المتظاهر الجيد

2024.06.17 | 06:36 دمشق

هيئة الزكاة بإدلب
+A
حجم الخط
-A

قبيل عيد الأضحى المبارك عمدت "الهيئة العامة للزكاة"، العاملة في إدلب، إلى العمل على إطلاق سراح عدد من الموقوفين لأسباب مالية، بسداد ما عليهم من مستحقات. وصاحبت ذلك بتغطية إعلامية لم تتورع عن إظهار وجوه هؤلاء المدينين وأسرهم وأطفالهم بصور ثابتة ومقابلات فيديو. ويمكن إرجاع هذا السلوك إلى حالة الضغط التي تقع تحتها هذه الهيئة مؤخراً لإثبات أعمالها والدفاع عن شرعيتها بعدما أصبحت أحد أهداف المحتجين على السلطة المطلقة لأبي محمد الجولاني قائد "هيئة تحرير الشام".

وذلك لأن "الهيئة العامة للزكاة" مؤسسة غنية وكبيرة بمقارها وعامليها. ورغم ذلك فهي ليست جزءاً من جماعة "هيئة تحرير الشام" ولا من "حكومة الإنقاذ السورية" المرتبطة بها. ولكنها، مثل عدد من "المؤسسات" الأثيرة لدى الجولاني، بنية مستقلة في الظاهر ومرتبطة به بشكل مباشر في الواقع. وقد تجلى ذلك في إدارتها من قبل أحد أقربائه الموثوقين، ما يزال دون صورة وباسم مستعار هو عبد القادر الأديب (أبو ماجد الشامي)، ومن استعانة "الهيئة العامة للزكاة" بقوات من "هيئة تحرير الشام" لتحصيل الزكاة من مدن وبلدات اعترضت على عمل "لجان الجباية" وتقديراتها المغالية.

وقد أتاحت زعزعة سلطة الجولاني مؤخراً لعدد من تجمعات مزارعي هذه المناطق أن تجدد رفضها دفع الزكاة لهذه "المؤسسة" التي لا تفصح عن حساباتها بشكل شفاف، والعودة إلى الطريقة التقليدية في إخراج الزكاة بشكل مباشر من صاحب الرزق لمن حوله من المحتاجين. فقد ثارت الشكوك في أن الجولاني يستخدم بعض إيرادات "هيئة الزكاة" لتمويل جهات أخرى تتبع له بشكل شخصي أيضاً، وعلى رأسها "جهاز الأمن العام" برواتب عناصره وآلياته وسجونه.

من جهته أفرج "الأمن العام" عن بعض المعتقلين في الأسبوع الماضي أيضاً، ولكن في سياق مختلف تماماً. فقد كان أكثر هؤلاء من قادة وناشطي "الحراك الثوري" الراهن ضد الجولاني وأمنييه. وقد أمضوا مدة احتجازهم في منفردات تحت ضغوط تخيّرهم بين التوقيع على تعهد بالكف عن أي نشاط معارض والخروج، أو البقاء لمدة مفتوحة. ورغم أن هؤلاء لم يُمضوا لدى "الأمن العام" أكثر من أسابيع، إلا أن ظروف احتجازهم السيئة تركت آثارها في شحوب وجوههم ونحافة أجسادهم. وهو ما تجلى بشكل فادح في شكل عصام الخطيب، الذي خرج بعد اختطافه من اعزاز، في شمالي حلب وخارج نطاق حكم "الهيئة"، منذ قرابة العام. وكان ينشط إعلامياً ضد قائد "الهيئة" بعد انشقاقه عنها.

يشير هذان السياقان، وهاتان المجموعتان من السجناء، إلى طبيعة "الجرم" الذي يمكن أن تتسامح معه أجهزة الجولاني وتسهم في العفو عنه، وإلى ما لا تتساهل فيه من أنواع الاعتراض "السياسي".

يشير هذان السياقان، وهاتان المجموعتان من السجناء، إلى طبيعة "الجرم" الذي يمكن أن تتسامح معه أجهزة الجولاني وتسهم في العفو عنه، وإلى ما لا تتساهل فيه من أنواع الاعتراض "السياسي".

فمنذ اندلاع التظاهرات في إدلب، قبل عدة أشهر، صرّح الجولاني وأعوانه المقرّبون، أكثر من مرة، أنهم يتفهمون "المطالب المحقة" للاحتجاجات قبل أن "يتسلق عليها" ذوو "المآرب السياسية" من أفراد وجماعات.

المتظاهر الجيد أو النموذجي، إذاً، هو شخص مفرد دفعه ضيق العيش إلى الخروج إلى الشارع اعتراضاً على غلاء الأسعار أو ارتفاع الضرائب أو احتكار السلع أو ضعف الخدمات أو فساد الموظفين. وهذا "المواطن" على عين الحكومة ورأسها، تُشكَّل لمطالبه لجان وتُعقد اجتماعات وتُنشر تصريحات وتصدر قرارات. وفي سبيل احتواء غضبه لا تمانع السلطة في خفض مدخولاتها، من ضرائب وشراكات واحتكارات، حتى حين، كي يرجع إلى بيته قانعاً بما حققه من مكاسب طامحاً بالمزيد من الانفراج.

