icon
التغطية الحية

الشيخ السوري عز الدين القسام.. مشعل الثورة الفلسطينية وملهم مقاومتها

2023.11.11 | 11:00 دمشق

القسام
الشيخ السوري الفلسطيني عز الدين القسّام
إسطنبول - عبد الناصر القادري
+A
حجم الخط
-A

رفض السوريون بشكل قاطع فصل فلسطين عن سوريا الكبرى بعد انهيار الدولة العثمانية، وحينذاك جاءت لجنة "كينغ كراين" وجابت المدن السورية من أقصى الحسكة في الشمال الشرقي حتى قطاع غزة في الجنوب الغربي.

وفي عام 1919 وصلت اللجنة إلى مدينة اللاذقية لتستطلع آراء الناس في تقرير مصير البلاد السياسي، وكان الشيخ عز الدين القسام في الوفد الذي قابلها. وعندما سُئِل عن رأيه قال: لا حماية ولا وصاية، بحسب ما ورد في كتاب عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين لمحمد شراب.

فأجابه رئيس اللجنة: "إنكم لا تستطيعون إدارة أنفسكم وحماية بلادكم". فرد القسام قائلاً: "نستطيع، وليس غيرنا أقدر منا على ذلك، إذ لدينا قوة لا يملكها الآخرون". وأخرج المصحف من جيبه رافعاً إياه في وجه رئيس اللجنة، وخاطبه قائلاً: "هذه قوتنا".

لم يكن عز الدين القسام يعلم أن اسمه سيكون مالئا السمع والبصر في العالم كله، حارب ضد إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والجماعات اليهودية، حكمت عليه فرنسا بالإعدام غيابياً، وكان على لائحة أبرز المطلوبين للاحتلال البريطاني، ومن أهم الأعداء الذين تريد استهدافهم عصابات "الهاغانا الصهيونية".

من سوريا إلى مصر

ولد محمد عز الدين عبد القادر القسام، في مدينة جبلة بريف اللاذقية غربي سوريا، وكان جده مصطفى (ووالده عبد القادر) من أعيان الطريقة القادرية الصوفية قدِم من العراق إلى الساحل السوري وأقام فيه. أما أمه فهي حليمة القصاب.

في تلك الأسرة الفقيرة المتدينة المتبحرة في العلوم الشرعية والمشهورة بالعلم والصلاح والسمعة التي تفرض احترام الناس؛ وُلِد عز الدين القسام سنة 1882.

وعلى عادة تلك الفترة دخل الكُتّاب للتعلم فدرس القرآن ومبادئ القراءة والكتابة والحساب، وعند بلوغه سن الـ 14 أرسله والده مع شقيقه فخر الدين إلى الأزهر لدراسة العلوم الشرعية. وبعد سنوات من الدراسة، عاد بشهادة الأهلية. 

أثرت الإقامة في مصر على شخصية القسام، فقد التقى بصديقه عز الدين التنوخي، وهو ابن عائلة دمشقية نبيلة، الذي أصبح على علاقة خاصة مع القسام.

ويعتقد أن القسام درس على الإصلاحي الكبير محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، الأمر الذي أثر بشكل كبير على تفكير القسام الصغير الذي بدأ يشتد عوده ويتعرف إلى عوالم أخرى، خصوصاً أن تلك المرحلة كانت فترة تحولات استثنائية مصرياً وعربياً وحتى إسلامياً.

وبحسب المؤرخ الفلسطيني بشير موسى نافع، فإن تأثر القسام بالتنوخي كان شديداً وملاحظاً بتلك الفترة من حياته، فقد كان عز الدين التنوخي (1889 - 1966) مرتبطاً بحلقات السلفية (الشامية أو الإصلاحية) بدمشق في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبعد عودته من الأزهر صرح بآرائه الإصلاحية والعروبية.

وعندما أرسل التنوخي إلى فرنسا لاستكمال تعليمه بالعلوم الزراعية عام 1910، حافظ القسام على العلاقة مع أسرة التنوخي، وبعد الحرب العالمية الأولى كان له دور سياسي في إطار الحركة العربية على عكس القسام الذي أخذ منحاً دينياً ودعوياً بشكل أكبر.

