هناك العديد من المشتركات بين عملية طوفان الأقصى، وحرب تشرين (أكتوبر) ضد الاحتلال الإسرائيلي، التوقيت المتشابه، الصدمة، والفشل الاستخباري، ورد الفعل المضطرب، على اختلاف حيثيات حرب كبرى ومعركة خاطفة، وبما يخص القوة الضاربة لقدرات الجيوش النظامية في مصر وسوريا والمساندة العربية حينها، وقدرات كتائب المقاومة ضمن الحصار الخانق من إسرائيل والولايات المتحدة والأنظمة العربية الآن.
خمسون عاماً ويوم، فصلت بين حرب تشرين، وعملية طوفان الأقصى ضد الاحتلال الإسرائيلي، اهتزت على إثرها دولة الاحتلال، وبدت معالم الفشل الاستخبارية والأمنية بشكل كبير جداً.
في هذا التقرير سنقوم بمقاربة تفصيلية لأحداث الساعات الأولى لحرب تشرين والفيلم الذي تناول حياة رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير والأرشيف الإسرائيلي عن الحرب، وكذلك عملية الطوفان وكيف حققت خرقاً استثنائياً لإسرائيل وجدرانها الأمنية الصلبة، في محاولة لفهم تفاصيل مجريات أحداث أثرت وستؤثر على شكل المنطقة العربية التي تحتل إسرائيل قلبها.
فيلم غولدا ووثائق للدعاية
في شباط عام 2023، عرض فيلم "غولدا" في مهرجان برلين السينمائي وليعرض اعتباراً من شهر آب في صالات السينما الأميركية، قبل أسابيع من كشف الأرشيف الإسرائيلي الرسمي حديثاً لوثائق عن الساعات الأخيرة قبل اندلاع الحرب والمؤشرات التي نقلها الموساد إلى القيادة الإسرائيلية للتحذير من هجوم سوري مصري وشيك ضد إسرائيل.
الفيلم بريطاني أميركي، وبطولة هيلين ميرين وكاميل كوتين وليف شرايبر، يحكي قصة الحرب بدعاية إسرائيلية واضحة لا تخلو من التفكك واستجداء العواطف للبكاء على الضحايا.
ويغيب عن الفيلم الطرف الآخر بشكل كامل سوى بعض كلمات عربية من جندي مصري يقتل جنوداً إسرائيليين على الجبهة المصرية دون "رحمة".
ينشغل سيناريو الفيلم على مدى ساعة وأربعين دقيقة في تبرير الهزيمة الإسرائيلية عام 1973، أكثر من كونه سيرة ذاتية لرئيسة وزراء إسرائيل ذات الشخصية القوية ذات أصول أوكرانية ليبرالية صهيونية والكثير من المصادر تؤكد أنها "ملحدة" لا تؤمن حتى باليهودية.
لا يقدم الفيلم أي مادة وثائقية عن الحرب سوى أصوات من غرف العمليات المغلقة ونقل مباشر لصرخات الجنود ووقع الهزيمة والآثار النفسية لكبار القيادات الإسرائيلية وفي مقدمتهم "غولدا".
وفي الغالب كان ذلك حيلة إنتاجية لعدم إبراز حالة البطولة العربية، واستجداء التعاطف مع حركة جسد الممثلين واضطراباتهم النفسية في ساعات حاسمة، وبذلك لا يقدم الفيلم صورة للمقاتل العربي كبطل وأسطوري في مواجهة جيش كاد أن يخسر المعركة مطلقاً لولا الدعم الأميركي الهائل الذي وضعته في مثابة المتعادل، وفق نظرية الفيلم.
ومن المرجح أن كاتب الفيلم اطلع على التسريبات الإسرائيلية أو عرض السيناريو على جهات إسرائيلية قبل العمل على تنفيذ الفيلم لأنه يتطابق تقريباً مع الرواية الإسرائيلية.
قبل أيام قليلة من الحرب، تلقى الموساد معلومات استخبارية من صهر الرئيس جمال عبد الناصر "أشرف مروان" تشير إلى أن مصر وسوريا تستعدان لبدء حملة عسكرية ضد إسرائيل، والتي تم نقلها على الفور إلى غولدا مائير. ترفض غولدا هذه المعلومات الاستخبارية، مشيرة إلى عدم قدرتها على المبادرة بخطة مضادة دون دعم وزير دفاعها، موشيه ديان، الذي هو أيضاً صاحب تخمينات مماثلة.
في حين تكشف الوثائق التي نشرها "تلفزيون سوريا" أن أول معلومة وصلت إلى إسرائيل مؤكدة (بنسبة تزيد على 90%) عن نية سوريا ومصر شنّ هجوم مشترك كانت في الساعة الرابعة من فجر 6 تشرين الأول 1973 أي قبل نحو 8 ساعات من بدء المعركة التي انطلقت فعلياً في الساعة 14:00 من اليوم ذاته.
