منذ أن استخدم أول متحدث عبارة "الضوء الأخضر" للتعبير عن الإذن بالتصرف كما تعبر إشارة المرور الخضراء عن الإذن بالمرور حتى أصبحت تلك العبارة مطروقة بكثرة؛ لدرجة أنها أصبحت تبدو أحيانا وكأنها العبارة الوحيدة التي تعبر عن الإذن وإطلاق اليد. في المقابل، اعتاد المحللون السياسيون والمتحدثون بالشأن العام والسياسات الدولية إطلاق عبارة "الخطوط الحمراء" عوضا عن الضوء الأحمر كتعبير عن المنع والتحذير. وهكذا يبقى من الأضواء التي تتكون منها إشارة المرور الضوء الأصفر الذي يمثل مرحلة انتقالية بين الأخضر والأحمر، وفي السياسة يمكن أن يعني الضبابية والاضطراب وعدم الوضوح، إلا أنه ما زال تعبيرا غير مستخدم.
على إثر تصريح وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" الذي قال فيه إن بلاده لن تطبع مع النظام السوري، وهي لا تشجع شركاءها في منطقة الشرق الأوسط على التطبيع؛ استضافت إحدى المحطات التلفزيونية في أحد برامجها السياسية الممثل الأميركي الخاص السابق لشؤون سوريا "جيمس جيفري". وخلال اللقاء عبر المسؤول الأميركي السابق عن قناعته التامة بأن عملية التطبيع التي أطلقتها الدول العربية وكانت حكومة الأردن محركها الرئيسي إنما تجري بضوء أخضر أميركي، وعندما سأله مدير اللقاء عن تصريح وزير الخارجية الأميركي وهل يعني أن الضوء الأخضر الأميركي تحول إلى الضوء الأصفر أو الأحمر؛ ضحك "جيفري" بشدة، ثم قال: نعم.
إنها "أميركا المرتبكة" كما صورها البروفيسور الأميركي "جون ميرشايمر" في إحدى مقالاته المطولة، والتي كتبها عندما كان الرئيس الأميركي الأسبق "باراك أوباما" مترددا حيال التصرف إزاء النظام السوري
لقد أصبحت الرسائل المتضاربة حيال القضايا الحساسة سمة عامة للسياسة الخارجية الأميركية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تتبع التصريحات الأميركية الخاصة بالحرب الأوكرانية مثلا، أو بخصوص أزمة جزيرة "تايوان"، أو بخصوص الملف السوري وغيره من الملفات الشائكة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل عل أننا أمام دولة تمر بأزمة عميقة وتحاول أن تبحث لنفسها عن مخرج. إنها "أميركا المرتبكة" كما صورها البروفيسور الأميركي "جون ميرشايمر" في إحدى مقالاته المطولة، والتي كتبها عندما كان الرئيس الأميركي الأسبق "باراك أوباما" مترددا حيال التصرف إزاء النظام السوري الذي ضرب بخطوط "أوباما الحمراء" عرض الحائط وقصف غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي بناء على نصيحة روسية مدروسة بدقة.
في ذلك المقال المعنون: "أميركا المرتبكة" نصح "ميرشايمر" الرئيس "أوباما" بعدم انخراط الولايات المتحدة الأميركية في الحرب السورية رغم تجاوز النظام السوري لخطوط "أوباما" الحمراء. كما ناقش تخوف الإدارة الأميركية بخصوص الهيبة والمصداقية الأميركية، وقال حرفياً: "السياسة الذكية فعلاً تقتضي من الرئيس تجاهل الخط الأحمر الذي وضعه، واتباع سياسة عدم التدخل في سوريا". تعدّ تلك المقاربة منطقية لعدة أسباب: الأول أن مشكلة المصداقية جرى تضخيمها أكثر من اللزوم. فكما يشير "داريل جي. برس" في كتابه المهم "حساب المصداقية"، عندما يتراجع بلد ما عن قراراته في خضم أزمة يواجهها لا تتأثر مصداقيته بالضرورة في الأزمات اللاحقة. يقول "برس": "إن مصداقية أي بلد في خضم الأزمات على أقل تقدير، لا تتمحور حول سلوكه السابق، بل حول قوته ومصالحه". فحقيقة أن أميركا تعرضت لهزيمة مذلة في حرب فيتنام، مثلا، لم تدفع موسكو إلى الاعتقاد بأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا الغربية يفتقر إلى المصداقية".