تخلى التنوخي عن انتمائه للجيش العثماني والتحق بفيصل العربي لفترة بسيطة، ولكنه كالعديد من الإصلاحيين الآخرين انتهى به الأمر في القاهرة حيث بقي هناك حتى نهاية الحرب، وبعد تأسيس الحكومة العربية بدمشق التحق التنوخي بالمجلس التعليمي وكانت من بين مؤسسي الأكاديمية العربية في دمشق.

بعد انتهاء تعليمه في الأزهر عاد القسام إلى جبلة، وبعد وقت قصير من عودته، قرر السفر إلى إسطنبول، عاصمة الخلافة العثمانية، للاطلاع على أساليب تدريس الدروس المسجدية هناك. لكنه لم يمكث هناك طويلاً، وعاد مرة أخرى إلى جبلة في عام 1903.

وهناك بدأ عز الدين القسام بتدريس الأطفال في الصباح وتعليم الكبار في المساء، وأسّس مدرسة في عام 1912 لتعليم الأطفال والكبار على حد سواء.

في دعم ثورة المختار

ضربت شهرته الآفاق، وأضحى الناس يعرفونه ويسمعون به في المناطق القريبة وفي طرطوس واللاذقية وبانياس، حتى صار خطيباً في جامع المنصوري يشرح الإسلام ويبين معانيه ومقاصده، داعياً إلى نبذ العنف والطبقية واستغلال خيرات الأرض، وإلى محاربة الفقر والجهل والبؤس.

تشبّع القسام نتيجة دراسته في الأزهر بفكرة الأخوّة العربية والإسلامية، لذا نهض في جبلة واللاذقية يقود المظاهرات المنددة بالغزو الإيطالي لليبيا عام 1911 ويستنفر الطاقات، ويستحث الهمم للدفاع عن الأمة هاتفاً فيها:

يا عرب ويا إسلام

قوموا كلكم على الطغيان

اضربوا أسطول الطليان

في المواني والخلجان

هالأرض العربية

بدها وحدة وحرية

من طوروس للأطلسي

كلها ثورة وغليان

يا رحيم ويا رحمن

غرّق أسطول الطليان

وفي إطار ذلك بدأ بتنظيم حملات التطوع في الساحل السوري، ونسق مع السلطات العثمانية لنقل المتطوعين إلى لواء إسكندرون ثم بالباخرة إلى ليبيا، لكن هذه الباخرة لم تصل نتيجة تفاهمات بين العثمانيين والإيطاليين، فقفل مع المتطوعين عائداً إلى مدينته.

ومع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 تطوّع للخدمة في الجيش العثماني، وأُرسل إلى معسكر جنوب دمشق، فقد كان بعد عودته من مصر يعمل في شعبة التجنيد في جبلة، كما أنه استجاب لدعوة السلطان العثماني للجهاد، وراح يستحث المقاتلين على محاربة أعداء المسلمين، حتى عاد إلى مدينته مُتفرغاً للعلم والوعظ.

فرنسا تلاحقه وتحكم بإعدامه

في عام 1918، احتل الفرنسيون سوريا، حيث دعا عز الدين القسام إلى رفع السلاح والجهاد ضد المستعمر الفرنسي، وعمل على نشر الوعي وحث الناس على المقاومة في خطبه ودروسه. واشترى أيضاً الأسلحة ودرّب المجاهدين.

وفي المؤتمر السوري الأول الذي عقد عام 1919، انضم المندوبون الفلسطينيون عن أكبر المدن مؤكدين على وحدة فلسطين السياسية مع سوريا، اعتماداً على تأسيس أول حكومة عربية في دمشق برئاسة الملك فيصل، وردًا على وعد بلفور بنيّة بريطانيا تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.

وشهدت المرحلة التالية محاولات منظمة للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني، منها عملية كبرى شارك فيها ألفا بدوي مسلم من حوران في سوريا، ومن وادي بيسان في فلسطين، وقاموا بالهجوم على القوات العسكرية البريطانية، في الوقت الذي كانت المقاومة السورية ضد الفرنسيين على أشدها.

وعن طريق التنوخي التقى القسام بالملك فيصل لطلب الدعم، فيصل فرحب به ووعده بتأمين الدعم، إلا أن تقدم الفرنسيين نحو دمشق ووقوع هزيمة ميسلون غيّر الموقف على الملك والشيخ المقاتل.

