icon
التغطية الحية

المقولات الثقافيّة في كتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر"

2022.09.25 | 16:09 دمشق

تاريخ
+A
حجم الخط
-A

النهاية فكرة مركزية في المقولات الدينية، فهي غاية السيرورة الاجتماعيّة وموعد العدل الإلهي بالنسبة إلى المؤمنين.

بالتوازي مع الفكر المؤمن فقد يكون "القلق الوجودي" محفّزاً مهمّاً دفع الإنسان إلى الاستعانة بالعلم المادي في محاولة فهم أصل الكائن الحي، وتفسير حاضره وتصور مستقبله. فمارس الإنسان جملة من المعارف المتراكمة والتجارب المتعدّدة الفرديّة أو الأمميّة في أقصى أبعادها.

بنحو هذا المنطق المادي تناول فرانسيس فوكوياما موضوع كتابه: نهاية التاريخ وخاتم البشر ("نهاية التاريخ والإنسان الأخير" بحسب ترجمات كثيرة أخرى) الصادر عام 1992. بعد أن استدعى المؤلّف سؤالاً للفيلسوف كانط: "هل يمكن أن يُكتب تاريخ عالمي؟".

اعتقد فوكوياما أن الفيلسوف الألماني هيجل أقدم على كتابة تاريخ عالمي للبشريّة، لا عبر كتابة أحداث التاريخ كاملة، إنما عبر بناء تصور عامٍ  وشاملٍ عن "الإنسان بوصفه إنساناً" فمنهج الديالكتيك الاجتماعي الهيجلي يمكنه -في المحصّلة- كتابة تاريخ الأحداث، أو التصورات عنها.

خلال كتاب فوكوياما نجد أن هيجل قد استند إلى مقولة قديمة لأفلاطون تُقسم النفس الإنسانية إلى: العقل (مركزه الرأس)، والثيموس (مركزه الصدر)، والرغبة المرتبطة بالحاجات العضويّة (مركزها الأعضاء المخصصة لها).

ثمّ استند البناء الفلسفي الهيجلي، في قسم كبير منه، على الثيموس، التي تعني عند أفلاطون: "تعطّش الإنسان إلى المجد". وعند هوبز: "الكبرياء والغرور". وعند روسو: "الأنانيّة". وعند هاملتون: "حب الشهرة". وجيمس ماديسون "الطموح". ونيتشة "الوحش ذو الخدّين...". أما عند هيغل، فمنها تنطلق رغبة الإنسان إلى "نيل اعتراف الآخر بقدره، وهي التي تدفع الإنسان للقيام بأفعال يتوسّل الإنسانُ من ورائها (القيمة)".

الرغبة بالاعتراف وتقدير الذّات والتقييم والعمل... كلّها مقولات مركزيّة في فلسفة هيجل لكن جميعها تمر عبر "الثيموس".

والجدير ذكره أنّ الرغبة الثيموسيّة، التي يريدها هيجل ويبني عليها فوكوياما نظريّته، هي غير تلك التي قصدها أفلاطون والمرتبطة بالحاجات العضوية الأوليّة كالرغبة في الطعام أو الشراب. بل يريد هيغل بالرغبة الثيموسيّة الإشارة إلى ما قد تدفع الإنسان إلى الامتناع عن الطعام والشرب، رغم الجوع والعطش، طلباً لـ "الإحساس بالكرامة". وهذا الثيموس يمكن أن يكون فرديّاً أو جمعيّاً.

إذاً فالثيموس "إحساس فطري بالعدل" يضفي القيمة على الأشياء، الذات وغير الذات. لكن الممارسة الأخلاقيّة الناجمة عن تقييم  ثيموس الفرد قد لا تكون متوافقة مع تقييم الثيموسات لدى الآخرين. وخاصّة في موضوعة "تقدير الذّات"، فتنشأ "الرغبة بالاعتراف" كنشاط صادر عن ثيموس يطلب أن يشاركه وعي الآخر نفس التقييم.

فالتقدير ليس شيئاً كـ (التفاحة) وإنما هو حالة خاصة بالوعي لا بد أن يعترف بها وعي آخر حتّى نتيقّن من إحساسنا بقيمتنا. وهنا يبرز لنا مصطلحان اثنان:

1- الميجالوثيميا: أو المبالغة في تقدير الذات، والرغبة بالتفوّق على الآخرين.

2- الإيسوثيميا أو التعادليّة: الرغبة في نيل الاعتراف بالمساواة.

أمّا الطموح  "الميجالوثيمي الأرستقراطي" في الدولة الديمقراطيّة الليبراليّة فلم يجرِ كبته، أو كسر إرادته، وإلّا لتحوّل المجتمع إلى "أناس لا صدور لهم"، كما يقول نيتشة في إطار نقده للمجتمع الليبرالي الديمقراطي. بل تم التعامل مع نشاط الثيموس بفتح المجال له ليحقق إشباعا عبر نوافذ مثل التجارة "السوق الحرّة"، أو عبر الرياضة، أو الفن، وعبر السياسة الخارجيّة.

على نحو مختصر فإنّ هذا هو المنطق النظري لوعي "فوكوياما" الذي استخلص منه المقولات الثقافيّة في مؤلّفه "نهاية التاريخ وخاتم البشر" وهي المقولات التي سوف تدور حولها معظم مؤلّفات فوكوياما الأخرى. وقد تعمدّنا تقديم الإطار النظري ليسهل على القارئ الكريم الدخول إلى وعي هيجل لسيرورة التاريخ الاجتماعي عبر نموذج "المعركة بين السيد والعبد".