قد تكون مقاربة "ميرشايمر" منطقية فيما لو اقتصر الأمر على تقاعس أميركي في قضية واحدة من بين عشرات القضايا؛ أما أن تضع الولايات المتحدة لنفسها خطوطا حمراء متمثلة بعدم الانخراط بأي نزاع عسكري بشكل مباشر، وأن تطلق التصريحات المتضاربة والمتناقضة التي تشعر الآخرين بأن إشارة المرور مقتصرة على إطلاق الضوء الأصفر؛ فهذا سوف يجعل مقاربة "ميرشايمر" مقاربة غبية وساذجة، فمستوى التقاعس والتردد الأميركي وصل إلى حد أفقد الولايات المتحدة الهيبة والمصداقية لدرجة أثارت حنق حلفائها وتمردهم، ودفعهم للتهديد باتخاذ إجراءات مناقضة للرغبات والمصالح الأميركية، ولعل بعضهم تجاوز مرحلة التهديد وبدأ باتخاذ بعض الخطوات العملية، وهذا ما لجأت إليه تركيا في وقت سابق وبعض دول الخليج في الوقت الراهن.
عندما قررت الإدارة الأميركية ونفذت عملية تصفية الجنرال الإيراني قاسم سليماني، لم تنزلق إلى حرب كبيرة كما يعتقد الكثير من الأميركيين، لكن العملية أرسلت رسالة شديدة اللهجة إلى الكثير من القادة الديكتاتوريين حول العالم، وربما للأصدقاء أيضا
إن التخوف الأميركي المبالغ به من الانخراط في نزاع مسلح جعل الأصدقاء قبل الأعداء غير مكترثين بالقوة الأميركية، فالقوة المعطلة بقرار معلن تجلب فقدان الهيبة، أو كما يقول وزير الخارجية في عهد الرئيس "ترامب" "مايك بومبيو": "الحقيقة هي أنه كلما تحدثنا عن الخوف من الحرب؛ زادت احتمالية انخراطنا في واحدة". والذي كان يعتقد أن خوض الحروب ليس خيارا مفضلا، ولكن يجب التلويح بها وإبراز بعض الجدية لردع الآخرين. وضرب "بومبيو" مثالا أنه عندما قررت الإدارة الأميركية ونفذت عملية تصفية الجنرال الإيراني قاسم سليماني، لم تنزلق إلى حرب كبيرة كما يعتقد الكثير من الأميركيين، لكن العملية أرسلت رسالة شديدة اللهجة إلى الكثير من القادة الديكتاتوريين حول العالم، وربما للأصدقاء أيضا، وكانت النتائج ملموسة.
إن أميركا المرتبكة في عهد الرئيس "أوباما" هي اليوم في عهد الرئيس "بايدن" أكثر ارتباكا، وأكثر فقدانا للهيبة والمصداقية. إنها أميركا "الضوء الأصفر" الذي جعل العالم مرتبكا، وما لم يجد الساسة الأميركيون حلا لمعضلة فقدان الهيبة والمصداقية فمستقبل العالم مفتوح على كافة الاحتمالات، وهي احتمالات تتراوح بين السيئ والسيئ جداً. أما الحراك الدبلوماسي الذي تقوم به الولايات المتحدة في محاولة لترميم ما فقدته من رصيد أو هيبة فلا يجب التعويل عليه إطلاقاً؛ لأن الضوء الأصفر ما زال هو العنوان.