الغذاء ليس مجرد وسيلة لتلبية الاحتياجات الجسدية، بل هو جزء مهم من الثقافة والهوية. يمثل الطعام ما هو أبعد من تغذية الجسد؛ إنه لغة مشتركة تعبر عن التاريخ والجغرافيا والروح الجماعية للشعوب، إذ تتجسد في الأطعمة والمأكولات تقاليد متوارثة عبر الأجيال، وتروي حكايات الشعوب وأسلوب حياتها وارتباطها بالطبيعة والمواسم والمناسبات الخاصة.
وفي الوقت نفسه تذكرنا الأطعمة التقليدية بذكريات الطفولة، ومائدة الأسرة، والأعياد التي أمضيناها مع أحبائنا، لذلك يحمل الطعام بطرق عدة جزءاً من ذاكرة الشعوب ويرسخها، ويعكس استمرارية هويتهم وتراثهم.
ومثالا على ذلك، نرى أنه بالتوازي مع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي التقليدي، يدور صراع على الطعام أيضا، إذ تحاول إسرائيل سرقة المطعم الفلسطيني والعربي أيضا، وقد حذر أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة كينغستون البريطانية، رونالد رانتا في حزيران الماضي، من مساعي تل أبيب لـ"أسرلة" و"سرقة" المطبخ الفلسطيني، لافتا إلى أن الفلسطينيين يعتبرون ذلك "جزءا من مخطط إسرائيلي لمحو ذاكرتهم وهويتهم الثقافية". وفق وكالة الأناضول.
الطعام يعزز الهوية الثقافية
بحسب كتاب "A History of Food" للمؤرخ Maguelonne Toussaint-Samat فإن الأطعمة تصبح لغة عالمية يفهمها الجميع، لكنها في نفس الوقت تحمل خصوصيات محلية تجعل منها هوية بحد ذاتها. وتحافظ الشعوب على أطعمتها التقليدية، لأن ذلك يمنحها شعورًا بالاستمرارية والتجذر في ثقافتها، بل ويُعدّ استحضارًا لتاريخ الأجداد وحياتهم البسيطة وتحدياته.. وهنا نذكر كيف نقل اللاجئون السوريون بنجاح مطبخهم المتنوع إلى الاتحاد الأوروبي وباقي دول اللجوء.
في نفس الوقت يوضح الكتاب أن الاستعمار والتجارة الدولية أسهما في إدخال مواد غذائية جديدة إلى مناطق مختلفة، مما أثر على هوية الطعام المحلية. مثال ذلك تأثير الطعام الإسباني على المطبخ الفلبيني، إذ أدخل الإسبان تقنيات ومواد جديدة ساعدت في تطوير أطباق محلية تحمل بصمات كلا الثقافتين. ساعد هذا التبادل في جعل المطبخ أداة تعبر عن تداخل الهويات والثقافات أيضا.
كما أن الظروف الجغرافية والمناخية تُحدِّد المكونات المتاحة في المناطق المختلفة، مما يؤثر على تكوين الأطباق وأسلوب الطهي. تسهم هذه العناصر في تشكيل الهوية الغذائية للمجتمعات المحلية، فالأكلات المتوسطية الغنية بزيت الزيتون والخضروات والتي يتميز بها السوريون، مثلًا، تعكس التنوع المناخي وتوافر المكونات في هذه المنطقة، في حين تعتمد المناطق الباردة بشكل أكبر على الأطعمة الغنية بالدهون واللحوم لحاجة الجسم للطاقة والدفء.
يلعب الغذاء يلعب دورا كبيرا في تشكيل الهوية الوطنية؛ إذ تكون الأطباق التقليدية رمزا لدولة معينة. فالبيتزا والمعكرونة مثلاً تعكسان الهوية الإيطالية، ويُعرف السوشي كرمز لليابان، في حين يرمز التاكو إلى الثقافة المكسيكية. ووفقا لدراسة نشرتها ماري دوغلاس في كتابها "Purity and Danger"، فإن الأطعمة لا تقتصر فقط على مدّ الناس بالغذاء، بل تعمل كوسيلة لترسيخ القيم الثقافية والاجتماعية التي تُبنى عليها الهويات، أما في سوريا فلكل مدينة رمزها "المطبخي".
