أسهمت ظروف متضافرة في وسم الثقافة السورية قبل الثورة بطابع غالب هو الاتجاه اليساري، وإن تدرج وفق موشور ربما يبدأ بيسار البعث وقد لا ينتهي بالشيوعية الرسمية، وتنويعات عديدة من الماركسية وما بعدها لدى المثقفين المستقلين. ورغم أنه يصعب حصر قطاع غني ومتعدد ويجب أن يقوم على الفردية كالقطاع الثقافي، فإنه من الملحوظ أن التوجهات اليمينية فيه، أصالية كانت أم ليبرالية، أقصيت إلى هامش المشهد وثناياه، وكذلك جرى لبقايا حراك ثقافي وشعري واعد كان قد دشنه مثقفون قوميون سوريون. وفي عقود هيمنة اليسار الطويلة هذه منذ الستينيات اضطر ممثلو التيارات الأخرى إلى تقديم التنازلات له ومزجه بخطاباتهم الثقافية لتبدو «تقدمية» كما ينبغي.
في 2011 زلزلت الثورة هذا المشهد الذي ركد منذ التسعينيات. وكان أول ما فعلته وأكثره ظهوراً على السطح هو تقسيم المثقفين إلى من وقفوا معها أو ضدها أو على حياد مراوغ أو حقيقي. غير أن ما أحدثته من تغيير كان أعمق من ذلك بكثير، وإن لم تجرِ ملاحظته على نطاق واسع نتيجة أسباب عديدة؛ منها ظروف «الحرب» الضاغطة، ونقص الحساسية تجاه التحولات لدى بعضهم، واعتداد ذي/ذوي رأي برأيهـ/ـم بعدما تشظت الثقافة «الوطنية» السورية إلى ثقافات.
برز هذا في البداية عندما انكفأ مثقفون يساريون، أمميون غالباً، إلى مواقع طائفية أهلية مناهضة للثورة، مستخدمين كل ما يملكونه من رطانة لغوية وعدّة تحليلية لاتهامها بالرجعية والفئوية والعنفية والفوضوية وغياب الرؤيا، مؤيدين بقاء النظام ضمناً، بوصفه أهون الشرّين، محافظين على مسافة نقدية ضرورية منه كي لا يُتهموا بالتشبيح الصريح مما لا يليق بمسيرتهم وتاريخهم ومكانتهم الحقيقية أو المفترضة.
أتاحت ظروف الحرية المستجدة للمئات أن يدخلوا عالم الكتابة أو يتجاوزوا حاجز النشر بعدما صار زهيد التكاليف، أو ممولاً، أو متاحاً كملف يُلقى على شبكة الإنترنت
في المقابل أتاحت الثورة لعدد غير محدود من الدِلاء أن يُطرح في الحياة العامة لحاضنتها ومناطقها المحررة. وبالإضافة إلى المثقفين المكرّسين سابقاً الذين انحازوا إليها، أتاحت ظروف الحرية المستجدة للمئات أن يدخلوا عالم الكتابة أو يتجاوزوا حاجز النشر بعدما صار زهيد التكاليف، أو ممولاً، أو متاحاً كملف يُلقى على شبكة الإنترنت.
كان أكثر هؤلاء شبان (وشابات)، وأقلهم من أعمار أكبر لم تتح لها الفرصة سابقاً في ظل هيمنة اليسار على الاعتراف الثقافي، وحزب البعث على مؤسساته كاتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحفيين وسواهما. فجاءت نصوصهم دون مرجعية أدبية أو ثقافية تُذكر، وتراوحت بين الشعر (العمودي في الغالب) والروايات (المستمدة من وقائع سجنية أو ذكريات ثورية في أكثر الأحيان). وسوى المؤسسات الثقافية البديلة التي أنشأها كتّاب من «أبناء المصلحة»، والتي لم تخرج عن عباءة «التقدمية» والعلمانية والدعوة إلى المجتمع المدني؛ ظهرت تجمعات ثقافية / إعلامية «من الأرض»، أو محاولات فردية، استمدت مشروعيتها من ثوريتها ومن تعبيرها عن عذابات مجتمعاتها الأهلية الحاضنة، رثاء لشهدائها أو تصويراً لمعاناة معتقليها أو للانتهاكات في حق نسائها، وغير ذلك.
