يقول محمد خير موسى إن المبالغات التي وسمت كثيراً مما كتب عن القبيسيات دفعته إلى تأليف كتاب معلوماتيّ محض عنهن، يبتعد عن التحليل ويؤجل إصدار الحكم، نُشر مؤخراً عن دار كتاب سراي بإسطنبول بعنوان «القبيسيات: الجذور الفكرية والمواقف السلوكية». معتمداً على معرفته المباشرة لأنه ابن الوسط المشيخي في دمشق، وقد خبِر تياراته الدعوية بمعرفة المعايش عن قرب. لكن الأهم هو الشهادات الحية من أكثر من خمس وعشرين من الآنسات والمشرفات والطالبات القبيسيات، سواء ممن لا زلن في الجماعة أو ابتعدن عنها، منهن في الصف الأول أو الثاني. مما كانت حصيلته خمساً وستين ساعة صوتية ومئة وثمانين مقابلة مكتوبة.
بدأت الدعوة، كما هو معروف، مع منيرة القبيسي التي كان والدها تاجراً فلسطينياً يتنقل بين بلده وحوران حتى استقر في دمشق أوائل القرن العشرين، حيث ولدت ابنته هذه عام 1933، ودرست حتى تخرجت في كلية العلوم وبدأت حياتها العملية بالتدريس في حي المهاجرين. غير بعيد عن جامع «أبو النور» الذي كان الشيخ أحمد كفتارو يضع فيه أسس جماعته التي اتسمت بجسد نسائي نامٍ انخرطت منيرة فيه وتميزت، حتى صارت «آنسة» لم ينغص عليها إلا منافسة ابنة الشيخ التي رأت أن من حقها تصدّر المشهد رغم صغر سنّها.
انسحبت منيرة، بعد أن تلقت في هذا الجو الطريقة النقشبندية، وتحولت لحضور دروس الشيخ عبد الكريم الرفاعي مؤسس «دعوة زيد». وقررت أن معارفها الدينية يجب أن تتوسع بالدراسة في كلية الشريعة، حيث احتكت بعدد من أساتذتها من قادة جماعة الإخوان المسلمين، كمصطفى السباعي مؤسس الكلية وفرع التنظيم في سوريا، وعصام العطار خطيبها المفوّه في مسجد الجامعة. وبهذا جمعت بين مشارب إسلامية مختلفة ستتضح آثارها المتنوعة حين ستؤسس
تنفر «القبيسيات» من هذا الوصف الذي ينسبهنّ إلى الآنسة المؤسِّسة. ويؤكدن على اسم «الدعوة» ليعبّر عن جماعتهن
جماعتها النسائية المستقلة، رافضة الزواج كي لا يشغلها. وقد تلقت الدعم من شيوخها ومن سلالاتهم الأسرية والمنهجية، طالما أنها تنشط في ميدان لا يولونه اهتماماً خاصاً، وتعنى بتكوين «المرأة الصالحة» التي قد يتزوجونها أو ينصحون بها تلامذتهم. مع بقاء ظلال من الحساسية بين القبيسيات وبين الجناح النسائي للكفتارية.
تنفر «القبيسيات» من هذا الوصف الذي ينسبهنّ إلى الآنسة المؤسِّسة. ويؤكدن على اسم «الدعوة» ليعبّر عن جماعتهن. ولكن النسبة إلى الآنسة الكبيرة لازمتهن في البلدان التي توسعن إليها خارج سوريا. فهن «السحريات» في لبنان، نسبة إلى سحر الحلبي المتوفاة مؤخراً، التي نظّمت الجماعة ورأستها بعد أن أسستها هناك أميرة جبريل، شقيقة قائد «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» دون أن تتطابق معه. وهنّ «الطبّاعيات» أو «بنات فادية» في الأردن، نسبة إلى الدمشقية فادية الطباع التي نقلت الدعوة. و«بنات فدوى» في فلسطين التي انتشرن فيها انطلاقاً من نابلس (دمشق الصغرى) على يد الآنسة فدوى حمّيض. أما في الكويت، التي انتقلت إليها أميرة جبريل بعد لبنان وأسست «جمعية بيادر السلام النسائية»، فعرفن بـ«بنات البيادر».