بعد فترة من استمرار المواجهات مع الفرنسيين في الساحل السوري، أصدرت محكمة عسكرية فرنسية حكمها بإعدام القسام، فتوجه سراً إلى بيروت، ومنها إلى حيفا بفلسطين الواقعة تحت سيطرة الاحتلال البريطاني.

كانت فلسطين موئلاً للهروب من الفرنسيين للكثير من السوريين الملاحقين ومن بينهم القسام والشيخ محمد كامل القصاب أحد أبرز رجال التربية والتعليم في دمشق والحجاز وفلسطين. وبالفعل كان هناك تعاون بين القسام والقصاب في قتال البريطانيين والجماعات اليهودية فيما بعد.

كانت معظم المؤسسات الإسلامية والأوقاف في حيفا تدار من قبل الجمعية الإسلامية، ما سهل على القسام رحلته فعين مدرساً بمدرسة البرج الثانوية، وعيّن القصاب مديراً عليها.

وبعد فترة عُين القسام إماماً لمسجد الاستقلال بحيفا، ثم أنشأ جمعية الشبان المسلمين في أيار 1928، وفي عام 1930، عُين القسام مأذوناً شرعياً لعقود الزواج في المحكمة الشرعية في حيفا، وأتاحت له مهام هذا المنصب فرصة مضاعفة لتوسيع نطاق جهوده نحو الفلاحين، وشجعهم على إقامة تعاونيات زراعية، وتعاونيات لتسويق المنتوجات.

اشتغل القسام في حيفا وأريافها على الفلاحين والعمال الفلسطينيين بادئاً بالطبقات الدنيا من المجتمع، وامتد نشاطه 15 عاماً في عروس الساحل الفلسطيني في حركة دائبة ونشاط مؤثر من الخطابة والدروس والوعظ في القرى، وتعليم العمال ومحو الأمية، يعمل بصمت وكتمان، ولم يتمكن الإنجليز واليهود من كشف حركته رغم عيونهم المبثوثة في كل مكان.

شيخ فلسطين البارز

لم يكن القسام القادم من جبلة الصغيرة التي تبعد عن اللاذقية 25 كيلومتراً، يتوقع أن يصبح واحدا من أبرز الأسماء المتداولة في فلسطين كلها.

بدأ القسام يحرض على التمرد ضد البريطانيين من منبره في جامع الاستقلال، داعياً الناس للتبرع بالأموال للجهاد بدلاً من تزيين المساجد وبناء الفنادق، كما طلب من الناس تأجيل فريضة الحج وتحويل نفقاته لشراء السلاح، ولم يكن لديه فرق في قتال البريطانيين أو الفرنسيين مؤكداً أنه ضد الاحتلال لهذه البلدان المسلمة.

استحضر القسام تجربته النضالية في سوريا، ونقلها إلى فلسطين مع خبرة وتكتيكات جديدة، فقد بدأ بتشكيل ما يُعرف بـ "العُصبة القسامية" وقد كتم الشباب والأصدقاء المنضمون لحركة القسام سر التنظيم وعملوا على تقويته وانتشاره.

المندوب الفلسطيني عن نابلس في المؤتمر السوري الأول محمد عزة دروزة قال في مذكراته عن القسام وعصبته: "كانت حيفا مركزاً هاماً من مراكز العمال العرب، الذين كان كثير منهم من مُشرّدي مُزارعي القرى التي بيعت لليهود وأُجْلوا عنها. وكان لهؤلاء العمال حَيّ خاص مساكنه من التنك والخشب، فأخذ يظهر من هذه الطبقة رجال جهاد منذ سنة 1930 حيث أخذت تقع غزوات جهادية على اليهود ومستعمراتهم في قضاء حيفا، فُهمَ فيما بعد أنها من جمعيات أو حلقات جهادية متدينة وسريّة محكمة التشكيل، كل فرد منها يُجهّز نفسه بنفسه، ويقومون بأعمالهم باسم الجهاد، ولم تستطع السلطات أن تكتشف أسرار هذه الجمعيات، أو تحول دون غزواتها، مع ما بذلته من جهد واعتقال بعض أعضائها".