وتبعاً لهذا التوجه أناط كتّاب آلاف النصوص بأنفسهم مهمة الناطق باسم الجماعة، إن غوت غوى وإذا رشدت يرشد. وأصرّ كتابها على تمييز أنفسهم بوضوح عن توجهات «تغريبية» في الثقافة والهوية، مقدِّمين نصوصاً أصالوية تعتمد على المعاينة الشخصية الموضعية والانطباعية والتزيين اللغوي، في انقطاع شبه كلي عن منجزات العصر والثقافة الحديثة في المجال الأدبي. مما أنتج نصوصاً رديئة في الغالب، من دون أن يهتم أصحابها لذلك ما داموا مكتفين بقوقعة من كتّاب يشبهونهم أو قراء لا يطلبون من النص أكثر من أن يتولى الكلام بلسانهم.
ورغم ذلك لم يحتل هؤلاء الكتّاب موقع «النخبة» وصانعي الرأي في المناطق المحرّرة التي تحتاج إلى الأمن والسكن والغذاء والتعليم والخدمات أكثر من حاجتها إلى ثقافة من أي نوع. لكن استمرار هذا التوجّه من دون تنبيه إلى ضحالته ربما يسمح لآلاف النصوص بالظهور مستقبلاً دون أن يمتلك أصحابها ما يكفي من تأهيل في هذا المجال.
من بديهيات دور المثقف الحديث أن يكون فوق مهمة «عرضحالجي» الجماعة الأهلية التي ينتمي إليها وشاعر القبيلة المغوار
على الضفة الثالثة أتاحت القفزة الكردية في الحياة العامة السورية لمثقفين أكراد أن يكتبوا بلغتهم الأصلية، وأن ينشئوا مؤسسات ثقافية وأدبية وإعلامية وأكاديمية مع وفرة المنظمات في مناطق «الإدارة الذاتية»، وتأهيل مسبق كان ينمو ببطء في مجالات الفن والأدب والموسيقا. غير أن هذه النهضة لم تنفصل عن التمركز المفرط حول «الهوية»، بدءاً من الإصرار على وصف «الكورد» بعد أن أصبحت كلمة «الأكراد» مرذولة فجأة وبقدرة قادر، مروراً بتحول غالبية المثقفين من أصل كردي إلى «مثقفين كورد»، تحت طائلة التخوين القومي، وأخيراً ما أناطه مثقفون كورد، مناهضون لحزب العمال الكردستاني بالأصل، بأنفسهم من مهمة الدفاع عن المغامرة الروج آفيّة، حتى لو استلزم ذلك الوقوع في التعصب القومي والمفاصلة الحادة عن الآخرين.
ليس المثقف «الوطني» كائناً محبَّذاً بذاته ولا نموذجاً محدَّداً للاقتداء، غير أن من بديهيات دور المثقف الحديث أن يكون فوق مهمة «عرضحالجي» الجماعة الأهلية التي ينتمي إليها وشاعر القبيلة المغوار. هذا دور انتهى، على الأقل بصيغته المباشرة المفتقرة إلى النقد، الجذري والعميق، لمسلمات الجماعة نفسها.
لقد شاعت عبارة «خيانة المثقف» في الغرب للتعبير عن تجاهل مثقفين لدورهم كحاملي مبادئ وقيم، وتحولهم إلى ناطقين بلسان أوطان وبلاطات للحصول على الشهرة والمال. لكن خيانة مثقفينا حفرت إلى مستويات أهلية أدنى، تعبيراً عن الطائفة أو القوم أو المنطقة، بمحاولات كتابية ليس لها مستقبل.