المطبخ السوري مثال للتنوع والثقافة
موقع "Taste Atlas" أصدر تصنيفه السنوي لأفضل مطابخ العالم، وذلك لسنتي 2023 و2024 معاً، حسب عدة عوامل، من بينها جودة الطعام وتنوعه وسهولة الوصول إليه، ووفقا للموقع فإن المطبخ السوري جاء في المرتبة الخامسة عربيا..
أول ما يتميز به المطبخ السوري، هو التنوع بحسب البيئات السورية المتنوعة، فطعام الساحل مختلف عن طعام البيئة النهرية في الجزيرة السورية، المختلف بدوره عن طعام البادية، وكل هؤلاء مختلفون إلى حد كبير عن طعام وطبخ البيئة الداخلية، بيئة محافظات الداخل حلب وحماة وحمص ودمشق.
السيدة أم باسل فوز تشرح لموقع تلفزيون سوريا الفروقات في مطبخ أول منطقتين: "أنا من الساحل السوري، وتحديدا من اللاذقية، انتقلت بعد زواجي للعيش في رأس العين في الجزيرة السورية، ولاحظت الفارق في الطعام بين المنطقتين. في الساحل يشكل السمك البحري والزيتون وزيت الزيتون أهم عناصر الطبخ إلى جانب القليل من اللحم، أما في الجزيرة فإن أهم العناصر هي اللحم والسمن العربي والرز. في الساحل كل الأطعمة تقريباً فيها سمك، كبة بالسمك وشوربة السمك إضافة إلى السمك المقلي والسمك المشوي والسمكة الحرة والصيادية.. أما في الجزيرة فتقريبا كل الطبخات فيها اللحم والسمن العربي والرز".
وتضيف "منطقة البادية تعيش على اللحم والبرغل والألبان ومشتقاتها والتمر، فيما يتنوع الطعام في المنطقة الداخلية ليشمل اللحم والرز والبرغل والخبز والألبان والخضروات والفواكه والبقوليات، وفي وقت متأخر دخل الفروج (الدجاج) إلى المطبخ السوري".
حلب.. مطبخ "المغرمين"
تقول السيدة إيمان شوا من مدينة حلب لموقع سوريا: "حلب هي مدينة المشاوي والمحاشي والكبب، ويوجد منها أنواع لا تحصى، ويتميز المطبخ الحلبي باللحم والدهن والدسم فهو مطبخ "المغرمين" لأن الحلبية بياكلوا وبيتنغموا بالأكل، فعنا محشي الباذنجان ومحشي الكوسا ومحشي العجور ومحشي الفليفلة وشيخ المحشي.. والكبة بسماقية والكبة بلبنية والكبة بصينية وكبة الدراويش والكبة المشوية والكبة القراص.. وكانت كلها تطبخ باللحم، وتحديداً لحم الغنم، وكان لحم الفروج غير مستحب وغير شائع، لكن الظروف الاقتصادية، وغلاء أسعار اللحم، غيرت الوضع وجعلت لحم الدجاج (الأرخص ثمناً من لحم الغنم) يدخل إلى المطبخ الحلبي والسوري، ويزاد استهلاكه باستمرار".
ومن مميزات المطبخ السوري، الأكلات رخيصة الكلفة، المتاحة لكل الناس، بأسعار معقولة، البسيطة، سهلة التحضير، وبنفس الوقت هي لذيذة ومشبعة، وهي غالباً الأكلات التي ليس فيه لحم، ولا مكونات غالية (كالفستق الحلبي، والسمن العربي). ومثالها الفلافل، والحمص، والفول، واليالنجي، والمجدرة (بنوعيها مجدرة الرز ومجدرة البرغل)، والأكلات التي تعتمد على الحبوب والبقوليات، والخضار من دون لحم، وكل ما يطبخ بالزيت، مثل الخبيزة، واللوبيا..