بحسب هيجل فإنّ المعركة بينهما حتميّة. ويحصل السيد على حريّته بعد المخاطرة بحياته متمثّلا  بذلك "نشاط الميجالوثيميا في الثيموس". بينما يخاف العبد من المخاطرة متأثّراً ومعبّراً عن "نشاط الإيسوثيميا في الثيموس".

ثيموس السيد لا يجد إشباعاً من اعتراف "عبد" فيرغب في أن يتحرّر العبد، أمّا العبد "فيستعيد إنسانيّته بالعمل" ويمارس نشاط "الميجالوثيميا" في العمل فيسود على الطبيعة، ويحقق حريّته من خلالها.

يذكر فوكوياما: "كانت الرغبة المستمرة لدى العبد في نيل الاعتراف هي المحرّك الذي دفع التاريخ إلى الأمام لا رضا السيد الخامل عن نفسه وفكرته الجامدة عنها".

لكن ما الفرق بين العمل الذي مصدره الرغبة لسد الحاجات الأوليّة، وبين العمل الصّادر عن تحريض  الميجالوثيميا؟

الفرق بين العملين هو أن العمل الصادر عن الثيموس يتجاوز عائده المادي، إلى الإبداع والإتقان، وبه يتحرّر العبد، "فالعبد أكثر إحساساً من السيّد تجاه الحريّة لأنّه عانى للحصول عليها، والحضارة والاختراعات والإبداع إنما هي أشياء أنجزها العبيد لا السادة".

 وفي أثر البعد الثقافي على عمل الثيموس تناول فوكوياما  المسألة في إطار حديثه عن شعوب كـ (اليابان، أو الأرمن، أو الألمان...) مشهورون ليس بالعمل فقط  بل وبإتقان ومهارة العمل أيضاً.

وفي البعد الثقافي ذاته ذكر فوكوياما أنّ المسيحيّة أول أيديولوجيّات العبيد كثقافة مساواة أمام الله، ثم جاءت الثورة الفرنسيّة التي حرّضت "روح العالم" ليس من خلال حريّة سماويّة فحسب بل أرضيّة ممكنة أيضاً، كما طرحت مبدأ "المساواة".

درس فوكوياما العلاقات الجدلية بين الثقافة والاقتصاد وأثر التصنيع في بناء نمط علاقات جديدة، وبين الحريّة الليبراليّة والديمقراطيّة المستندة إلى مبدأ المساواة وطرحَي هيجل: "تقدير الذّات، والرغبة بالاعتراف"، وتساءل في ثنايا الكتاب عن إمكانيّة توفر ليبرالية اقتصاديّة دون توفر ديمقراطيّة!

ولتحليل ذلك عاد مجدّدا إلى نموذج هيجل: فممارسة الليبراليّة الاقتصاديّة دون حريّة الأفراد قادر على يخلق ثيموسا طموحاً "ميجالوثيميا" يمارس الاستبداد الداخلي من طرف، ويشكّل خطراً عالميّاً من طرف آخر ويطرح فوكوياما عدة نماذج لتلك الحالة منها: ألمانيا النازيّة.

أمّا على نطاق الثقافة فغالباً ما يُبنى الميجالوثيميا الجمعي على أيديولوجيا عِرقية أو دينيّة أو اشتراكيّة.. وقد يُوهِمُ النجاحُ الاقتصادي، على مستوى الدّولة، أصحاب تلك الثقافة بأنّ النجاح متأتٍ من ميزات فريدة تحوزها ثقافتهم المحلّيّة دون سواها فيزدادون تمسّكاً بهويّاتهم الثقافيّة وانغلاقاً عليها.

إذاً فالتاريخ الاجتماعي ما هو إلّا جملة معارك ثيموسيّة متوالية غايتها إشباع الثيموس، وما توالي الحضارات وسقوط واحدة وبزوغ أخرى إلا لاحتواء الحضارة المنهارة على تناقض ثيموسي.. حتّى وصل الثيموس حدّ الإشباع في نموذج "الدولة الديمقراطية الليبراليّة"، فوصل الإنسان إلى نهاية الأنماط البشريّة وذروتها.

هذه النهاية توصّل إليها فوكوياما عبر مسارين تطوّريّين كما يذكر:

  • مسار العلوم الطبيعيّة، التراكميّة، التي لا يمكن أن تفنيها حتّى كارثة بحجم الحرب النّوويّة.
  • مسار تاريخي "ديالكتيكي هيغلي"، انتهى إلى أن "الدولة الليبراليّة الديمقراطيّة" والتاريخ لا يعود إلى الخلف.

وعند نهاية الأنماط قسّم فوكوياما العالم إلى:

  • عالم ما بعد تاريخي. يتنافس من خلال الاقتصاد، إذ كان قد أعدّ لطموح الميجالوثيميا منافذ كالتجارة، الرياضة، الفن ... أو الحرب الخارجيّة .
  • عالم تاريخي، لابد له من بلوغ التحديث الصناعي وممارسة الدولة القوميّة واستخدام القوّة لحل خلافاته.

وسيبقى العالمان منفصلان لا يلتقيان، وقد يصطدمان حول محاور معينة كالنفط، و(الهجرة)، ومنع وصول تكنولوجيا معيّنة (نوويّة أو كيميائيّة أو بيولوجيّة...) إلى العالم التاريخي لأن هذه الدول معرّضة لتشهد أعمال عنف.