بالعودة إلى الفيلم، يشعر ديان وزير الحرب الإسرائيلي بالرعب عندما يرى بنفسه الهجوم الشامل الذي شنته القوات السورية ضد الإسرائيلية في مرتفعات الجولان، وهو في حالة ذهول وضعف وارتباك، مهدداً باستخدام السلاح النووي ثم يطلب من غولدا الاستقالة لتطلب منه غولدا الهدوء مع فقدان الثقة الكاملة به بذلك الوقت الحساس.
حليف "يهودي" في أميركا
في اليوم التالي، مع تباطؤ الهجوم السوري، يقترح ديان توجيه ضربة جوية إلى دمشق للضغط على مصر. ومع ذلك، مع نقص الطائرات، فإن سلاح الجو الإسرائيلي غير قادر على المضي قدمًا؛ رداً على ذلك، طلبت غولدا من وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر توفير طائرات فائضة، وهو ما وافق عليه على مضض.
حاول الفيلم من بدايته التلاعب بالمشاهد الغربي والعربي كذلك، لأنه يقدم طرفاً واحداً من القصة، مع تقديم حالة ذهنية مختلفة لحقيقة المرأة القوية التي تقود دولة احتلال، إلى امرأة بسيطة أتعبها المرض والعلاج والتي لم تترك سجائرها حتى في غرفة العمليات التي تصل إليها من ردهة ممتلئة بالقتلى، باكية على قتلى الاحتلال شاغلة الفكر بـ "الأولاد" على الجبهات.
يقدم الفيلم وزير الخارجية الشهير هنري كسنجر على أنه الوسيلة الوحيدة لإسرائيل في أميركا، فلا يذكر جماعات الضغط ولا الشخصيات اليهودية ولا الشركات الضخمة.
يحاول كيسنجر أن يخفض سقف توقعات "غولدا" حيال دعمه لإسرائيل قائلاً: "لا تنسي أنني أميركي أولاً، ووزير خارجية ثانياً، ويهودي في الأخير"، لتجيبه غولدا في مكر: "نحن في إسرائيل نقرأ من اليمين إلى اليسار"، وتسرد عليه قصص قتل الروس لليهود في أوكرانيا، في محاولة لتمريرة سياسية متصلة بالوضع الراهن.
يؤكد فيلم "غولدا" أن سبب الخسارة هو عنصر المفاجأة والدعم السوفييتي الكبير لسوريا ومصر في الحرب، في مقابل دعم متردد أميركي لإسرائيل، رغم أن أحد المشاهد يصوّر قافلة الطائرات الأميركية التي هبّت لنجدة الحليف الإسرائيلي في العملية الشهيرة باسم عشب النيكل (Operation Nickel Grass)، التي لولاها لكانت إسرائيل ربما غير موجودة الآن.
انقلبت المعادلة لصالح إسرائيل خصوصاً في الجبهة السورية والتي لم يعد الفيلم يذكرها، ولم تستطع قوات سوريا تحرير الجولان، في مقابل نجاح القوات المصرية في تحرير أجزاء واسعة من صحراء سيناء
وبعد عام واحد، في عام 1974، أدلت غولدا بشهادتها أمام لجنة أغرانات بشأن سلوكها في الحرب. صرحت بشكل غير رسمي أنه على الرغم من عدم يقينها الأولي، إلا أنها شعرت حقاً أن الحرب كانت مؤكدة. وبعد أربع سنوات، في 8 أكتوبر 1978، ماتت غولدا الممثلة طريحة الفراش وهي تشاهد لقطات لقاء غولدا الحقيقية مع الرئيس المصري أنور السادات قبل عام وتبادل النكات بين الطرفين.
يخبرنا مونولوج الفيلم أن اللجنة برأت غولدا من أي مخالفة وأنها عاشت لترى التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد، أول إجراءات رسمية لعقد اتفاق سلام بين "إسرائيل" ومصر.
في تلك الحرب بلغت خسائر إسرائيل قرابة 2656 قتيلاً، و7250 جريحاً، وتدمير أكثر من 400 دبابة و350 طائرة حربية، في مقابل مقتل 8528 من المدنيين والعسكريين، وجرح 19 ألفاً و549 على الجبهتين المصرية والسورية.
الطوفان القادم من بعيد
بعد خمسين عاماً ويوم، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، خرقت كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة "حماس"، النطاق الأمني الكبير لإسرائيل من "حدودها" الجنوبية، وتسببت بصدمة أكبر ربما من التي عاشتها تل أبيب في حرب 1973.
جاء "طوفان الأقصى"، في يوم سبت أيضاً، لم يكن هناك تحذير قبل 8 ساعات، لم تستعد فرقة غزة المجهزة بأقوى أنواع الأسلحة والدبابات والصواريخ والمراصد والتقنيات.
عاشت إسرائيل أول 8 ساعات من فجر يوم العملية بحالة رعب واستنفار وصفارات إنذار، قتل في خضمها 1400 إسرائيلي بينهم مئات الجنود في حين بلغ عدد المصابين 5007، وأسر أكثر من 200 شخص في أكبر عملية من نوعها بتاريخ المقاومة الفلسطينية منذ عام 1948، ليخرج بعدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو معلناً الحرب على "غزة".
