استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تخرج جولة الملاكمة المباشرة- الأولى من نوعها منذ عقود بين إسرائيل وإحدى دول الشرق الأوسط الرئيسية، إيران- بالتعادل الذي أرضى الطرفين.
فقد ضبطت واشنطن إيقاع الضربة الإيرانية التي خرجت في الثالث عشر من الشهر الجاري وكأنّها استعراضية، بعد إبلاغ العدو والصديق بموعد الضربة وإعلان انتهائها واعتمادها مبدأ الضخ الإعلامي والعدد الكثيف من الطرق الهجومية، حيث أطلقت بحسب مصادر إعلامية متنوعة حوالي 185 مسيرة و36 صاروخ كروز و110 صواريخ أرض أرض.
وبغض النظر عن أثر الضربة الذي أرادت لها كل الأطراف أن تكون بهذا الحجم إلا أنها بحد ذاتها شكّلت سابقة، أوجبت رداً إسرائيلياً حتمياً، ولكن مجدداً تحت السقف المقبول والذي لا يستدعي الرد المضاد، حيث ردت إسرائيل فجر الجمعة 19 أبريل على الهجوم الإيراني باستهداف أصفهان وتحديداً قواعد عسكرية قيل إنها كانت مركز انطلاق المسيرات التي استهدفت إسرائيل، بعد ذلك لم تتبن إسرائيل العملية وخففت إيران وإعلامها بشكل كبير من أهميتها وأثرها لتعود الأمور إلى مجاريها وتنتهي الضربات المباشرة وتستأنف الحرب بالوكالة.
الخلاصة الرئيسة لردة الفعل العربية الشعبية والجماهيرية هي أن العرب لا يملكون مشروعاً وأنهم اليوم اللقمة الأهم على موائد الآخرين.
ما كان لافتاً في هذه الجولة هو حجم الانقسام العربي والتفاعل مع الحدث، حيث كانت التعليقات بمعظمها عاطفية تعبر عن واقع الأزمة التي يعيشها العرب، إذ اتجهت الغالبية العظمى لاعتبارها مسرحية للإيحاء بأنه لا عداء بتاتاً بين إيران وإسرائيل، وأن كل ما يحصل بين الطرفين هو منسق للقضاء على القوى العربية، واليوم بحسب هؤلاء هناك مؤامرة على العرب حتى في غزة وإيران لا تعنيها غزة لا من قريب ولا من بعيد.
بالمقابل، خرج فريق ثان يهلل للضربة الإيرانية ويتغنى بحجمها العريض ويعتبر بأنها مرّغت أنف إسرائيل بالتراب، وبأنها ضربة شبه قاضية تكاد على إثرها تتهاوى إسرائيل كما أنها من وجهة نظرهم تقدم خدمة مهمة جداً لغزة وتؤكد وحدة الساحات.
الأكيد أن الحقيقة لا في هذا الاتجاه ولا في ذاك، ولكن المشكلة لا تكمن في الحقيقة نفسها، بل في دلالة ذلك على واقع الجمهور العربي ومن خلفه واقع مسؤوليه. فالخلاصة الرئيسة لردة الفعل العربية الشعبية والجماهيرية هي أن العرب لا يملكون مشروعاً وأنهم اليوم اللقمة الأهم على موائد الآخرين، فمنذ بضع سنوات تقاطرت الدول العربية لمد اليد لرئيس النظام السوري بشار الأسد لاستعادة العلاقة المشتركة معه لمصالح الدول كل دولة على حدة دون أن يكون هناك مشروع عربي جامع ودون التمحيص أساساً بمآلات أو مكاسب إعادة تأهيل وتطبيع العلاقة مع الأسد.
منذ عقود أطلق الثعلب كيسنجر عملية فصل العرب وتركيز التفاوض بشكل متفرق بين كل دولة على حدة بعد أن كانت تتفاوض معاً ولو بشكل ظاهري ومن حينها لم يقم أي مشروع عربي جامع ولا حتى نظرياً.
اليوم مجزرة غزة تؤكد المؤكد بغياب أي مشروع عربي وتزيد التأكيد على آثار تلك السلبية على البلاد والشعوب. فمن أبجديات غياب المشروع توزع اللاعبين على المشاريع الموجودة أساساً، فنرى ردود أفعال الدول العربية تجاه الضربة الإيرانية التي عمّقت الانخراط الخليجي والأردني في المشروع الأميركي-الإسرائيلي فرأيناها تباشر في الدفاع عن إسرائيل كالأردن أو المساعدة الضمنية كعدد من دول الخليج في مقابل الدول التي تسيطر عليها إيران في المنطقة التي تنطلق من حدود إيران وصولاً إلى البحر المتوسط دون نسيان اليمن.
لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ فإن لكل شيء في هذه الدنيا مكاناً وتموضعاً وطريقاً وحتى الآن لم يشق العرب طريقهم الخاصة وبالتالي وجدوا أنفسهم حبيسي المشاريع الموجودة أساساً ومنقسمين فيما بينها.
الأمر نفسه انعكس على الجماهير فمفهوم أن تكون ردة فعل أصحاب مشروع إيران الإسلامية عن الضربة، التهليل لها لأن ذلك يخدم مشروعهم، ولكن ردود الفعل توضح كذلك بأن العرب تحوّلوا لجمهور على مدرجات السياسة الإقليمية مع رفضهم الإقرار بأنهم خارج السياق محاولين التقليل من شأن الآخرين دون إدراك أن كثرة التحاليل والمبالغة فيها بمنطلقات عاطفية أساساً ليس إلا وجه من أوجه الجمهرة البعيدة عن العشب الأخضر للملاعب.
الجمهور العربي اليوم يشكل انعكاساً لوضع الأنظمة الغائبة عن تأسيس مشروع جامع يضع العرب من جديد على خارطة السياسة الدولية أسوة بغيرها من الأنظمة.
وكذلك على صعيد الفعل الجماهيري المؤثر، فيغيب العرب اليوم بالعصا والجزرة ونرى أن المظاهرات الفاعلة هي في الشق الغربي من العالم حيث غزت المظاهرات المناهضة للحرب على غزة جامعات الولايات المتحدة الأميركية وأصبحت سمتها البارزة وطفا على السطح الحديث عن صراع أجيال في الغرب بين جيل جديد داعم لفلسطين كقضية إنسانية عادلة وبين جيل يحكم مفاصل الحياة السياسية الأميركية تاريخياً ويغرف في عسل الصهيونية الإسرائيلية. أما في الدول العربية فقد انطفأت سريعاً شعلة المظاهرات الفاعلة بينما غابت من أساسها في دول عربية مهمة.
إذاً، فالجمهور العربي اليوم يشكل انعكاساً لوضع الأنظمة الغائبة عن تأسيس مشروع جامع يضع العرب من جديد على خارطة السياسة الدولية أسوة بغيرها من الأنظمة التي تضحي من أجل مشروعها حيناً بشبابها وأحياناً بالشباب العربي. وحتى من انطلق من الدول العربية في تشكيل مشروعه اكتفى بمشروع دولة خاصة دون إدراكه لحجم الترابط الدولي للدول وأهمية المشروع العربي الجامع لدولته ومشروعه الخاص نفسه إن وجد.