نشرت "هيئة تحرير الشام" مقطعاً مصوراً قصيراً يظهر فيه قائدها، أبو محمد الجولاني، يودّع جثة رفيق دربه أبي مارية القحطاني الذي لقي مصرعه قبل أيام. بهذه المناسبة كرر الجولاني كلمات نمطية رأى فيها خصومه قرينة أخرى على وقوفه وراء الاغتيال، فيما استدل أنصاره بتأثره ودموعه على صدق رواية «الهيئة» التي بادرت إلى اتهام تنظيم داعش بالمسؤولية عن العملية تصفية لحساب طويل مع القحطاني.
كان ميسر علي الجبوري، الذي لقب نفسه وقتئذ بأبي مارية، قد تسلل في العام 2011 إلى الفرع السوري الجديد «جبهة النصرة» لكيانه الأم «دولة العراق الإسلامية» دون رضا كبير من قادة الأخيرة، وبدعم من الجولاني، قائد المهمة الشامية الذي ربما رأى فيه سنداً يختلف عن سواه من الموفدين العراقيين الذين اتسموا بحسّ عال من الوصاية، فتمسك به وعيّنه مسؤولاً شرعياً عاماً في «الجبهة» وقائد عمليات المنطقة الشرقية من سوريا ومركزه دير الزور.
لم يكن القحطاني في مكانه تماماً في المنصب الأول، رغم تصديره بلقب «الشيخ» وإصراره، في حساباته العديدة من تويتر وحتى تلغرام، على اقتباس مقتطفات يريد أن توحي بالتبحر في أمهات الكتب الشرعية. فقد كشف تنظيمه السابق أنه لم يتلق من العلوم الإسلامية إلا طرفاً في السجن، بعد أن غادر ميليشيا «فدائيي صدام» البعثية إثر الغزو الأميركي للعراق وانضم إلى المقاومة الوليدة ووجد طريقه إلى فرع تنظيم «القاعدة» هناك بقيادة أبي مصعب الزرقاوي.
أما مهمته الثانية فبدا أنها أنسب بالنظر إلى طبيعة المنطقة وإلى مهاراته التواصلية العشائرية التي كان يسندها بالفخر بانتسابه إلى قبيلة «الجبور»، وبمد جسور التفاعل مع مختلف «الأعمام» من القبائل الأخرى، وبتخليه التدريجي عن وصف الشيخ إلى لقب «الخال» الذي مات عليه، والذي يوحي بالقرابة والمرجعية.
وشيئاً فشيئاً وجد القحطاني نفسه خارج أي مسؤولية اسمية، فحافظ على نفوذه من خلال حضوره الشخصي وعلاقاته في الأوساط التي يتقن السباحة فيها
في المنطقة الشرقية واجه القحطاني رفاقه القدامى الذين كانوا مصرّين على السيطرة وإزالة الحدود لتثبيت «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ثم «دولة الخلافة الإسلامية» في عام 2014. وهُزم أمامهم بعد أن بحّ صوته وهو يطلب المؤازرة التي لم تصل من «جبهة النصرة» فانسحب، مفعماً بالمرارة وعبر الطرق الخطرة، إلى الجنوب في درعا حيث لم يتمكن من لعب دور مركزي، ثم إلى الشمال في إدلب بعد صفقة، لم تتضح كل بنودها، عقدها مع النظام للسماح بمرور السيارات التي كانت تقلّه ومن معه من جماعة «الشرقية».
في إدلب لم يكن العتب من خذلان صديقه القديم الجولاني كافياً لتنقية ما بين الرجلين. ليس لأنهما لا يمتلكان الحس العملي واللباقة المفتوحة على الخداع، كلٌّ بطريقته، بل لأن «الأمير» أخذ يمتلئ بوصفه هذا ويسلك بالتنظيم طرقاً جديدة تتطلب نوعاً جديداً من الأعوان المنفذين لا من يحتفظون بحس «الشريك المؤسس». وشيئاً فشيئاً وجد القحطاني نفسه خارج أي مسؤولية اسمية، فحافظ على نفوذه من خلال حضوره الشخصي وعلاقاته في الأوساط التي يتقن السباحة فيها؛ من «جناح الشرقية» الفضفاض في «هيئة تحرير الشام»، إلى عموم الفصائل والحاضنة المهجّرة من تلك المنطقة، ثم البيئة العشائرية المتقوية في أرياف إدلب وحلب. وعبر ما أسماه «مكتب الشكاوى العام» قدّم محسوبيته الثمينة لدى «مؤسسات» المنطقة عندما يلزم، متنقلاً بين «الصلحات» والواجبات الاجتماعية، موزعاً المال هنا ومشاركاً فيه من يحصّلونه هناك.
