أدى الاستعصاء المديد للمسألة السورية إلى شيوع أحاسيس مضطربة لدى جمهورها الثائر على وجه الخصوص، بعد عقد من التقلب بين الأمل، الذي يتعلق بقشة كل مرة، وبين الإحباط الذي غالباً ما كان ختام الجولة التي تكرر إيقاعها في دورات عديدة وإن تنوعت التفاصيل.
وقد نتجت عن هذا الترويض القاسي، الذي لم يقصده أحد، آثار كبرى تبدأ بانخفاض القدرة على تحليل مشهد بات معقداً بكل حال، وتصل إلى نظرة عدمية للذات والوضع والعالم، مما يشكل أرضاً خصبة لنمو المظلومية وترعرع القسوة المضادة والاستسلام إلى العيش المؤقت.
ربما يكون الشمال المحرر الحاضنة البشرية الأكبر لهذه الخلطة من المشاعر والأفكار والسلوكات، ولا سيما بعد اكتظاظه بالمهجّرين إثر المعارك والمرحَّلين من ديارهم بالباصات. وطالما أصبح الخصم بعيداً ترتد العدوانية على الذات الفردية فتعمل فيها تشريحاً وتقريعاً ومراجعة لوّامة، وعلى الذات الجمعية لتقدّم إلى المقصلة بعض من كانوا الأقرب، تماماً كما فعلت مقصلة الثورة الفرنسية حين التفتت إلى بعض قادتها فجرّمتهم، بعد أن كانت قد أنهت قطع رؤوس خصومها وتوحشت واستدمَت.
تصاعد نزعات الكراهية والإسقاط على وسائل التواصل الاجتماعي، كفيسبوك وتلغرام ومجموعات الواتساب، التي أضحت مساحات للتناهش والتصيّد والانفصال
لم تنه الثورة السورية مهمتها التي ما تزال تبدو بعيدة، ولم تمتلك مقصلتها المنظمة ومحكمتها الثورية المعتمدة. ونتيجة لذلك نبتت المقاصل هنا وهناك، يدوية ونصف مصنّعة و«عرعورية». وطالت أجساد البعض بالفعل، إعداماً أو اغتيالاً أو صراعاً بين الفصائل، لكن عملها الواسع والأشمل كان رمزياً، بتصاعد نزعات الكراهية والإسقاط على وسائل التواصل الاجتماعي، كفيسبوك وتلغرام ومجموعات الواتساب، التي أضحت مساحات للتناهش والتصيّد والانفصال.
هذا أمر معروف. وهو «طبيعي» نسبياً بالنظر إلى المقدمات المذكورة والقمع والخذلان. لكن ما ليس طبيعياً تماماً هو استمرار هذه الحال وتناميها دون جهد لضبط النفس أو تطويق الحرائق، لا على المستوى الفردي الذي شمل أعلاماً، ولا على مستوى الجماعات التي انحدر خطاب بعضها درجات مسفّة، فيما اعتمد قسم آخر منها على حسابات وهمية يديرها أنصارها الذين ينشطون بمستوى من الابتذال تبدو القنوات الرسمية مترفعة عنه.
يتورط في المشهد السابق بعض أصدق الثوار وأصلبهم بعدما جفّ اخضرار المعاني الأولى للثورة في نفوسهم، وتحوّلت إلى عناد صلب، ولا سيما لدى من دفعوا أثماناً باهظة منهم، كالأذية الجسدية أو فقدان بعض المقرّبين أو تداعي سبل الحياة. في نظر قطاع كبير من هؤلاء لا شريف سوى «الشهداء» الذين حصّنتهم دماؤهم، وخروجهم الباكر من المشهد خاصة، من الوصف بالخيانة والبيع والعمالة والارتزاق وركوب الموجة، وغيرها من التهم، الحقيقية أو المزعومة، التي تتطاير في القنوات وتؤخذ دون مراجعة.
