تسرد الفقرات الأولى من رواية "قريناتي" لـ مها حسن، أحداثاً متتالية/ مترابطة نصياً لكنها منفصلة مكانياً وزمانياً، وكل منها مرتبط بشخصية مستقلة، لثلاث نساء، يعشن على فعل الانتقال بين الحلم واليقظة (إيزيس)، أو بين السقوط والنوم (ألماز)، أو بين الكابوس والخوف (لمعان). حضورهن مستقل لكن تزامن الحدث يوحي بترابط يستدعي الاكتشاف.
بينما تسقط أيزيس ويتحطم جسدها، تصحو لمعان من حلم ترى نفسها فيه كذئبة معرضة لسلاح الصياد، في الوقت نفسه تتعرض ألماز لنوبات من الخوف والتشنج وهي تحاول إدراك وجودها بين رحم الأم وبطن الذئبة. كلها حالات متحولة تعيشها نساء ثلاثة بما يشبه التكامل، أو التفاعل أو التقمص وكلها احتمالات مفتوحة تبنيها الكاتبة على مسار الصحفات الـ 300 التي يتشكل منها النص.
القرين هو التواصل الإبداعي مع الذات
(إيزيس، لمعان، ألماز) هن النساء الثلاث اللواتي ستشكل ليست حكايتهن فقط، بل العلاقة الباطنية- الظاهرية- التفاعلية بينهن، المحور الأبرز على امتداد الفصول الخمسة التي تنوع فيها الأديبة بين أنواع القرينات، فبينما تمتلك بعض القرينات مزايا ميتافيزيقية، تظهر لنا المضامين الروائية أن القرائن هي ذواتنا اللامتناهية، وأن ما يكتسي بطابع غيبي أو خرافي في الثقافة الإنسانية ليس إلا هو تواصل مع ذوات خلاقة، ستؤثر كل من (إيزيس، لمعان، وألماز) بالأخرى. إن الرواية تدعو إلى التفاعل الإبداعي بين النساء، إلى التفاعل الفني والتعليمي، وخصوصاً أن واحدة من القرينات كردية المنشأ والثقافة، وهو خيار واضح تسعى الكاتبة من خلاله التأكيد على التفاعل الثقافي العربي الكردي.
التقمص والغيبيات والجان في سبيل المعرفة
في الفصل الأول (قريناتي البعيدات) تروي إيزيس عن حياتها، هي التي تعمل كمحررة في بيروت، لكن اعتقاداً عميقاً لدى أمها بالتقمص يمتد إلى فكر (إيزيس) ويدفعها إلى الاعتقاد بأن: "حياتي الحالية هي حيوات مستمرة لحيوات سابقة وممهدة لحيوات قادمة". شخصية الأم المميزة باسم (نفرتيتي) هي التي تؤثر على فكر الابنة.
كانت الأم قد كتبت رواية مهمة عن التقمص، جمعت فيها بين الأسطورة والواقع، تتحدث فيها عن حيواتها المتعددة المتناثرة في أرواح الآخرين، لكنها لم تنجح في نشرها، وسرقت منها: "أمي نفرتيتي حلمت بإنجاب ابنة تدعوها إيزيس، نعم هي تؤمن أننا سلسلة من الذوات المتناثرة". وها نحن الآن قرّاء لنص الابنة التي تكمل حلم الكتابة، وكذلك التأثر الفكري، فستؤمن منذ بداياتها بالغيبيات: "صرت مهووسة إذن بعالم الجن، باحثة عن جني متنكر بيننا على هيئة بشر، لأن أبي قال إنهم يظهرون على هيئة البشر". إن هذا الخيار الأدبي يذكر بالأرضية الفكرية الواسعة في الأدب المحلي الشعبي أو التراثي لحضور فكرة "القرين" واستعمالها في مستوياتها الفكرية والجمالية.
تحرص الكاتبة على تزويج النص بالعناصر السحرية، قصص الغولة المتحولة، الماء الجذاب، الأحلام التي تراها القطط، حكايات الجدة. وتنويعات في طبيعة القرينة بين القرينة الطيبة، الطازحة، والمخيفة.