بالمقابل كان الجولاني قد أفصح عن اسمه الحقيقي (أحمد الشرع)، وأوعز إلى أجهزة إعلامه باستخدامه بالتناوب مع لقبه، لكنه لم يتخلص من شتيمة «مجهول النسب» التي لم تقف عند خصومه. فبعد سنوات من الغموض ودُوار رؤوس السكان المنهكين لم ينفعه التصريح بالاسم الحقيقي، لا سيما وأنه لا ينتمي إلى أي من البنى الاجتماعية للمناطق التي يحكمها بل إلى عائلة صغيرة بعيدة ذات سيرة خاصة بنزوحها من الجولان إلى دمشق.
لكن هذا لم يكن أمراً ذا بال قبل الأزمة العميقة التي تمر بها قيادة «هيئة تحرير الشام» في السنة الأخيرة. والتي بدأت باعتقال القحطاني نفسه، في آب 2023، بتهمة العمالة أو بسبب خطأه في «إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه» كما قالت «الهيئة» في بيان رسمي، أو لمزيج من فتح قنوات مع أكثر من جهاز مخابرات ومن التخطيط للانقلاب على الجولاني وتنصيب قائد محلي مقرب من القحطاني.
كما هو معروف، توسعت القضية على يد «جهاز الأمن العام»، التابع لقائد «الهيئة»، حتى شملت مئات الموقوفين العسكريين من الجماعة. ثم جرى الإفراج عن معظمهم فجأة، مع الاعتذار عما تعرضوا له من اتهام وتعذيب وإهانة بيد الأمنيين. وتوّج ذلك بإطلاق سراح أبي مارية القحطاني قبل شهر.
وخلال ذلك برز فارق أهلي لافت بين الرجلين. فمن جهته كان الجولاني مضطراً إلى اصطحاب بعض رجاله الموثوقين، ممن ينتمون إلى المنطقة التي ينوي زيارتها، لتطييب خاطر القادة العسكريين المبرّئين في المجالس التي أقامتها لهم بلداتهم أو عوائلهم أو عشائرهم. أما القحطاني فقد جرى استقباله بأرتال كبيرة من السيارات المسلحة، ووجد فوراً من يفتح له مضافة واسعة لاستقبال المهنئين الذين ينادونه بقلب «الخال» ويُلبسه بعضهم العباءة في إشارة تقليدية إلى الزعامة، فيما أهداه آخرون سيوفاً كان أحدها حجة من اغتاله إلى معانقته وتفجيره.
هكذا، وبشكل مدهش انقلب موقع طرفي معادلة «المهاجرين والأنصار» فبدا العراقي متجذراً في المكان أكثر من السوري. لم تكن المشكلة في الرمزية فقط، فمن المعروف أن سلطة الجولاني في مسار عسير الآن. وإذا أمكنه الاستخفاف بالمتظاهرين ضده لأنهم لا يملكون قوة مباشرة فإن هذا لا ينطبق على أبي ماريا الذي يزوره وجهاء وزعماء عشائر محليون وقادة عسكريون يرتبطون بالأولين بعلاقات قرابة وانتماء سكاني.
لم يرفع القحطاني صوته بتصريح ناري بعد الإفراج عنه ولم يبدِ نزوعاً انتقامياً، مكتفياً بحمد الله على خروجه من «الابتلاء» وبإظهار الامتنان لمن شاركه الفرحة و«النصر»، لكن الجولاني أدرى بما يمكن أن تتركه أشهر الاحتجاز من أثر في نفس رفيق دربه الماكر والمعتد بنفسه.
وسواء أكان زعيم «الهيئة» هو من أرسل من اغتالوا صاحبه، أو أن أبا أحمد حدود، رئيس «جهاز الأمن العام» والعدو القديم للقحطاني، فعل ذلك من خلال علاقة تخادم مؤقتة مع داعش، أو أنها فعلت ذلك من تلقاء نفسها في وقت حاسم؛ فالمؤكد أن الجولاني تحرر من مصدر قلق كبير ربما كان سيواجهه في هذه المرحلة، ليتفرغ لحل مشكلات أخرى كثيرة.