أثناء ذلك كانت الجماعة تمتد إلى المدن السورية، وصولاً إلى حلب التي كانت عصيّة نسبياً بسبب هيمنة شيوخها المحليين. وتجد مواطئ أقدام لها في مصر وبعض الدول الأوروبية وأميركا وكندا، ثم تركيا وبعض الدول الإسكندنافية مع موجات اللجوء السوري الأخيرة.
ركّزت آنسات الدعوة على استقطاب الطالبات والخريجات الجامعيات، واستهدفن بنات الطبقة الثرية دون الاقتصار عليهن. ولعل تضافر هذين العاملين أشاع في الجماعة شعوراً واسع الانتشار بالنخبوية والأفضلية والاستعلاء على الأخريات في الوسط الديني وخارجه. كما انعكس في تمييز بعض الآنسات بين الطالبات داخل الحلقة بناء على الوضع المادي والاجتماعي مما تسبّب في نشوء الحساسيات بينهن أحياناً.
كيف لا و«الآنسة» محور حياة طالبتها؟ فقد احتفظت الجماعة من جذرها الصوفي بطبيعة علاقة الشيخ بالمريد. فالآنسات «أهل الله» والفتيات الناشئات موضع الشك ومحل المعاصي التي تهوّم في المكان تبحث عن صاحبتها التي يعيّنها «الإلهام» الذي قد يُلقى في قلب الآنسة. من هنا فلا خصوصية للطالبة عن آنستها. وقد جرت العادة، دون تعليمات صريحة، أن تستشيرها في أدق شؤونها وأن تكون كلمتها عندها مقدَّمة على قول الأهل وربما الزوج. ومن هنا نشأت علاقات حب مرَضيٍّ وتبجيل مبالغ فيه، وتنافس طفولي على نيل رضا الآنسة. التي كانت كثيراً ما تقابل ذلك بالقسوة، من باب القناعة أن الشدّة ستحفظ على البنات التزامهن وابتعادهن عن الميوعة.
حظي الانخراط في سلك التعليم باهتمام بالغ من الجماعة، ولا سيما الحكومي منه، حسب رواية المؤلف الذي ينقل أن الآنسة منيرة ومن حولها من الآنسات كنّ يشجعن الطالبات الخرّيجات على الوظيفة الرسمية. ولعل هذا قبل أن تمتلك الجماعة عدداً كبيراً من رياض الأطفال والمدارس الخاصة المتميزة التي لم تحظ بالتغطية الكافية في الكتاب رغم آثارها المجتمعية بعيدة المدى، ودورها في تنشئة بيئة داعمة من الذكور، وفعاليتها الاقتصادية. وهو الجانب الآخر الذي لم يأخذ حقه كذلك، ولم يذكر إلا عرَضاً عند الحديث عن معركة الجماعة مع مدير أوقاف دمشق، عبد الله دك الباب، منذ توليه منصبه في منتصف التسعينات وحتى سجنه بتهم الفساد. إذ يكتفي الكتاب بإخبارنا أن الخلاف كان على «أوقاف تقدر بمئات الملايين من الدولارات» للجماعة «علاقة مباشرة بها». وفي موضع آخر يشير إلى استخدام القبيسيات «الهدايا» بقصد «رد أي استهداف لهن من الجماعات المشيخية أو الجهات الرسمية»، ابتداء بالبسيطة وصولاً إلى إهداء منزل!
للقبيسيات تراتبية صارمة يميزها لون غطاء الرأس. تبدأ، من القاعدة إلى القمة، بطالبات الحلقات المفتوحة؛ اللواتي يحضرن الدروس العامة ويرتدين الحجاب الأبيض. ثم طالبات الحلقات الخاصة؛ اللواتي دخلن في جسم الجماعة وبدأن بتلقي دروسها ويرتدين الحجاب البترولي (البحري). فالآنسات المشرفات؛ اللواتي يتولين التدريس في الحلقات ويلتقين بشكل دوري لتقييم عملها ويرتدين الحجاب الكحلي. وأخيراً الآنسات الكبيرات؛ المقربات من الآنسة منيرة ويلتقينها دورياً للبحث في شؤون الجماعة واتخاذ القرارات اللازمة، على الأقل حتى الوقت الذي كانت فيه صحتها تسمح بذلك. وهنّ، مع الآنسة منيرة، من يُسمح لهن فقط بارتداء الحجاب الأسود. وعلى رأس الهرم «الآنسة» أو «الحجة»، فإن أطلِق هذان الوصفان دون اقترانهما باسم فهو يعني منيرة حصراً.