ثورة البراق

كان بدء المرحلة الجادة في التسلح والتدريب في أواخر عام 1928، عندما خطت العصابات اليهودية خطوة جريئة حيث تجاوزوا المباح لهم عند حائط البراق، وتداعوا من كل أرجاء فلسطين، وتدفقوا إلى الزيارة آلافاً مؤلفة بين مظاهر الحماس والزهوّ، فأثار هذا المسلمين، وتداعوا إلى حراسة المسجد الأقصى والدفاع عنه، مما دفع جماعة القسام إلى الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الإعداد العسكري المسلح.

ثم جاءت ثورة البراق عام 1929 لتعجّل بالتحضير العسكري، والانتقال من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية. طلب عز الدين القسام العون ممن حوله وقام بالاتصال بكُل الملوك والأُمراء والزعامات العربية في ذلك الوقت

شهدت الثورة صدامات بين الفلسطينيين من جهة واليهود وقوات الانتداب من جهة أخرى في الخليل وصفد والقدس ويافا ومدن فلسطينية أخرى، واستمرت أياماً.

أسفرت المواجهات عن مقتل 133 يهودياً وجرح 339 آخرين، في حين قتل 116 فلسطينياً وعربياً وجرح 232 آخرون.

لا

مُشعلُ الثورة الفلسطينية الكبرى

كان ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وازدياد مساحة الأراضي التي استولوا عليها سبباً في إعلان القسام الجهاد العلني من القرى والجبال البعيدة بدءاً من عام 1935.

وفي خطبة القسام الأخيرة، قال : "أيها الناس، لقد علّمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالماً بها، وعلّمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون".

وفي يوم 20 تشرين الثاني 1935، اندلعت مواجهة بين قوة بريطانية ومجموعة صغيرة من الفلسطينيين المسلحين على تلال قرية يعبد في منطقة جنين، وعلى إثر ذلك الاشتباك الذي استمر لمدة ثلاث ساعات، قتل قائد المجموعة الشيخ عز الدين القسام وأربعة من رجاله.

وبعد ذلك أصدرت سلطات الاحتلال البريطاني بياناً وصفت فيه المجموعة بــ "قطاع الطرق"، في الوقت الذي كان فيه للكتاب "الصهاينة" رأي آخر، حيث كتب موشي بيلينسون وهو قائد صهيوني في صحيفة "بالستاين بوست" أن "هؤلاء الأشخاص ليسوا قطاع طرق، لأن أسماء بعضهم ووضعهم الاجتماعي وموقعهم السياسي تعطي شهادة واضحة على انخراط خطباء المساجد، ومديري المدارس ومسؤوليات جمعيات الشبان المسلمين  . إنهم ليسوا عصابة لصوص لكنهم جسم للإرهاب السياسي أولئك الذين واجهوا السلطات في فلسطين".

دفن القسام في حيفا، وقالت جريدة الجامعة العربية في كانون الثاني 1936 "يحتفل أبناء فلسطين بإحياء ذكرى مجاهد من سوريا الشمالية سقط شهيداً في سبيل استقلال سوريا الجنوبية، وليس ذلك فحسب، بل قاد حملة جهاد لعلها الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام الحديث في فلسطين وسوريا والشرق العربي بأسره".

القسام

ملهم الجيل الجديد

كان لمقتل القسَّام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 - 1939)، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك. فقد حدد القسام مسؤوليات القادة من بعده، ووزع عليهم مناطق فلسطين.

وفي عام 1987 تأسست حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وأسست ذراعاً عسكرياً لقتال الاحتلال الإسرائيلي باسم "المجاهدون الفلسطينيون".

وفي عام 1991، اختارت "حماس" اسم "كتائب الشهيد عز الدين القسام" اسماً لجهازها العسكري، تتمركز الكتائب في قطاع غزة ولها وجود في الضفة الغربية ولبنان.

واستمر استلهام اسم القسام في التصنيع الحربي لكتائب القسام، حيث أنتجت صاروخها الأشهر "القسام" محلي الصنع، وأصدرت منه العديد من النسخ.

وفي 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أعادت عملية "طوفان الأقصى" بقيادة كتائب القسام، القضية الفلسطينية إلى صدارة المشاهد كلها، واستعاد اسم "القسام" ألقه كشيخ سوري في فلسطين.