شنت إسرائيل عدواناً هستيرياً على قطاع غزة قتلت خلاله أكثر من 10328 شخصاً أكثر من نصفهم من الأطفال، مستهدفة المستشفيات والجوامع والكنائس والمدارس، وسط حصار ومنع لدخول المساعدات من الجارة مصر، وضوء أخضر أميركي ودولي بحجة الدفاع عن أمنها.
وبالعودة إلى "طوفان الأقصى" كشف موقع "واللا" العبري إن حركة "حماس"، "خدعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية على مدار 18 شهراً، قبل الهجوم المفاجئ مشيراً إلى أن المقاومة، تعمدت نشر معلومات وفيديوهات عن تدريبات عناصرها، إلى حد اعتقاد أجهزة المخابرات الإسرائيلية، أن ما يجري هو تدريبات روتينية.
وأضاف أن هذه الإعلانات "هدفت لتثبيط حواس أجهزة الاستخبارات بشكل خاص، والجيش الإسرائيلي بشكل عام، من أجل الإضرار بيقظة كبار قادة الجيش، الذين تلقوا تقارير حول مجموعة متنوعة من العمليات".
والمختلف في حالة الطوفان، أنها اختراق داخلي يتجاوز الجيش إلى المستوطنات الإسرائيلية التي يبنيها الاحتلال بشكل دائم على أراض جديدة لتوسيع مساحة لا تعترف بها الأمم المتحدة.
وقالت صحيفة "ذى ماركر" الإسرائيلية، إن أكثر من 230 ألف إسرائيلي غادروا إسرائيل منذ عملية "طوفان الأقصى" فيما يعرف بالهجرة العكسية خارج إسرائيل.
وتوقعت الصحيفة في تقريرها ارتفاع أعداد المغادرين مع استمرار الحرب على قطاع غزة، وتصاعد التوترات على الجبهة الشمالية مع لبنان، والمواجهات المتواصلة في الضفة الغربية المحتلة.
قبل نشوب الحرب بأسبوع واحد فقط، حذر أوري بار جوزيف، أستاذ العلاقات الدولية بكلية العلوم السياسية في جامعة حيفا، من أن إسرائيل تواجه تحديات أمنية غير مسبوقة.
هل هو استقراء للمفاجأة؟
ونشرت صحيفة "يسرائيل هايوم" عن بار قوله إن إسرائيل لم تكن مستعدة لحرب أكتوبر (1973) وأعمتها الغطرسة بعد أن انتصرت في عام 1967، موضحاً أن هذا هو السرد السائد الذي يحيط بخطاب الحرب والذي كان واضحاً في فيلم "غولدا" سابق الذكر.
وقال بار: "إنني أنظر إلى القيادة السياسية لعام 1973 ولم أكن معجباً كبيراً بـ رئيسة الوزراء آنذاك غولدا مائير، لكن في نفس الوقت كان من الواضح أنها كانت تهتم أكثر من أي شيء آخر بمصير إسرائيل"، وكأن نتنياهو آخر همه هو "مصير إسرائيل".
وأكد بار أن الثمن الذي دفعته إسرائيل في حرب أكتوبر يعتبر ضئيلاً مقارنة بـ"المواجهة الكبرى" المقبلة التي ستواجهها إسرائيل.
بار جوزيف، الذي كتب العديد من الكتب حول حرب أكتوبر تناول بالتفصيل سيناريو توقع حدوثه في حال حدوث انتفاضة، هو حرب متعددة الجبهات.
وعن ذلك قال بار إنه "في عام 1973 كان بإمكان العرب إطلاق بضعة صواريخ أما الآن، فنحن نتحدث عن ترسانات صواريخ.."، مضيفاً أن "إسرائيل رغم تفوقها العسكري، تواجه حاليا خطر الحرب الذي قد يكون التحدي الأكبر والأغلى لها منذ قيامها عام 48".
وفسر قائلا: "لأن حاليا هناك مجموعة من الأعداء الذين لديهم ترسانة ضخمة من الصواريخ الموجهة لإسرائيل التي لم تتعرض قط لمثل هذه التهديدات كما يحدث اليوم".
والآن بعد هذه العملية والرد الإسرائيلي الوحشي، هل سينجو "نتنياهو" من محاكمة قريبة حينما تضع الحرب أوزارها شبيهة بالتي عاشتها "مائير" وهل يخرج بريئا من تبعاتها مع الأصوات المتزايدة التي تطالب بإسقاطه يومياً لعدم اكتراثه بالأسرى؟
ومهما حاولت إسرائيل أن تستمر في حربها ضد غزة فهناك خسائر كبيرة يعيشها الاحتلال سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مع استمرار مقتل الجنود الذين يحاولون اقتحام غزة برياً من مسافة تقدر بأنها "صفر".