تباين عبر العصور تفاعل الشاعر مع السلطة، واختلفت وتيرته؛ التي تحكمت فيها الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية بالإضافة إلى سيكولوجية الشاعر نفسها، التي من المفترض أنها تؤمن بالمثل العليا والقيم الإنسانية بالدرجة الأولى، ما يضعها على النقيض من السلطة، أو على الأقل التزام الشاعر بمبادئ ورؤى ثابتة تجعله مناوئا للطغيان بكل أشكاله.
ينطبق هذا أيضًا على المثقف بشكل عام. كما يأخذ سلوك السلطة حيزًا في تشكيل هذه العلاقة المتخذة أشكالًا عدة، فالسلطة غالبًا ما تمتلك خيوطًا تحرك فيها ألسنة الشعراء بما يتناسب مع سياساتها، ترغيبًا وترهيبًا. فالسلطة بهذا الدور لجأت إلى إحدى وسيلتين: الاحتواء أو الإقصاء منذ العصر الجاهلي إلى الآن.
شاعر البلاط
كثيرة هي الدراسات التي تناولت هذا الجانب من سلوكيات الشاعر، وقد اتفقت معظمها على وجوده منذ القدم، منذ تبلور السلطة في أشكالها المعروفة. وإن عدنا تاريخيًا لرصد هذه الحالة -في المشهد الأدبي العربي- سنجد إجماع معظم مؤرخي الأدب على أن "النابغة الذبياني هو أول من بحث عن السلطة في قوتها وعظمتها، وسيّر شعره مادحًا مبالغًا للكسب والعطاء. وبالرغم من أنه كان عظيمًا في قبيلته، فإنه ينسب إليه أنه أول شاعر تكسّب بشعره فكثر ماله... ولُقّب بشاعر البلاط[1]".
ولم يكن "الذبياني" الوحيد في عصره ذاك من تزلف للسلطة وأصحاب الشأن، فقد أخذت الحالة بالتبلور شيئًا فشيئًا؛ ففي العصر الأموي وصلت الحالة ذروتها حين اتخذ كل فريق سياسي آنذاك شاعرًا ينطق باسمه، فها هو جرير يعظّم من شخصية الخليفة عبد الملك بن مروان بأن يجعله أكرم وأشجع الناس، حين قال:
"ألـَسْتُم خَير مَنْ ركب المطايا وأندى العالمين بطونَ راحٍ"
وفي العصر العباسي بلغت مبلغًا كبيرًا، فتطورت مع تطور الجملة والخطاب الشعريين، كما تمايزت وتميزت خطابات المدح حينذاك إلى أن وصلت حد التنافس بين الشعراء لنيل رضا السلطة، ونستذكر من مديح تلك الحقبة؛ "قصيدة المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني" و"قصيدة البحتري في مدح المتوكل" وغيرهما الكثير.
وفي هذا الشأن نستذكر أيضًا حالة الازدواجية التي نهجها بعض شعراء تلك المرحلة، كالمتنبي أيضاً، فنجد أنه وفي رحلة بحثه عن السلطة، اتخذ مواقفَ متناقضة حين امتدح سلطةً وذم أخرى، أو امتدح السلطة ثم ذمّها، كما حدث مع حاكم مصر كافور الإخشيدي الذي قال في مديحه:
"قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ | وَمَن قَصَدَ البَحرَ اِستَقَلّ السَواقِيا" |
ثم ما لبث أن هجاه في قصيدة أخرى قال فيها:
صار الخصي إمام الآبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبود
كما أن هناك أمثلة عديدة عن ازدواجية تعاطي الشاعر مع السلطة وخصوصًا في المراحل المتقدمة؛ لتنتشر في وقتنا الحالي على نطاق أوسع. فاليوم نرى بوضوح تعاطي المثقفين بازدواجية مقيتة مع السلطة في بلداننا العربية عمومًا وبلدان الربيع العربي على وجه الخصوص، مع العلم باستبداد تلك السلطة، بمراجعة بسيطة لقيم العدالة والحرية.
فهناك من يرى أن لغة السلطات المعاصرة ليس التكميم أو المنع. إنما هو "المال". والمنع هو المال. والسلطة الأخرى هي الإعلام، وقد استمرت الخطابات الموجهة لأصحاب الشأن إلى يومنا هذا، على الرغم من ظهور حركات التحرر وتبني المثقف للقضايا الوطنية قبل مرحلة الحداثة وبعدها.
وهنا تبرز تساؤلات كثيرة عن الدوافع التي تسيّر الشاعر خصوصًا والمثقف بشكل عام على المضي في هذا النهج.
الشاعر المتمرد
عُرف عن الشعر أنه حالة تمرد على الواقع واللغة، "فالشاعر إن لم يجد ما يتمرد عليه فإنه يتمرد على الشعر نفسه"[2]. كما عُرف عن الشاعر انتصاره للقضايا الإنسانية، ونزوعه نحو التحرر وإحقاق العدل.
والتمرد يعني هنا؛ وقوف المثقف في وجه الظلم المتمثل بسلطة أو احتلال أو استبداد أيًا كان شكله ومنفذه، وقد يعرّف بطريقة أخرى بمعنى "الصعلكة" وهذا مسار آخر لسنا بصدد الخوض فيه. وإذا أردنا استحضار أمثلة في هذا الشأن فهي كثيرة عبر التاريخ، فأولهم كان طرفة بن العبد الذي رفض مدح ملك الحيرة، لكن أبزر حالة رفض في العصر الجاهلي كانت عند الشعراء الصعاليك، حين رفضوا نظام القبيلة وسلطتها؛ ولم يعترفوا إلا بنظم المساواة والإنسانية، وأما أبو العلاء المعري في العصر العباسي فقد أدرك وهو في بغداد أن التقرّب من الحكام والأمراء خطأ كبير، بل ربما يكون قاتلًا. لذلك احتقر أولئك الشعراء الذين كانوا يتمسّحون بأعتاب هؤلاء، ويدبجون القصائد "العصماء" في تمجيدهم وتكريمهم. وهكذا ترك عاصمة الخلافة غير آسف مفضلًا أن يمضي بقية العمر في العزلة والصمت، مُتَقَصيًّا حقائق الوجود.
أما في عصرنا هذا فقد أصبحت ثنائية السلطة والحرية إحدى الثنائيات الأساسية عند الشعراء للتعبير عن رفضهم للواقع العربي المخزي؛ كما نرى عند نزار قباني وأحمد مطر، ومحمد الماغوط، وسعدي يوسف وأمل دنقل الذي يقول:
"أبانا الذي في المباحث كيف تموت / وأغنية الثورة الأبدية ليست تموت"
شاعر الحياد
لا خلاف على أن شعراء هذه الطبقة -إن جاز تصنيفهم هكذا- هم الفئة الأكثر وجودًا عبر العصور وحتى يومنا، ويرجع حيادهم في الغالب إلى دوافع عدة تحتاج شرحًا مطولًا، وقد يكون الخوف على مركز أو حياة أو مادة، أحد هذه الدوافع. وربما يساهم غياب القضايا الكبيرة بتشكيل هذا المنحى. وقد تتسم شخصيته الضبابية بسمات عديدة؛ ومنها حب الذات كما عند دعبل الخزاعي قديمًا والذي لم يقف بباب خليفة أو أمير وعاش لشعره ولحياته فقط، وأعجب بنفسه ومدحها كثيرًا حين قال:
"إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا".