بعد كارثة الزلزال المدمر التي ضربت جنوبي تركيا وشمالي سوريا في شباط الماضي، تصدر المتبرعون الفلسطينيون لائحة العرب الأكثر تبرعاً لإعادة إعمار مناطق الشمال السوري التي دمرها الزلزال في استجابة إنسانية قل نظيرها لشعب لا يصنف من بين الأغنى عربياً أو إسلامياً.
يحمل التضامن السوري الفلسطيني حالة وجدانية كبيرة، يفوق في حجمه واستثنائيته التضامن العربي والإسلامي مع قضاياه وحتى كوارثه، فالتاريخ الواحد المشترك والبعد الجغرافي للأرض الواحدة والمشترك الثقافي والديني والجراح المتجددة ساهمت إلى حد كبير في بناء تعاطف لافت بين الجانبين.
جاء "طوفان الأقصى" وما تبعه من عدوان إسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر تشرين الأول ليشعل في ذاكرة السوريين مظلومية تاريخية فريدة عاشها الفلسطينيون على مدى قرن كامل، كان السوريون إلى جانب الفلسطينيين رفاق سلاح ومتشبكين ميدانيين بفترات مفصلية منها.
ولعل تلك المشاعر بدت جياشة وواضحة المعالم أكثر خلال العقد الماضي بسبب الجراح التي عانى منها السوريون في مواجهة النظام السوري بعد عام 2011، عرفوا خلالها معنى أن تكون مقتولاً وجريحاً ومعتقلاً ومطارداً ومهجراً ولاجئاً.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي ترصد التعاطف السوري الشعبي الواضح لأولئك الذين يعانون الأمرّين في مناطق سيطرة النظام، والمساحة الأكثر اتساعاً وحرية في مناطق الشمال السوري، إلى جانب مشاركة السوريين بشكل فاعل في مختلف الفاعليات بمختلف المدن والعواصم التي وصلوا إليها كلاجئين مع الهبة الكبيرة لجمع المساعدات لسكان غزة المحاصرين.
خاصرة سوريا الجنوبية
بعد نحو عامين على إطلاق وعد "بلفور" بتشكيل وطن قومي لليهود في فلسطين، تشكل المؤتمر السوري الكبير عام 1919 في دمشق تحضيراً للجنة "كينغ كراين" لتقصي الحقائق بشأن مستقبل سوريا (بلاد الشام والتي تضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) بعد سقوط الدولة العثمانية.
مثل هذا المؤتمر أول برلمان سوري يضم 90 عضواً من مختلف أرجاء سوريا الكبرى، وضم أعضاء من القدس ونابلس وحيفا وعكا ويافا، وتلا بيانه الختامي محمد عزة دروزة سكرتير المؤتمر ومندوب نابلس على الجماهير المحتشدة في ساحة المرجة بدمشق في آذار 1920.
كانت فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين مرفوضة من عموم السكان في سوريا الكبرى، وعلى إثر ذلك عيّن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح بباريس عام 1919 لجنة تضم هنري كينغ وتشارلز كراين، لتحمل اسمهما فيما بعد لجنة "كينغ كراين" للوقوف على آراء أبناء سوريا وفلسطين التي تشكل جزءاً منها في مستقبل بلادهم.
طافت هذه اللجنة في مختلف المدن السورية والفلسطينية ما بين 10 حزيران و21 تموز وضعت تقريراً أعلنت فيه أن الأكثرية المطلقة من العرب تطالب بدولة سورية مستقلة استقلالاً كاملاً، وترفض فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
ولقرون طويلة كانت فلسطين جزءاً من سوريا الكبرى أو الخاصرة الجنوبية لها، وفق معظم الدراسات التاريخية منذ الألف الثالثة قبل الميلاد وحتى سقوط الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين.
في حين كانت الحدود التي رسمها اتفاق سايكس بيكو على خريطة المنطقة العربية الخارجة عن سلطة الدولة العثمانية، حدوداً متخيلة في بداياتها، عمل الاستعمار ومن ثم الأنظمة الحاكمة التي خلفتها الدول الغربية خلفها، على ترسيخها إلى زمن بدا التطبيع هو الخطاب الأعلى سقفاً، فتقصف غزة ليلاً ونهاراً، وينشغل آخرون في تنظيم مواسم الغناء والرقص وتوقيع عقود مع شركات عابرة للحدود، شغلها الشاغل هو تمويل الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي تتمايز به الشعوب عن أنظمتها فتدعو للمقاطعة ولكن العجز يبقى سيد الموقف.
"القسام".. أشهر رموز فلسطين من سوريا
في يوم 20 تشرين الثاني / نوفمبر 1935، اندلعت مواجهة بين قوة بريطانية ومجموعة صغيرة من الفلسطينيين المسلحين على تلال قرية يعبد في منطقة جنين، وعلى إثر ذلك الاشتباك الذي استمر لمدة ثلاث ساعات، قتل قائد المجموعة الشيخ عز الدين القسام وأربعة من رجاله، وبعد ذلك أصدرت سلطات الاحتلال البريطاني بياناً وصفت فيه المجموعة بــ "قطاع الطرق"، في الوقت الذي كان فيه للكتاب "الصهاينة" رأي آخر، حيث كتب موشي بيلينسون وهو قائد صهيوني في صحيفة "بالستاين بوست" أن "هؤلاء الأشخاص ليسوا قطاع طرق، لأن أسماء بعضهم ووضعهم الاجتماعي وموقعهم السياسي تحمل شهادة واضحة لانخراط خطباء المساجد، ومديري المدارس ومسؤوليات جمعيات الشبان المسلمين في قطع الطرق. إنهم ليسوا عصابة لصوص لكنهم جسم للإرهاب السياسي أولئك الذين واجهوا السلطات في فلسطين".
ولد محمد عز الدين القسام في مدينة جبلة عام 1883، تلقى تعليمه المبكر في كتّاب جبلة، وفي مستهل القرن العشرين أرسله والده إلى الأزهر في القاهرة لدراسة المرحلة الجامعية، وتشير العديد من المصادر إلى أنه التقى بالشيخ الإصلاحي محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، إلى جانب صداقته القوية بصديق الدراسة "عز الدين التنوخي".
اتبع القسام خطاً إصلاحياً إحيائياً بعد عودته من مصر إلى جبلة إماماً لمسجد إبراهيم بن الأدهم، من دون اصطدام مباشر مع الطريقة القادرية التي كانت تسيطر على الجو العام في المدينة الساحلية.
برز القسّام بداية مع حصار إيطاليا لطرابلس الليبية عام 1911، حيث بدأ يحشد لنصرة أهلها وتجنيد الشباب للدفاع عنها بتنسيق مباشر مع السلطات العثمانية حينئذ.
وبعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال الساحل السوري من قبل الفرنسيين عام 1918، كان عز الدين القسام أول من رفع راية مقاومة فرنسا في تلك المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجهها.
وبعد مشوار طويل من القتال ضد الفرنسيين والتحشيد ضدهم حُكم عليه بالإعدام غيابياً، فانتقل إلى دمشق ومنها إلى حيفا، لتبدأ رحلته العالمية من هناك.
بعد سنوات قليلة من الإقامة في حيفا بدأ القسام الإعداد للقتال ضد الإنكليز، معتبراً أنهم الممهد الأساس لتمكين "العصابات اليهودية" من تشكيل وطن قومي لهم، وأطلق ثورته المسلحة بعد العمل على تشكيل تنظيم سري يضم نخبة من أصدقائه وطلابه.
وأدى ذلك فيما بعد إلى انتفاضة وطنية قام بها الفلسطينيون ضد الإدارة البريطانية للولاية الفلسطينية، مطالبين بالاستقلال، وإنهاء سياسة الهجرة اليهودية المفتوحة، وشراء الأراضي، والهدف المعلن المتمثل في إنشاء "وطن قومي يهودي" استمرت بين عامي 1936 و1939.
نكبة ونكسات
في عام 1948 حدثت نكبة فلسطين، أنهت بريطانيا احتلالها رسمياً لفلسطين، وسلمتها للجماعات اليهودية بشكل رسمي بعد تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة وتهجير أكثر من نصف الشعب وارتكاب مجازر هائلة بحق الفلسطينيين وإعلان قيام دولة الاحتلال.
وفي العام نفسه، أرسلت الجامعة العربية 7 جيوش عربية إضافة إلى عشرات آلاف المتطوعين وبالطبع من بينهم آلاف السوريين الذين كان يقودهم مصطفى السباعي.
هزمت الجيوش العربية وفشلت في تحرير فلسطين، خصوصاً مع قيادة القوات الأردنية من قبل جنرالات بريطانية، وعدم خبرة الجيوش العربية ثم الموافقة على وقف إطلاق نار بقرار من مجلس الأمن الدولي تسبب بالحفاظ على الأمر الواقع.
في 7 آذار 1949 وصّى مجلس الأمن بقبول إسرائيل عضواً كاملاً في الأمم المتحدة وفي 11 أيار 1949 أقرت الجمعية العامة هذه التوصية.
تشرد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني خارج أرضه التاريخية، فيما عُرف لاحقاً بالشتات الفلسطيني، وخصوصاً بدول الطوق، سوريا والأردن ولبنان ومصر، وبلغ عدد المخيمات الفلسطينية في سوريا حتى عام 2011، 12 مخيماً، بينها 3 غير رسمية.
وزاد عدد اللاجئين الفلسطينيين مع نكسة عام 1967 التي خسر فيها السوريون الجولان وأجزاء من القنيطرة وقتل 2500 سوري إثر قرار الانسحاب الذي أعلنه حافظ الأسد بشكل مفاجئ.
ولم يتحسن الوضع إلى الأفضل كثيراً مع نصر "أكتوبر" تشرين الأول 1973 مع مقتل 3000 سوري وجرح نحو 20 ألفاً، حيث لم يعد الفلسطينيون إلى أراضيهم وبقيت معظم الأراضي السورية التي احتلتها إسرائيل بيدها (باستثناء أجزاء من سيناء على الجبهة المصرية)، ولم يطلق بعدها أي رصاصة من قبل النظام السوري باتجاه الجولان.
في سوريا عاش الفلسطينيون وضعاً جيداً نسبياً مقارنة مع دول عربية أخرى، شهدت صراعات مسلحة مباشرة، كما حصل اندماج شعبي سوري فلسطيني استثنائي خلال عقود طويلة من العيش المشترك وتشكيل القرابات وانتقال كثيرين من المخيمات إلى حواضر المدن.
وفي خضم ذلك لم تنشأ "مسألة فلسطينية" في سوريا، كما في بلدان عربية أخرى، وإن عمل النظام السوري بقيادة حافظ الأسد على استخدام القضية الفلسطينية وبعض فصائلها لصالحه، فتدخل في لبنان ولاحق الفصائل الفلسطينية واعتقل كوادرها عبر فرع الأمن العسكري سيئ السمعة "فرع فلسطين".
وحتى آذار 2011، كان عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا يزيد على 570 ألفاً، بحسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، قرابة 48 في المئة منهم عاشوا في المخيّمات، والبقية داخل المجتمعات السورية، أو في تجمعات فلسطينية على أطراف المدن.
الفلسطينيون والثورة السورية
وقف عدد كبير من الفلسطينيين السوريين مع الثورة السورية، ورغم مساندة بعض الفصائل الفلسطينية للنظام وقتالها معه، فإن النظام حاصر المخيمات وجوّعها وقصفها من البر والجو والبحر، في الوقت الذي رفضت فيه حركة حماس التي كانت تقيم في دمشق دعم النظام السوري في مشاركته الحرب ضد السوريين وغادرت سوريا.
وفي تصريح يوضح الموقف الحقيقي للنظام السوري من القضية الفلسطينية، قال المتحدث باسم خارجية النظام السوري جهاد مقدسي عام 2011، إن الفلسطينيين اللاجئين في سوريا هم بمنزلة ضيوف يسيئون الأدب، مما يفضح شعارات النظام بخصوص القومية العربية التي تاجر بها لأربعين عاماً.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل 3207 لاجئين فلسطينيين، على يد قوات النظام السوري، خلال الفترة من آذار 2011 وحتى تشرين الأول 2022، إضافة إلى 2721 ما يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري.
ومن المرجح أن وجود سوريا على حدود الاحتلال الإسرائيلي صعب قضية الثورة السورية في إسقاط النظام والعمل على بناء دولة وطنية بنظام ديمقراطي.
فبعد أن استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي على الغوطة الشرقية في آب 2013، بدا هناك فرصة لإسرائيل، استدعى على إثرها وزير المخابرات الإسرائيلي يوفال شتاينتز السفير الروسي إلى مكتبه وقال له: "لقد أصبحت مصدر إحراج لكم لماذا لا تجبرون سوريا على التخلص منها". بينما كان باراك أوباما يبحث عن الدعم للرد على تجاوز النظام لخطه الأحمر نقل رجل أعمال إسرائيلي فكرة التخلص من الكيماوي إلى البيت الأبيض. ليختفي بعد ذلك أثر الإسرائيليين في تفاصيل الصفقة التي حولت المسار من ضربة قد تنهي النظام إلى اتفاقية تتخلّص من أسلحته الكيماوية فيما عُرف لاحقاً بصفقة "كيري لافروف" (ولتفاصيل تلك الصفقة يمكن قراءة تقرير الصفقة السورية الممكنة)
طوفان الأقصى
بعد سنوات من القطيعة بين النظام السوري وحركة حماس بسبب الموقف من الثورة السورية، ضغطت إيران حليفة حركة حماس باتجاه إعادة العلاقات ونجحت في ذلك ليعلن ذلك رسمياً في تاريخ 15 أيلول 2022، رغم إصرار النظام السوري على إهانة كوادر الحركة.
ورغم أن هذا التوجه لا يوجد له أي مبرر لدى السوريين خصوصاً الذين هجرهم النظام السوري إلى جانب الفلسطينيين السوريين من بيوتهم ومدنهم، فإنه في المقابل لم يكن لدى "حماس" أي مشاركة في قتل السوريين كما فعل حزب الله اللبناني أو ميليشيات أخرى مدعومة من إيران.
تأسست حركة حماس رسمياً، عام 1987 بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى بقيادة الشيخ أحمد ياسين، متأثرة بجماعة الإخوان المسلمين، بهدف تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، وكان لديها ذراع عسكرية تحمل اسم "المجاهدون الفلسطينيون".
وفي عام 1991، اختارت "حماس" اسم "كتائب الشهيد عز الدين القسام" اسماً لجهازها العسكري، تتمركز الكتائب في قطاع غزة ولها وجود في الضفة الغربية ولبنان.
وفي 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أعادت عملية "طوفان الأقصى" بقيادة كتائب القسام، القضية الفلسطينية إلى صدارة المشاهد كلها، عربياً وإسلامياً ودولياً، فالقضية الفلسطينية ليست إيرانية، في ظل التأكيد على أن العملية كانت بقرار خاص لكتائب القسام الذراع العسكرية لحماس.
سارعت إيران إلى نفي مشاركتها في التخطيط لـ "طوفان الأقصى" على لسان مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ولم يكن لحزب الله أي علم أيضاً، وبالطبع النظام السوري خارج المعادلة كلياً.
وعلى مدار ما يقارب الشهر، عاش قطاع غزة ظروفاً إنسانية شديدة الصعوبة مع مقتل أكثر من 9 آلاف فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء، لم تقم إيران بأي إجراء ملموس لوقف المجازر المرتكبة بحق سكان القطاع المحاصر، والحال نفسه بالنسبة لأعضاء المحور حزب الله والنظام السوري.
وبالعودة إلى الجذور السورية للقضية الفلسطينية، لا بد من الإشارة إلى أن المعاناة السورية متصلة بالمعاناة الفلسطينية، من الناحية السياسية والعسكرية والاجتماعية، فوجود إسرائيل سبب أساسي في صعوبة معركة السوريين للتخلص من الاستبداد، ووجود النظام السوري والأنظمة الشبيهة في مصر وغيرها من الدول يصعب على الفلسطينيين التخلص من الاحتلال للحصار المفروض من كل جهة.