ومن الأكلات الرخيصة، التي تعكس العقائد التي تعظم النعمة، ولا تقبل رمي الطعام الزائد في القمامة، طبخات تعتمد على جمع بقايا الطعام، أي حين يتبقى من عدة أصناف من الطعام بقايا قليلة لا تكفي لتشكل طبقاً أو طبخة، فتجمع مع بعضها، مثل الفتة (بقايا الخبز والحمص، واللبن..) والطاجن أو اللحمة بفرن أو الكواج (بقايا الخضار من كل الأنواع واللحم والبطاطا..) والصيادية، واسمها بالإسبانية بايلا وهو مأخوذ من كلمة عربية هي بقايا (وفيها السمك وثمار البحر والأرز والخضار واللحم معاً).
المطبخ السوري متنوع بتنوع الجغرافيا
ويتميز المطبخ السوري بكثرة أنواع الطبخات إلى درجة نادرة بين مطابخ الشعوب، كثيرة جداً لدرجة يمكن أن تطبخ العائلة السورية كل يوم طبخة مختلفة، ولا تعود إليها إلا بعد عام أو أكثر.
ويسمح التنوع الشديد في المطبخ السوري، بطبخ عدة طبخات في وقت واحد، فالمائدة السورية، غالباً، لا تضم نوعاً واحداً من الطعام والطبخات وإنما عدة طبخات بوقت واحد، خاصة في العزائم (الدعوات والمناسبات).
ومن الشائع في سوريا، أن تسأل ربة البيت أفراد أسرتها عن ما يريدون من طبخات لهذا اليوم، وتلبي طلبات الجميع حتى لو كانت مختلفة.
ويتأثر اختيار السوريين لما سيطبخونه بمواسم المزروعات. تتغير الخضار والفواكه التي تطرحها الأرض، ومع تغيرها تتغير طبخات السوريين. فطبخة الكرزية تطبخ في موسم الكرز، وطبخات الأرضي شوكي تطبخ في موسم الأرضي شوكي، والحلويات والمشروبات التي تعتمد على التوت، تطبخ في فصل التوت (وهو موسم قصير لا يتعدى عدة أسابيع)، واليبرق (ورق العنب الطازج) يطبخ تحديداً في الشهر السادس من السنة.
وتتغير طبخات السوريين بحسب الفصول أيضاً لتتناسب مع درجات الحرارة، فطبخات الصيف تكون أخف من طبخات الشتاء، في حين تكون طبخات الشتاء أدسم لحاجة الجسد إلى طاقة أكثر لمقاومة البرد.
ويتميز البيت السوري بـ (المونة)، وهي حفظ مواد الطبخ لاستعمالها في غير موسمها، لضمان التنوع في الطعام على مدار السنة، وللفترات من السنة التي تكون فيها خيارات الطعام قليلة.
ويتعامل السوريون مع الطعام على أنه متعة، وسعادة، ويتعاملون مع وقت الطعام على أنه وقت اجتماع الأسرة، وهو أسعد الأوقات. ولذلك يكون وقت الطعام طويلاً، يتم فيه تناول الطعام، وليس التهامه، يساعد عل ذلك أن تناول الطعام السوري يتكون من عدة مراحل، تبدأ باحتساء الشوربة، ثم يأتي وقت المقبلات والسلطات، ثم الأطباق الرئيسية، ثم الحلويات والفواكه، ثم المشروبات.
في سوريا.. "العين تأكل أيضا"
ومن أجمل ما يقوله السوريون عن الطعام: "العين بتاكل" أي يجب أن يكون شكل الطعام جميلاً وجذاباً، وليس فقط طعمه ومذاقه، وهذا ما يفسر اهتمام السوريين الكبير بتزيين الطعام بالمكسرات والصنوبر والبهارات.
تقول السيدة نادية عكاش من مدينة دمشق لموقع تلفزيون سوريا: "تبدأ الأمهات بتعليم البنات الطبخ بعمر 12 عاما، يتعلمن الطبخ وتزويق السفرة والطاولة، ورغم تراجع اهتمام نسبة من الفتيات بالطبخ التقليدي لأن كثيرا منه دسم لا يناسب الرشاقة، ويحتاج إعداده لوقت طويل ومهارة وخبرة.. ما زالت معظم البنات تحب الطبخ وتفتخر بإتقانه، حتى الطبيبات والمهندسات يقمن بالطبخ بأنفسهن، ولا تسمح ربات البيوت التي فيها خادمات لهن بالمشاركة في إعداد الطعام. الطبخ عندنا شيء مقدس"..
