في عصر المعلومات تزداد صعوبة استخدام العبارة الشائعة «يسد فراغاً» لوصف أحد الكتب. غير أننا يمكن أن نطلقها، بضمير مرتاح، عند الحديث عن «نشأة الشرطة وتاريخها في سورية» الذي ألّفه العقيد المتقاعد إبراهيم غازي ونشره، أولاً، في طبعة لم تلق رواجاً واسعاً، قبل صدوره، في العام 2023، عن دار «خواطر» السورية المهاجرة إلى إسطنبول.
ولد الكاتب سنة 1924 في دمشق حيث تخرج في مدرسة ضباط الشرطة. كما تخرج في كلية هندن لضباط المباحث الجنائية في لندن، واتبع دورات تدريبية لدى الشرطة البريطانية «سكوتلاند يارد»، وتلقى منهجاً في مخابر الطب الشرعي بنوتنغهام. ثم حاز شهادة عليا في العلوم التطبيقية الجنائية من شيكاغو بأميركا. شارك في عدد من مؤتمرات الشرطة الجنائية العالمية (الإنتربول) والشرطة الجنائية العربية وقدّم فيها بحوثاً. كتب مقالات في مجلات متخصصة. وقبل كتابه هذا صدر له من المؤلفات: «التحقيقات والأدلة الجنائية» و«علم البصمات» و«مرشد المحقق» و«التزييف والتزوير» وسواها. قضى أكثر سنوات خدمته في مرحلة بناء الدولة الوطنية إثر الاستقلال، لا في حقبة إدارة المزرعة بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة في عام 1970. وربما لهذا السبب يتوقف كتابه عند تلك السنة.
وإذا تجاوزنا المداخل التي يعرض فيها تاريخ الشرطة عبر العصور نجد أن أولى الأنظمة الحديثة لهذا الجهاز في بلاد الشام كانت، كما غالباً، مع الحكم المصري القصير الذي قاده إبراهيم بن محمد علي باشا قبيل منتصف القرن التاسع عشر. ثم تجدد مع إصلاحات السلطان العثماني محمود الثاني، الذي أنشأ جهازاً جديداً للأمن العام تألف من الشرطة المدنية التي كانت مسؤولة عن حفظ النظام في المدن، والضبطية (الدرك أو الجندرمة) التي عهدت إليها مسؤولية ذلك الأرياف قبل أن تمارس سلطاتها في المدن والأرياف معاً. وعندما تولى ابنه السلطان عبد المجيد الأول أقرّ هذه التشكيلات وأدخلها في صلب «التنظيمات» التي أصدرها وكانت أساس تحديث الدولة العثمانية.
في سوريا ينسب تاريخ تشكيل جهاز الشرطة وفق الطرق الحديثة إلى الوالي الإصلاحي مدحت باشا الذي أصدر الأنظمة والتعليمات الخاصة بها ووضع الأسس لرفع مستواها
وأنشئت في الأستانا مدرسة لتخريج رجال شرطة مؤهلين، وافتتحت في بيروت مدرسة أخرى لتدريس شرطة ولايات سوريا. كما صدرت مجلة «مجموعة القوانين» الخاصة بتثقيف أعضاء هذا السلك. وحرصت الحكومة العثمانية على إرسال بعثات من ضباط الشرطة إلى أوروبا للاطلاع على أساليب التدريب الحديثة وآخر المنجزات في ميدان مكافحة الجريمة، أملاً في أن تحاكي الشرطة العثمانية نظيراتها في الغرب. لكن كل ذلك تراجع بشدة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أدت في النهاية إلى سقوط السلطنة.
في سوريا ينسب تاريخ تشكيل جهاز الشرطة وفق الطرق الحديثة إلى الوالي الإصلاحي مدحت باشا الذي أصدر الأنظمة والتعليمات الخاصة بها ووضع الأسس لرفع مستواها. ثم ورث الحكم العربي، بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، جهاز أمن مهلهلاً نتيجة الفراغ الذي أحدثه انسحاب الضباط والأفراد الأتراك بعد الحرب. ولم تتح الفرصة لتلافي ذلك حتى كانت القوات الفرنسية تقرع أبواب العاصمة. وبعد استيلائهم عليها فرضوا نزع سلاح الجيش السوري الوليد وتحويله إلى قوى أمن داخلي. وبتنفيذ هذا الشرط لم تعد البلاد تملك إلا مفارز رجال الشرطة في المدن، وعدداً قليلاً من رجال الدرك في الأرياف، إلى جانب الحراس الليليين في الأحياء.
وقد نص صك الانتداب على ألا تؤلف هذه القوى إلا من السكان المحليين، وأن يديرها مدير الأمن العام المقيم في المفوضية الفرنسية بدمشق. وقد تعاقب على منصب المدير العام للشرطة عدد من المدنيين والعسكريين كان أولهم، وربما أعمقهم أثراً، حمدي الجلاد، وبهيج الخطيب، وواثق وصفوح المؤيد العظم، ونافع القدسي، والعقيد إبراهيم قصاب حسن، والدكتور عبد الكريم العائدي طبيب الأسنان الذي احترف العمل العام.
يروي المؤلف أن بعض العائلات البرجوازية كانوا يقبلون على الانتساب إلى الشرطة للمحافظة على مكانتهم. ولم يكن من المستبعد آنذاك وجود عدد من الإخوة أو أبناء العم في السلك، من عائلات العابد والعظم والقوتلي والأيوبي والطباع والأسطواني وأجليقين في دمشق ومثلهم في حلب وحمص وحماة واللاذقية والمدن الأخرى. وكان هؤلاء يتعاونون مع وجهاء الأحياء لملاحقة مرتكبي الجرائم الجنائية، وكثيراً ما كان رؤساء المخافر يستخدمون نفوذهم لفض النزاعات فلا يصل منها إلى القضاء إلا القليل.
وقد سبقت مرحلة الاستقلال وواكبتها مراسيم تشريعية حددت، أخيراً، نظام الشرطة والأمن، وواجبات وحقوق أفرادهما، وعلاقتهما بمختلف الجهات الرسمية، بعد أن كان ذلك يستند إلى مجموعة من القرارات المرتجلة المتناقضة.
ثم اعتنت الحكومات الوطنية بتطوير قوى الشرطة والأمن وزيادة عددها. واتخذت عدداً من الإجراءات في سبيل ذلك؛ كبناء مخافر نموذجية مستوفية للشروط الصحية في داخل البلاد وعلى حدودها، وإنشاء مصلحة الأدلة القضائية وتزويدها بأجهزة فنية حديثة، وإحداث مصلحة للآليات مزودة بالسيارات والدراجات النارية وصيانتها، وتحسين وسائل الاتصالات المباشرة وبعيدة المدى وتزويد الدوريات بأجهزة اتصال سريع، وإحداث مدارس لتخريج ضباط ورقباء وأفراد الشرطة والأمن العام، وإقامة دورات تخصصية، وإيفاد البعثات إلى الدول المتقدمة للدراسة والتدريب والاطلاع. وفي هذا السياق يذكر الكتاب إنكلترا وأميركا وفرنسا وإيطاليا.
أما مع الوحدة السورية المصرية (1958-1961) فدرس عدد من الضباط اللاحقين في مدرسة الشرطة بالقاهرة. وبعد استيلاء حزب البعث على السلطة، في آذار 1963، يلاحظ تولي ثلاثة من ضباط الجيش منصب مدير الشرطة. وهو ما سبقهم إليهم كل من القائدين الانقلابيين حسني الزعيم وأديب الشيشكلي.
الكتاب زاخر بالتفاصيل. وقد زوّده المؤلف بعدد كبير من الصور التوثيقة الممتعة، ونظّم جداول بأسماء من تولى أبرز المناصب في جهاز الشرطة، وأورد ما أمكنه من التعريف بهم، حتى عام 1970. معتذراً بأن المتابعة بعد ذلك تحتاج «إلى حيز كبير وجهد لجمع المعطيات». وهي كذلك بالفعل مع انحدار الجهاز في ظل بعض مشاهير وزراء الداخلية الأمنيين والفاسدين في عهد الأسدين، كعدنان دباغ ومحمد حربة وغازي كنعان ومحمد الشعار.
وإذا كان لنا أن نسدّ غياب المعلومات بالدراما الذائعة التي رسمها مؤلفان نابهان؛ هما محمد الماغوط في مسلسل «حكايا الليل» الرائد في مسيرة التلفزيون السوري، وممدوح حمادة في مسلسل «ضيعة ضايعة» الشهير؛ أمكننا أن نلحظ الفوارق بين شخصية «أبو العز» في الأول، شرطي الحارة المخلص المحبوب وأحد معالمها الرؤومة التي تشكّل جزءاً عضوياً منها يسعى إلى حل مشكلاتها المتنوعة، وبين شخصية رئيس المخفر «أبو نادر» في الثاني، التي اتسمت بالتعسف المهزوز في استخدام السلطة، ورخص المكاسب.. وقلة القيمة.