هذا حل حسن مع متظاهر يعرف حدوده. أما ما فعله ممثلو "الحراك الثوري" فهو رفع مطالب "غير معقولة" وفق الجولاني؛ على رأسها الإطاحة به من موقع "قيادة المحرر" الذي احتله على حين غفلة من الناس، وحل جهازه الأمني، وتشكيل مجلس شورى جماعي فاعل. وهذه "مطالب صفرية" على حد تعبير الإعلام الرديف لقائد "هيئة تحرير الشام" الذي لم يتورع عن التهديد بالخراب قائلاً إن إصرار المحتجين على مطالبهم القصوى سيدفعه إلى أن يسلّمهم إدلب كما استلمها!

هل يذكّر هذا بشعار "الأسد أو نحرق البلد" الكارثي؟ بالتأكيد. لا يعود هذا إلى ارتباط مفترض للجولاني بالنظام، بل إلى تشابه بنيوي في الحكم المستبد مهما اختلفت أيديولوجيته أو موضعه. فطيلة أشهر عديدة من عام 2011 استقبل بشار الأسد عشرات الوفود من المحافظات والمناطق، منتظراً أن يستمع إلى رغبات مطلبية هنا وأسباب محلية للاحتجاج هناك. فيرفع سعر شراء أحد المحاصيل في منطقة، وينقل كاراجاً إلى خارج حدود مدينة، وينظّم عمل البسطات في سوق أخرى. أما شعار "ارحل" فيصمّ أذنيه دونه.

هل يذكّر هذا بشعار "الأسد أو نحرق البلد" الكارثي؟ بالتأكيد. لا يعود هذا إلى ارتباط مفترض للجولاني بالنظام، بل إلى تشابه بنيوي في الحكم المستبد مهما اختلفت أيديولوجيته أو موضعه.

في إدلب أضيف إلى هذا الهيكل كساء بائس صنعه الإعلام الموالي للجولاني، بما يتسم به القائمون عليه من انعدام الثقافة السياسية، واقتصار المعارف الإسلامية على عناوين سطحية.

فمثلاً يصرّ هذا الإعلام على أن المحتجين الجيدين أفراد عارضون، ويعدّ أبسط معالم الحزبية دلالة قاطعة ونهائية على "امتطاء" هذا الحزب أو ذاك للحراك الثوري لتحقيق أهداف "حزبية». وهم ينطلقون في هذا من الرضّ الذي أحدثته في نفوسهم الاحتجاجات الدؤوبة التي نظّمها "حزب التحرير" الإسلامي للمطالبة بمعتقليه، وحملت شعلة الاعتراض لشهور قبل أن ينضمّ إليها الآخرون، ويتراجع دور هذا الحزب وحجم مشاركته. وعلى كل حال فإن اجتماع عدد من الناس، ممن يملكون أفكاراً متشابهة، في حزب أو تنظيم هو من ألفباء العمل السياسي وليس منقصة تستوجب الإنكار والتبرؤ. وها هي "هيئة تحرير الشام"، التي يدافعون عنها، جماعة تحرص على وحدتها وتتماسك وتتصرف، حتى الآن، كفريق متعاضد من الأمنيين والشرعيين والإعلاميين والعسكريين، لاستمرار سيطرة قائدها المطلقة على إدلب.

وها هي "هيئة تحرير الشام"، التي يدافعون عنها، جماعة تحرص على وحدتها وتتماسك وتتصرف، حتى الآن، كفريق متعاضد من الأمنيين والشرعيين والإعلاميين والعسكريين، لاستمرار سيطرة قائدها المطلقة على إدلب.

ومثلاً، تصيّد شغّيلو الإعلام تصريحاً لأحد قادة "الحراك الثوري"، بيّن فيه أن أحد أهدافهم هو "تداول السلطة"، للقول بأن هذا يتناقض مع ما يزعمه المتظاهرون في الشعار الشهير "هي لله هي لله، لا للسلطة ولا للجاه". وأنه دليل فاقع على رغبة قائله، ورفاقه، بالوصول إلى السلطة. وأن أهدافهم تدخل في باب "حظوظ النفس" لا إخلاص النية لله.

ومثلاً، يستهدف هذا الإعلام من انشقوا من بارزي "هيئة تحرير الشام" بأن دافعهم لتصدر التظاهرات هو إقصاؤهم عن مناصبهم السابقة لا ما يسرده هؤلاء من أن أسباب انشقاقهم هي ما لمسوه من علامات الحكم الفردي وتسلط الأمن على القضاء وفشل "الهيئة" عسكرياً.

لكن لا غرابة في هذه الأمثلة الفكاهية ما دام موجِّه هذا الإعلام الرديء؛ الجولاني نفسه، قد دأب منذ سنوات على تفسير مواقف من يختلفون معه بالاستشهاد ببيت: حسَدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَه/ فالقومُ أعداءٌ لهُ وخصومُ!