ويأكل السوريون ثلاث مرات في اليوم، ويختلف طعام كل وجبة عن طعام الوجبة الأخرى، فطعام الفطور يكون من دون طبخ ولا لحم، وإنما يكون من الفول والحمص والفلافل والتسقية والأجبان والبيض والعجة، واللبنة.. لمن يحب الفطور المالح، ويكون من المامونية والشعيبيات والعصيدة والمربيات والسحلب والعسل (الفتيتة).. لمن يحبون الفطور حلو المذاق.
أما غداء السوريين فيتألف من طبخات دسمة، فيها اللحم، ومع الخضروات والبقوليات (الفاصولية الخضراء، أو الفاصولية اليابسة البيضاء، والبامية، والبازيلاء، والملوخية..) وبجانبها الأرز أو البرغل أو الخبز، وفيها المحاشي، والكبب بأنواعها الكثيرة.
أما عشاء السوريين ففيه الفموس، والمقالي، وغالباً ما يتم فيها استكمال أكل طبخة الغداء، إنما بكميات أقل من وجبة الغداء.
غذاء السوريين كوسيلة للتواصل الاجتماعي
لكل مناسبة عند السوريين طعام يناسبها، ففي الأعياد يتناول السوريون أطيب وأغلى الأطعمة، وفي رمضان يكون الطعام أكثر ما يكون تنوعاً، وغنيا بالسوائل. وللأعراس أطعمة وحلويات خاصة، وللمآتم والمناسبات الحزينة أطعمة خاصة بها، وللنزهات أطعمة (المشاوي).
ومن علامات الاهتمام بالطعام والطبخ، وتقدير الطباخين والمشتغلين في الطعام، تحمل كثير من الأسر السورية ألقاباً لها علاقة بالطبخ، كآل الشوا، والطحان، والطباخ، والعشي، والفوال، والحمصاني، والقضيماتي، والحلواني، والملاح، والخباز، والكنيفاتي، والسماك، والصياد، والعجان، وسماقية، ولبنية، وكبة، وكوسا، وقبوات..
ويؤدي الحديث عن الأطعمة التي ابتكرها السوريون وسبقوا بها جميع الشعوب، إلى إثارة خلافات وتنازع مع الجيران، وخاصة الأتراك واليونانيين واللبنانيين. لكن المؤكد والذي لا ينازع به أحد أن السوريين هم من ابتكروا عشرات الطبخات والأطعمة والحلويات (كالزعتر الحلبي وقمر الدين والكرزية والسفرجلية والسماقية والفتة وحلاوة الجبن وحراق إصبعو وطباخ روحو وعش البلبل والباشا وعساكره وفتة المكدوس وأبو بسطي والبابا غنوج..)، وهم من أبدع في تنويع أصناف المحاشي والكبب والمربيات إلى درجة غير موجودة لدى أي شعب آخر، حتى عند أقرب الجيران. ولا شك أن السوريين هم أكثر شعب استخداماً للفستق الحلبي في الطبخ والحلويات والموالح.
وهكذا فإن ما يأكله السوريون إما من ابتكارهم، أو وصلهم من شعوب أخرى لكنهم قاموا بتطويره وتحسينه وتغيير مكوناته وطريقة طبخه بصورة جذرية، أي قاموا بـ"سورنته".
فالمربى مثلاً قد يكون ابتكاراً من بلد متوسطي غير سوريا، لكن السوريين عملوا مربى من كل الفواكه (الكرز والتفاح والتين والمشمش..)، وعملوه حتى من الخضار (مربى الباذنجان ومربى القرع..) ووصل بهم الأمر إلى حد صنع مربى من الورد. سوريا على الأرجح هي البلد الوحيد التي صنعت من الورد مربى يثير تناوله صوتاً وإحساسا فريداً في الأسنان.
حتى الأكلات الغربية التي دخلت إلى سوريا في وقت متأخر (مثل البيتزا والهامبرغر..) ترك الطباخون السوريون بصماتهم عليها، فأضافوا إليها، وغيروا طعمها، إلى حد كبير.