أثارت صور اللقاء الذي جمع بشار الأسد بعدد من الداعيات الإسلاميات في دمشق موجة سخط كبيرة لدى جمهور الثورة. وهو ما تكرر كلما حصل لقاء كهذا في السنوات القريبة الماضية وأعقبته تصريحات رؤوس هذه الداعيات المؤيدة للنظام والمشيدة بتوجيهات رئيسه.
والحق أن هذه الجماعة النسائية المعروفة باسم مؤسستها «القبيسيات» تمر ببعض أحرج أيامها مؤخراً، إذ تتعرض للانتقاد الحاد من أطراف ثلاثة.
فمن جهةٍ تعدّ هذه الجماعة أحد الهواجس الثابتة لدى القاعدة «العلمانية» المزعومة للنظام، إلى جانب عدة أثافٍ أخرى في نظرهم، من الفريق الديني الشبابي وحتى وزارة الأوقاف، وما ينتشر بينهم من شائعات عن أموال طائلة تنفقها الحكومة لترميم الجوامع في المناطق المسيطَر عليها، والتي كانت موطن «الإرهاب»، بدل أن تُصرف لتحسين البنية التحتية والخدمات ودعم أسر «الشهداء».
ومن المعروف أن هذه القاعدة البشرية الواسعة طائفية أساساً، وأن مزاجها الانتصاري خلال السنة الماضية أبرز مخالب استئصالية تجاه ما رأت أنه كان حاضنة الحراك المتمرد بالنظر إلى أن «المسلحين» خرجوا من المساجد أساساً، وباعتبار أن الفاصل بين المتدين السنّي العام وعضو الإخوان المسلمين والمقاتل الداعشي مجرد فوارق واهية في الدرجة لا في النوع، وتخضع للتقية.
لا يأبه هؤلاء لضرورة مراعاة الحكم حساسيات كل مواطنيه بما أن عقيدة «البوط» أثبتت نجاعتها، ولا يفهمون لماذا يصر «السيد الرئيس» على محاباة هذه الجهات المسمومة الغادرة وبسط حمايته عليها!
الجهة الثانية التي تلعن القبيسيات هي معظم جمهور الثورة
الجهة الثانية التي تلعن القبيسيات هي معظم جمهور الثورة. وهذا أمر يسير الفهم، إذ يبدو للثائرين أنه من البديهي في أي جماعة مسلمة أن تدين المنكر المتجلي في قتل الناس واعتقالهم وحصارهم وتهجيرهم، وهو ما لم يخلُ منه أحد الأيام السورية منذ 2011 بشكل صارخ، لا أن تمنحه الشرعية وتكيل لرئيسه المدائح. وقد بدأ هذا النقاش منذ اندلاع الثورة وأدى إلى انشقاق عدد وافر من متّبعات الجماعة عنها، دون أن يُحدِثن فيها شرخاً عمودياً واضحاً أو يؤثرن على هيكليتها العامة.
القطاع الثالث من المنتقدين أقل انسجاماً وأخفض صوتاً، ويتكون من فتيات ونسوة كنّ في هذه الجماعة، أو وقعن تحت تأثيرها بسبب الجو العائلي، ثم انفككن عنها مع تقدم العمر وربما الوعي. تحتفظ هؤلاء لتلك الأيام بذاكرة مريرة يمكن تشبيهها بتجربة المتحررات من سطوة تربية الراهبات المتزمتة المفعمة بالإشعار المستمر بالذنب وبهاجس نيل رضا الله عبر الاستجابة الوسواسية لتعليمات «الآنسة».
يضاف إلى هؤلاء عدد من الذكور الذين تعرضوا أثناء نشأتهم، وإن بنسبة أقل، لآثار بيئة القبيسيات في المدارس الخاصة العديدة التي افتتحنها، وخاصة في دمشق.
وبالنظر إلى عمر الجماعة، الذي جاوز الخمسين عاماً، فإن عدد من عبرنها من التابعات السابقات ملحوظ، وهن يقدّمن شهادات حارّة طويلة تستهوي الكثير ممن يريدون الكتابة عن هذه الجماعة «الغامضة» ذات التراتبية الخفية والتمدد الثابت.