أما المناهج التي تُدرّس فتجمع حفظ القرآن وتجويده وعلوم الفقه والحديث والعقيدة والتفسير والسيرة وبعض الثقافة الإسلامية. تنتمي الكتب المقرّرة إلى الوسطية الفكرية الإسلامية وتعتمد ما هو متوافر ومسموح. فخارج سورية تُوجَّه الطالبات إلى «بعض» كتب سيد قطب ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي، أما داخلها فقد اعتمدت العديد من مؤلفات محمد سعيد رمضان البوطي، حتى حلّت بدل هذه الكتب العامة مناهج وضعتها بعض آنسات الجماعة، كلما أتيح الأمر، في العقيدة أو الفقه أو السيرة...
مثل الجماعات الصوفية، ترتبط هرمية القبيسيات بـ«تسليم الوِرد». لكنه هنا مكوّن من الخلطة التي شكّلت المؤسِّسة. إذ يجمع بين «وِرد الرابطة» الذي تختص به الطريقة النقشبندية، و«الصلاة النارية» على النبي التي اعتمدها الشيخ عبد الكريم الرفاعي، و«دعاء الرابطة» الذي وضعه حسن البنا، مؤسس الإخوان المسلمين.
في ظل هذا الإعلان الصارخ عن الذات وتحديد المرتبة شكلاً، والمناهج الدرسية المفتوحة، يتساءل المؤلف عن مدى دقة وصف الجماعة بأنها «سرية»، مفضِّلاً وسمها بأنها «مغلقة»، تمارس السرية بهدف التقوقع على الذات بما يحفظ وجودها وكيانها. منبّهاً إلى أن حملة إخراج الجماعة من البيوت وتمكينها من التدريس في المساجد بحرية في 2005، التي تبناها البوطي لدى الأجهزة الأمنية ومحمد حبش في مجلس الشعب؛ لم تكن مطلب الجماعة التي كانت ترغب بالبقاء في إطار النشاط المنزلي، بل نتيجة نصائح أصدقائها المشايخ هؤلاء، وخاصة مع ما تعرضت له من تشكيك وهجوم وسخرية في الإعلام المرئي.
يصل الكتاب أخيراً إلى ما أثار أوسع موجة من انتقاد القبيسيات، والانشقاق عنهن، إثر الثورة السورية. ليلاحظ أن الموقف الأصلي للجماعة كان الصمت خلال السنوات من 2011 وحتى غاية 2013، وتحمّل ضغوط النظام باتجاه اتخاذ موقف مؤيد له، وفي المقابل مطلب قطاع واسع من القاعدة الممتدة في أرياف دمشق الثائرة بتبني موقف معارض واستنكار ما يجري من جرائم. حتى لم يعد الحياد ممكناً، بالتوازي مع تراجع زخم الثورة، فحضرت بعض الآنسات لقاء استقبل فيه بشار الأسد وفداً متنوعاً من داعيات دمشق، في كانون الثاني 2014. وفي الشهر التالي ألقت سلمى عيّاش، وهي طبيبة من الآنسات القبيسيات الكبيرات وأخت زوجة وزير الأوقاف، كلمة «الدعوة النسائية» في مؤتمر عقدته الوزارة، أثنت فيها على «توجيهات السيد الرئيس» الذي لن يتأخر حتى يصدر، في الشهر اللاحق، مرسوماً بتعيينها بمنصب معاون وزير الأوقاف لأول مرة في سوريا.
وكان واضحاً أن الجماعة قد اتخذت قرارها، منذ ذلك الوقت، بالانحياز الهادئ للنظام.