في الفصل الثاني بعنوان (قريناتي القريبات) يجري اللقاء الأول بين (ألماز ولمعان). حين تدخل (ألماز) فضاء الغرفة فإنها ترى نفسها، تشعر بأن وجودها ثنائي الحضور المكاني: "أحست للحظة أنها هي وقد انفصلت عن نفسها تلمست جسدها تأكدت أنه معها، لكن كيف تكون واقفة هنا وبالوقت نفسه هي واقفة أمام اللوحة ترسم؟. كانت لمعان قد رسمتها، رسمت وجه ألماز، وكانت تشبهها كثيراً، تشبه لمعان".
خيار القرائن الميتافيزيقية أو الفوق واقعية يتبدى لاحقاً في الرواية لأجل مضامين فكرية، القرين هو ذات لا متناهية في التواصل، القرين للتواصل الإبداعي والثقافي وليس للقوى الغيبية. وهنا تقترح الرواية ما هو نقيض عند القرين الأشهر في الأدب الروائي القريب (قرين، فيودور دوستويفسكي) الذي يظهر فيها القرين كبديل عن الموظف الإداري المهمش (غوليادكين)، ويأخذ القرين وجوده ومساحته الإجتماعية إلى حد الإلغاء. واستمر حضور القرين في الأدب بشكل مكثف بحيث يشكل سؤالاً عن أصالة الذات، وسماتها التي تميزها بهوية مستقلة، فالذات والقرين علاقة نموذجية لحبكات الأسئلة الوجودية والنفسية. لكن الرواية الحالية تتميز بإلاقتراح الإبداعي الذي تشكله القرينات بالنسبة لحياة الأخرى وشخصيتها ومهاراتها: "كانت ألماز منزوية ترسم كالميتة حتى أعطتها لمعان الحياة، لمعان جاءت لألماز بالحياة، ألماز أعطت إيزيس الحياة، كأنهن يتبادلن الطاقة بالحياة والبهحة. بينما كانت لمعان تتعلم العربية والإنجليزية والرسم والرقص، كانت ألماز ترقص وتحكي، وكانت إيزيس منهمكة في تدوين حكاية ألماز".
القوى السحرية للمعرفة
إن لجوء الكاتبة على عوالم الغيبيات، القرينات التي تقربهن من الجن والسحر، هو لتبيان على قدرة المعرفة، فيأتي على لسان ألماز: "لقد رُويت عني الحكايات المضحكة، حكايات لا يستطيع البسطاء تفسيرها إلا وفق منطق الجان والإنس والقوى الغامضة، أجل، لدي قواي الخارقة، كما لدى النساء جميعهن، فقط علينا اكتشاف هذه القوة في كل منا".
فالصفحات الأولى من الرواية تتضمن فكرة محورية في كامل تجربة النص، إن مميزات الكاتب/ الكاتبة وحدها التي تمنح الاعتقاد بقدرات تدفعه لبناء علاقة مع ثلاث قرينات على هذه الشرطية المركبة في ابتكار الحكايات والمشاعر والأفكار: "وحدهن الكاتبات يستطعن رؤية المشهد كاملاً دون وسمه بالتواطؤ، بل تستطيع الكاتبة التوقف عن إيراد عشرات الأمثلة من الأحداث التي تراها أمامها، دون أن تحتاج إلى البرهنة على أن كلا من هؤلاء النسوة الثلاث على الأقل، بل ثمة أخريات، يخضعن لشروط متشابهة في ولادة الحكايات والمشاعر والأفكار ، وربما الأقدار. هكذا تبدأ امرأة ما هذا الكتاب معتقدة أنها ترتبط مع ثلاث نساء على الأقل، في أحد مصائر ومسببات، يحرك أحدهما الآخر".
والمقصود بالكتابة هي المعرفة. إن هذا المضمون المتعلق بقدرة الثقافة والمعرفة بالاقتراب من الغيبيات وتطويعها على الفكر الذي قام عليها الأدب والفن الرعوي، ذلك الفن الذي اهتم بالمرحلة الحضارية التي كان الإنسان ينفصل فيها عن الطبيعة، ليركن إلى قوة المعرفة والفن. من أشهر نصوصها المسرحية الأخيرة التي كتبها شكسبير (العاصفة/ 1611).