بعيداً عن النفخ في الأوهام، لم تتمكن هذه الكتابات من الوصول إلى عمق في الجماعة لا يشفّ عنه سطحها، كما لم تستطع ذلك أجهزة المخابرات التي تتكون من متربصين. إذ ليس لدى القبيسيات بعد سياسي ولا طموحات سلطوية ولا تعليمات سرية ذات بال. إنهن جزء متين من التدين الشامي التقليدي العنيد والمداور، الذي يصرّ على البقاء في أحلك الأزمنة ولا يبالي، في سبيل ذلك، بتقديم التنازلات الشكلية لأولي الأمر، ليرث قروناً من التعايش المشيخي مع سلطات مستبدة عديدة، تمضي ويبقى، يكرر ما ألفه من المحافظة على الصلوات والحجاب والأذكار وتدارس القرآن والسنّة والفقه السنّي.
خارج العاصمة امتدت الجماعة إلى بعض المدن وحتى إلى خارج البلاد، لكن أجنحتها هذه ظلت هشة و«مسبقة الصنع» لأنها افتقرت إلى «الخلطة السرية» التي ميّزت القبيسيات وحمت نشاطهن رغم موجات سابقة من الشك فيه أو التضييق عليه في السبعينيات والثمانينيات وحتى قبيل الثورة. لا تتكتم كبريات «الآنسات» على هذه الخلطة لكنها، ببساطة ودون أن يقصدن أو ربما يعرفن، غير قابلة للاستنبات والنمو المكين خارج تربة دمشق وسرّانيتها العريقة، ودون هوائها الخاص وسقايتها الرمزية من بردى والفيجة.
يميل الإسلام «الشامي» إلى مهادنة الحكام والبذر على المدى الطويل. وهو يعي أن رفع الرأس قد يعني الاجتثاث وتعرض المجتمع الأهلي لخطر ضياع «هويته» حين يفقد مرشديه بالقتل أو الاعتقال أو الهجرة. ولذلك يحذر المواجهة التي قد ينخرط فيها بعض أبنائه الغيورين، دون أن يباركهم أو يتبرأ منهم بانتظار أن تُحلّ الأمور.
ما يميز القبيسيات عن تيار التدين الشامي العام هو «التعضّي»، وهو مصطلح بيولوجي يعني اجتماع بعض الخلايا لتكوين عضو محدد من الجسد
ما يميز القبيسيات عن تيار التدين الشامي العام هو «التعضّي»، وهو مصطلح بيولوجي يعني اجتماع بعض الخلايا لتكوين عضو محدد من الجسد، مما يشكّلها كذلك بصورة نهائية ويُفقدها قدراً من المرونة الحرة. وهو ما تمكن رؤيته في التصلب النسبي للجماعة وتيبّس قوقعتها، وعندما نلحظ أن الحفاظ على نشاطها بات مقدّماً لديها حتى على وظيفتها الهوياتية والأيديولوجية الدينية، وإن لم تغب الأخيرة طبعاً بل هبطت إلى الدرجة الثانية مقابل صعود بقاء «التنظيم» إلى المرتبة الأولى، وهو ما يحصل لجماعات كثيرة.
تعرف القبيسيات ما يجري في سوريا وماذا يفعل بشار الأسد لكنهن اخترن مداهنته وتملقه، وهو سلوك مجمل السوريين في السابق والكثير منهم حتى الآن. وهنّ لسنَ بحاجة إلى الإعلان عن ذلك أو تداوله ولو بشكل شفوي داخلياً، فهذه إحدى السمات المعروفة للخلطة!
أما ما يقال عنهنّ فأمر لا يهمهنّ طالما أنه غير مؤثر. ولذلك يبدو الخطر الذي قد ينجم عن المشاعر الحاقدة لحاضنة النظام الطائفية مصدر قلق أكبر من انتقاد جمهور الثورة، بالنظر إلى أن هذا الأخير يحاجج بناء على «المبادئ» التي تظن القبيسيات أنهن خبيرات في إدارة العلاقة الخطرة والمركّبة معها وأنهن «يعرفن ما يفعلن». فيما تصل أصوات الأولين بسهولة إلى مسامع طائفية متقبِّلة وفاعلة في أمن النظام، مما يستوجب زيادة جرعة الولاء المعلن لرئيسه إلى مستويات غير مسبوقة إن لزم الأمر، والتبرؤ مما يمكن أن يثير أي شبهات.
قد تكون من القلة التي تتفهم موقف الجماعة، أو من الكثرة الذين يدينونه -بمن فيهم كاتب هذه السطور- لكن هذا ليس مركزياً بالنسبة إليهن طالما أن الباصات ستنطلق، كالمعتاد، صباح الغد لتحمل عشرات ألوف الطلبة إلى مدارسهن، وأن مئات منهن ستجتمعن مساء، في أحياء عديدة على طول دمشق وعرضها، وتستمر الدروس...