تطول المقصلة الثورية الشخصية الجميع؛ أوائل الثوار لأنهم «ورّطوا» سواهم وغادروا إلى أوروبا في الغالب؛ الناشطين لأنهم صاروا نجوم إعلام وعلاقات عامة وصائدي تمويلات؛ الإخوان لأنهم تحكموا في مؤسسات المعارضة؛ السلفيين لأنهم «سرقوا» الثورة؛ المعارضة السياسية لأنها مكونة من مجموعة «عملاء» مخفيين للنظام أو معلنين للدول؛ قادة الفصائل لأنهم فاسدون؛ الجهاديين لأنهم متشددون و«مجانين»؛ منظمات الإغاثة لأنها مكونة من «لصوص»؛ مراكز الدراسات لأنها مجرد حيَل لتشغيل محترفي «التنظير»؛ الإعلاميين لأنهم بائعو صور، والباعة لأنهم مروجو كبتاغون. الكل خرب كما تقول صفحات مختصة زاخرة بالفضائح و«التسريبات»، وهي المصادر الأكثر شعبية لجمع «المعلومات». فما الذي يبقى لفعله إذاً؟
في المجتمعات الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال بعضُ من لم يبادروا إلى الثورة بل قدِمَت إليهم، بتحرير مناطقهم دون مشاركة ولا عناء، وربما حتى دون رغبة منهم. يعبّر هؤلاء عن تبرمهم بالوضع القائم بمفردات منظومة «كنا عايشين». يرفعون أصواتهم إذا لاح العلم الأحمر ويخفضونها في حال اشتدت العصا الباحثة عن «الضفادع»، فيلجؤون إلى «المقصلة الثورية» الشاملة كوسيلة مشروعة ظاهرياً لهدم كل شيء ما دامت تطول أي فريسة.
أما خارج الجغرافيا السورية فتبدو دول اللجوء بيئة حاضنة أخرى لمشاعر العدمية و«الأفكار» الناتجة عنها و«التحليلات» المرافقة لها. يزداد هذا طرداً مع بعد المسافة وحداثة سنوات الهجرة وبرود البلد المستضيف. ويشمل، كذلك، بعض من واكبوا نشأة الاحتجاجات وأسهموا فيها، أو كانوا هم الثورة في مناطقهم. ويعانون اليوم من وطأة التخلي؛ تخليهم الاضطراري عن المتابعة وإخلادهم إلى المعونة الشهرية والجوب سنتر؛ وتخلي كثير من رفاق الدرب عنهم، وربما تخلي الثورة نفسها عن صيغتها الأولى ووعودها.
حافظ قسم منهم على نزوعه الثوري الذي تحوّل إلى هراوة خشبية يابسة تستهدف رؤوس الآخرين
هؤلاء هم الأقدر، بالطبع، على تصعيد العدمية إلى مرتبة رؤية، ودعمها بالأدلة التي تزخر بها ذاكراتهم المكتنزة بالأشخاص والقصص والتواريخ. وفيما حافظ قسم منهم على نزوعه الثوري الذي تحوّل إلى هراوة خشبية يابسة تستهدف رؤوس الآخرين؛ فإن قسماً آخر فقد إيمانه بالثورة نهائياً لكن شيئاً ما يدفعه إلى البقاء في حلبتها ومراقبة مجرياتها بدقة عوض أن يبدأ حياة مستقلة. ربما كان هذا الدافع هو التأكد اليومي من سلامة قراره الجديد، أو محاسبة الذات الفردية والجماعية على آمال وجهود سنوات خلت، أو مجرد الاستمرار في الجو الذي ألِفه من أشخاص ومعطيات. لكن أداته تبقى، على كل حال، هي المقصلة المرهفة لقضية لم تعد تعني له شيئاً في الواقع فيما ينافح يومياً عن نقائها الطهراني المفترض، وهو يُسيل دم ضحاياه على مذبح عبثي.