان عميق باستحالة التغيير. حتى فكرة التغيير على المدى البعيد لم تعد تغري الغالبية منهم، لأنهم يبحثون عن تغيير يعيشونه بأنفسهم وقد دفعوا ثمنه، وليس تغييراً يستفيد منه أحفادهم أو الأجيال القادمة. كل هذا سيكون قوة مضافة للأنظمة الديكتاتورية التي أسهمت بشكل منهجي في تشكيل هذه الصورة القاتمة، حيث أصبح مجرد التفكير في الثورة أو الخروج على الطاغية أو السعي إلى التغيير والمطالبة بالحد الأدنى من الحقوق ضرباً من ضروب الانتحار. ويكفي أن نجري جولة خاطفة في مواقع التواصل الاجتماعي لنكتشف ذلك الكم الهائل من العدمية واللامبالاة.

ورغم كل ما يبدو من قتامة المشهد، فليس هذا هو نهاية التاريخ، فقد قدم التاريخ الإنساني عشرات التجارب الناجحة، بل والمدهشة، التي تتغير فيها الظروف الموضوعية رغم ثبات الواقع القسري. تتبدل فيها المعادلات السياسية والاجتماعية بمعزل عن إرادات أصحاب القرار والمتنفذين، ليخلق واقعاً جديداً سرعان ما يحرّض لدى هؤلاء الشباب استجابات لم يكن يتصورها أحد في زمن مضى. هذا الوضع مشابه لحال الشباب في بداية الربيع العربي، الذي انتهت فيه الجولة الأولى بهزيمة الشعب وانكسار آلهة الرعب الحاكمة، لكن الحياة جولات، ولا سبيل لإيقاف نهر الحياة الهادر.