سلطان المعرفة والفن على الطبيعة
الأدب الرعوي، الموسيقا الرعوية، والمسرح الرعوي هو الذي اهتم بموضوعات انتقال التجربة الإنسانية من الخضوع إلى الغيبيات ليدافع عن المعرفة والعقل. فالشخصية الرئيسية (بروسبيرو) يملك القدرات السحرية في التحكم في الطبيعة، والجان، والقوى الخارقة من خلال معرفته بالفنون والآداب. فليس بروسبيرو إلا متمكن من معارف الآداب والفنون ولذلك نراه قادراً على التحكم بالجان وتطويع فوضاهم. لقد ركز على أبحاثه ودراساته فخدعه أخوه (أنطونيو) الذي اهتم بإدارة الدولة وخدع أخاه واستلم الحكم عنه.
بروسبيرو الآن منفي في جزيرة مع ابنته الوحيدة، ويسعى من خلال أحداث المسرحية لإعادة العدالة والحق. يمثل الأخ أنطونيو الجانب السياسي والانتهازي، بينما يمثل بروسبيرو الجانب الفني والمعرفي. أما صراعه مع القوى الماورائية فيكون مع الجني (كاليبان).
إن المقدمة المميزة التي رافقت طبعة (آردان) بقلم (فرانك كيرمود) تبين هذه الموضوعة بوضوح: "العاصفة هي دراما رعوية وهي تنتمي إلى ذلك النمط الأدبي الذي يعنى بالتضاد بين الطبيعة والفن"، عالم الفن عند بروسبيرو وعالم الطبيعة عنده كاليبان. فهو يقاس بالنسبة للإنسان المتحضر، والطبيعة هنا تتعارض مع الفن، بينما الفن هو سلطان الإنسان على العالم المخلوق وعلى نفسه، أما طبيعة كاليبان فهي التي لا تدفعه إلى التفكر ولا للعبودية ، وليس للحرية. أما بروسبيرو يمثل الإنسان المتمدن، وما قواه السحرية إلا المعارف الفنية، هذا الفن الذي يدعو إلى الفضيلة، يسمو على الطبيعة بالمعرفة التي تقف على النقيض من السحر الأسود. إن الفن مرتبط بتلك المعرفة المسمّاة تربية، هي ذلك القيثار أورفيوس، ذلك العود في يد آمفيون، التربية التي أحسن الشعراء تصوير معجزاتها بين مخلوقات تفتقر إلى العقل والإدراك ، المعرفة هي التي تخلق الجمال من بين القبح، والنظام والقواعد من بين الفوضى والإضراب. فن بسروسبيرو. وهذا الفن هذا الفن على نقيض الخضوع للطبيعة". الذي يمثله الجان في نص شكسبير والجان في رواية (قريناتي). فالنص الشكسبيري والجن القريني لمستويات ثلاثة من الطبيعي- الحيواني- البشري والعقلي.
يظهر ذلك في رواية (مها حسن) أيضاً، فالقدرات الفنية الناتجة عن الجهد والبراعة، يُعتقد شعبياً بأنها تنطوي على قوى غيبية: "كانوا يرون في لوحاتها فعلاً يقوم به الجان، وكان البعض يروج بأنها ترسم وهي مسكونة بالجان". أما المضمون الأدبي من العمل الروائي فهو مغاير تماماً، إن التواصل بين القرينات الثلات هو حالة إبداعية ليست غيبية، لكن ما تختلف فيه الرواية عن النظرية الرعوية هو ما تقرؤه إيزيس في كتاب (نساء يركضن مع الذئاب، الاتصال بقوى المرأة الوحشية، كلاريسا بنكولا)، وتتبنى مقوله، وهو أن الفن هو ناتج عن اتصال المرأة مع هذه القوى". لتعارض النظرة الرعوية متبنية وجهة نظرها: "بارتباط الفن بالحالة الوحشية لدى المرأة. أن الفن يمثل الغابة غير المكتشفة، كلما كانت الفنانة أميل للوحشة بداخلها، اقتربت من الفن".